[ ص: 78 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=61ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=61ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون )
نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطبا معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=56ياعبادي الذين آمنوا ) وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشادا للمشرك بحيث يسمعه ، وهذا طريق في غاية الحسن ، فإن السيد إذا كان له عبدان ، أو الوالد إذا كان له ولدان وأحدهما رشيد والآخر مفسد ، ينصح أولا المفسد ، فإن لم يسمع يقول معرضا عنه ، ملتفتا إلى الرشيد : إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ، ولا تكن مثل هذا المفسد ، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد ، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب يوجب نكاية في قلبه ، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه : إن هذا أخاك العجيب منه أنه يعلم قبح فعله ، ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده ، يكون هذا الكلام أيضا داعيا له إلى سبيل الرشاد مانعا له من ذلك الفساد ، فكذلك الله تعالى قال مع المؤمن : العجب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ثم لا يؤمنون .
وفي الآية لطائف :
إحداها : ذكر في السماوات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير ، وذلك لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=32440_32441الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء ، فإذا الحكمة في تحريكهما وتسخيرهما .
الثانية : في لفظ التسخير ، وذلك لأن التحريك يدل على مجرد الحركة وليس مجرد الحركة كافيا ; لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك بألوف من السنين ، فالحكمة في تسخيرهما تحركهما في قدر ما يتنفس الإنسان آلافا من الفراسخ ، ثم لم يجعل لهما حركة واحدة بل حركات ، إحداها حركتها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة ، والأخرى حركتها من المغرب إلى المشرق ، والدليل عليها أن الهلال يرى في جانب الغرب على بعد مخصوص من الشمس ، ثم يبعد منه إلى جانب الشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشمس ، والشمس على أفق المغرب ، والقمر على أفق المشرق ، وحركة أخرى حركة الأوج وحركة المائل والتدوير في القمر ، ولولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول .
ثم اعلم أن أصحاب الهيئة قالوا :
nindex.php?page=treesubj&link=32441الشمس في الفلك مركوزة والفلك يديرها بدورانه ، وأنكره المفسرون الظاهريون ، ونحن نقول لا بعد في ذلك إن لم يقولوا بالطبيعة ، فإن الله تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما في الفلك والفلك ساكن يجوز ، وإن أراد أن يحركهما بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر ، وسنذكر تمام البحث في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=40وكل في فلك يسبحون ) [ يس : 40] .
الثالثة : ذكر أمرين أحدهما
nindex.php?page=treesubj&link=31756خلق السماوات والأرض ، والآخر تسخير الشمس والقمر ; لأن الإيجاد قد يكون للذوات وقد يكون للصفات ، فخلق السماوات والأرض إشارة إلى إيجاد الذوات ، وتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إيجاد الصفات وهي الحركة وغيرها ، فكأنه ذكر من القبيلين مثالين ، ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=61فأنى يؤفكون ) يعني هم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله ، مع أن من علمت عظمته وجبت خدمته ، ولا عظمة فوق عظمة خالق السماوات والأرض ، ولا حقارة فوق حقارة الجماد ; لأن الجماد
[ ص: 79 ] دون الحيوان ، والحيوان دون الإنسان ، والإنسان دون سكان السماوات فكيف يتركون عبادة أعظم الموجودات ويشتغلون بعبادات أخس الموجودات .
[ ص: 78 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=61وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=61وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )
نَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ الْأَمْرَ لِلْمُشْرِكِ مُخَاطِبًا مَعَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَخَاطَبَ الْمُؤْمِنَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=56يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ) وَأَتَمَّ الْكَلَامَ مَعَهُ ذَكَرَ مَعَهُ مَا يَكُونُ إِرْشَادًا لِلْمُشْرِكِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ ، وَهَذَا طَرِيقٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ ، أَوِ الْوَالِدَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدَانِ وَأَحَدُهُمَا رَشِيدٌ وَالْآخَرُ مُفْسِدٌ ، يَنْصَحُ أَوَّلًا الْمُفْسِدَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ يَقُولُ مُعْرِضًا عَنْهُ ، مُلْتَفِتًا إِلَى الرَّشِيدِ : إِنَّ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْخِطَابَ فَاسْمَعْ أَنْتَ ، وَلَا تَكُنْ مِثْلَ هَذَا الْمُفْسِدِ ، فَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْكَلَامُ نَصِيحَةَ الْمُصْلِحِ وَزَجْرَ الْمُفْسِدِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْخِطَابَ يُوجِبُ نِكَايَةً فِي قَلْبِهِ ، ثُمَّ إِذَا ذَكَرَ مَعَ الْمُصْلِحِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَالْمُفْسِدُ يَسْمَعُهُ : إِنَّ هَذَا أَخَاكَ الْعَجِيبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ قُبْحَ فِعْلِهِ ، وَيَعْرِفُ الْفَسَادَ مِنَ الصَّلَاحِ وَسَبِيلَ الرَّشَادِ وَالْفَلَاحِ وَيَشْتَغِلُ بِضِدِّهِ ، يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا دَاعِيًا لَهُ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ مَانِعًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَعَ الْمُؤْمِنِ : الْعَجَبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُونَ .
وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ :
إِحْدَاهَا : ذَكَرَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْخَلْقَ ، وَفِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ التَّسْخِيرَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُجَرَّدَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ حِكْمَةً ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32440_32441الشَّمْسَ لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً بِحَيْثُ تَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا تَتَحَرَّكُ مَا حَصَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا الصَّيْفُ وَلَا الشِّتَاءُ ، فَإِذًا الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيكِهِمَا وَتَسْخِيرِهِمَا .
الثَّانِيَةُ : فِي لَفْظِ التَّسْخِيرِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيكَ يَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَرَكَةِ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْحَرَكَةِ كَافِيًا ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَتَحَرَّكُ مِثْلَ حَرَكَتِنَا لَمَا كَانَتْ تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ ، فَالْحِكْمَةُ فِي تَسْخِيرِهِمَا تَحَرُّكُهُمَا فِي قَدْرِ مَا يَتَنَفَّسُ الْإِنْسَانُ آلَافًا مِنَ الْفَرَاسِخِ ، ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا حَرَكَةً وَاحِدَةً بَلْ حَرَكَاتٍ ، إِحْدَاهَا حَرَكَتُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَرَّةً ، وَالْأُخْرَى حَرَكَتُهَا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنَّ الْهِلَالَ يُرَى فِي جَانِبِ الْغَرْبِ عَلَى بُعْدٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الشَّمْسِ ، ثُمَّ يَبْعُدُ مِنْهُ إِلَى جَانِبِ الشَّرْقِ حَتَّى يُرَى الْقَمَرُ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ ، وَالشَّمْسُ عَلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ ، وَالْقَمَرُ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ ، وَحَرَكَةٌ أُخْرَى حَرَكَةُ الْأَوْجِ وَحَرَكَةُ الْمَائِلِ وَالتَّدْوِيرِ فِي الْقَمَرِ ، وَلَوْلَا الْحَرَكَةُ الَّتِي مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ لَمَا حَصَلَتِ الْفُصُولُ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ قَالُوا :
nindex.php?page=treesubj&link=32441الشَّمْسُ فِي الْفَلَكِ مَرْكُوزَةٌ وَالْفَلَكُ يُدِيرُهَا بِدَوَرَانِهِ ، وَأَنْكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ الظَّاهِرِيُّونَ ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَقُولُوا بِالطَّبِيعَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَاعِلٌ مُخْتَارٌ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَهُمَا فِي الْفَلَكِ وَالْفَلَكُ سَاكِنٌ يَجُوزُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَهُمَا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ وَهُمَا سَاكِنَانِ يَجُوزُ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ أَوْ ظَاهِرٌ ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ الْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=40وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) [ يس : 40] .
الثَّالِثَةُ : ذَكَرَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا
nindex.php?page=treesubj&link=31756خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَالْآخَرُ تَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ; لِأَنَّ الْإِيجَادَ قَدْ يَكُونُ لِلذَّوَاتِ وَقَدْ يَكُونُ لِلصِّفَاتِ ، فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الذَّوَاتِ ، وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الصِّفَاتِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ وَغَيْرُهَا ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ مِثَالَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=61فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) يَعْنِي هُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ، مَعَ أَنَّ مَنْ عُلِمَتْ عَظَمَتُهُ وَجَبَتْ خِدْمَتُهُ ، وَلَا عَظَمَةَ فَوْقَ عَظَمَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَا حَقَارَةَ فَوْقَ حَقَارَةِ الْجَمَادِ ; لِأَنَّ الْجَمَادَ
[ ص: 79 ] دُونَ الْحَيَوَانِ ، وَالْحَيَوَانُ دُونَ الْإِنْسَانِ ، وَالْإِنْسَانُ دُونَ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ عِبَادَةَ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَاتِ أَخَسِّ الْمَوْجُودَاتِ .