(
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون )
لما ذكر الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4الله الذي خلق السماوات والأرض ) “ الله “ مبتدأ وخبره “ الذي خلق “ يعني
nindex.php?page=treesubj&link=28658الله هو الذي خلق السماوات والأرض ولم يخلقهما إلا واحد فلا إله إلا واحد ، وقد ذكرنا أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4في ستة أيام ) إشارة إلى ستة أحوال في نظر الناظرين ; وذلك لأن السماوات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ، ولكل واحد منها ذات وصفة ، فنظرا إلى خلقه ذات السماوات حالة ، ونظرا إلى خلقه صفاتها أخرى ، ونظرا إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك ، ونظرا إلى ذوات ما بينهما ، وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال ، وإنما ذكر الأيام ; لأن الإنسان إذا نظر إلى الخلق رآه فعلا ،
[ ص: 147 ] والفعل ظرفه الزمان ، والأيام أشهر الأزمنة ، وإلا فقبل السماوات لم يكن ليل ولا نهار ، وهذا مثل ما يقول القائل لغيره :
إن يوما ولدت فيه كان يوما مباركا
وقد يجوز أن يكون ذلك قد ولد ليلا ولا يخرج عن مراده ; لأن المراد هو الزمان الذي هو ظرف ولادته .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4ثم استوى على العرش ) اعلم أن مذهب العلماء في هذه الآية وأمثالها على وجهين .
أحدهما : ترك التعرض إلى بيان المراد .
وثانيهما : التعرض إليه . والأول أسلم وإلى الحكمة أقرب ، أما أنه أسلم ; فذلك لأن من قال أنا لا أتعرض إلى بيان هذا ولا أعرف المراد من هذا ، لا يكون حاله إلا حال من يتكلم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئا ، لم يجب عليه أن يعلمه ; وذلك لأن الأصول ثلاثة : التوحيد والقول بالحشر والاعتراف بالرسل . لكن الحشر أجمعنا واتفقنا أن العلم به واجب ، والعلم بتفصيله أنه متى يكون غير واجب ، ولهذا قال تعالى في آخر السورة المتقدمة (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=34إن الله عنده علم الساعة ) [ لقمان : 34 ] فكذلك الله
nindex.php?page=treesubj&link=29626يجب معرفة وجوده ووحدانيته واتصافه بصفات الجلال ونعوت الكمال على سبيل الإجمال وتعاليه عن وصمات الإمكان وصفات النقصان ، ولا يجب أن يعلم جميع صفاته كما هي ،
nindex.php?page=treesubj&link=29639وصفة الاستواء مما لا يجب العلم بها ، فمن ترك التعرض إليه لم يترك واجبا ، وأما من يتعرض إليه فقد يخطئ فيه فيعتقد خلاف ما هو عليه ، فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم ، والثاني يكاد أن يقع في أن يكون جاهلا مركبا ، وعدم العلم الجهل المركب كالسكوت والكذب، ولا يشك أحد في أن السكوت خير من الكذب .
وأما إنه أقرب إلى الحكمة ، فذلك لأن من يطالع كتابا صنفه إنسان، وكتب له شرحا، والشارح دون المصنف ، فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ; ولهذا كثيرا ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلامه ويقول : لم يرد المصنف هذا ، وإنما أراد كذا وكذا . وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب عن علم قاصر كذلك ، فما ظنك بالكتاب العزيز الذي فيه كل حكمة ، يجوز أن يدعي جاهل أني علمت كل سر في هذا الكتاب ، وكيف ولو ادعى عالم أني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليه الكتاب الفلاني ؛ يستقبح منه ذلك ، فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله ؟ !
ثم ليس لقائل أن يقول بأن الله تعالى بين كل ما أنزله ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=21343تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ، ولعل في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيه ؛ فبين له لا لغيره . إذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم ، وهذا أقرب إلى ذلك الذي لا يعلم ، للتشابه البالغ الذي فيه ، لكن هذا المذهب له شرط ، وهو أن ينفي بعض ما يعلمه ، قطعا أنه ليس بمراد ، وهذا لأن قائلا إذا قال : إن هذه الأيام أيام قرء فلانة ، يعلم أنه لا يريد أن هذه الأيام أيام موت فلانة ، ولا يريد أن هذه الأيام أيام سفر فلانة ، وإنما المراد منحصر في الطهر أو الحيض ، فكذلك ههنا يعلم أن المراد ليس ما يوجب نقصا في ذاته لاستحالة ذلك ، والجلوس والاستقرار المكاني من ذلك الباب ؛ فيجب القطع بنفي ذلك ، والتوقف فيما يجوز بعده .
والمذهب الثاني : خطر ، ومن يذهب إليه فريقان : أحدهما : من يقول المراد ظاهره وهو القيام والانتصاب أو الاستقرار المكاني ، وثانيهما : من يقول المراد الاستيلاء . والأول جهل محض ، والثاني يجوز أن يكون جهلا . والأول مع كونه جهلا هو بدعة وكاد يكون كفرا ، والثاني وإن كان جهلا فليس بجهل يورث بدعة ، وهذا كما أن واحدا إذا اعتقد أن الله يرحم الكفار ولا يعاقب أحدا منهم ، يكون جهلا وبدعة وكفرا ، وإذا اعتقد أنه يرحم زيدا الذي هو مستور
[ ص: 148 ] الحال لا يكون بدعة ، غاية ما يكون أنه اعتقاد غير مطابق ، ومما قيل فيه : إن المراد منه استوى على ملكه ، والعرش يعبر به عن الملك ، يقال: الملك قعد على سرير المملكة بالبلدة الفلانية، وإن لم يدخلها ، وهذا مثل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=64وقالت اليهود يد الله مغلولة ) [ المائدة : 64 ] إشارة إلى البخل ، مع أنهم لم يقولوا بأن على يد الله غلا على طريق الحقيقة ، ولو كان مراد الله ذلك لكان كذبا -جل كلام الله عنه- ثم لهذا فضل تقرير ، وهو أن الملوك على درجات ، فمن يملك مدينة صغيرة أو بلادا يسيرة ما جرت العادة بأن يجلس أول ما يجلس على سرير ، ومن يكون سلطانا يملك البلاد الشاسعة والديار الواسعة ، وتكون الملوك في خدمته يكون له سرير يجلس عليه ، وقدامه كرسي يجلس عليه وزيره ، فالعرش والكرسي في العادة لا يكون إلا عند عظمة المملكة ، فلما كان ملك السماوات والأرض في غاية العظمة ، عبر بما ينبئ في العرف عن العظمة ، ومما ينبهك لهذا قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=2إنا خلقنا ) [ الإنسان : 2 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=6إنا زينا ) [ الصافات : 6 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=16نحن أقرب ) [ ق : 16 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9نحن نزلنا ) [ الحجر : 9 ] ، أيظن أو يشك مسلم في أن المراد ظاهره من الشريك ؟ وهل يجد له محملا ، غير أن العظيم في العرف لا يكون واحدا وإنما يكون معه غيره ؟ فكذلك الملك العظيم في العرف لا يكون إلا ذا سرير يستوي عليه ، فاستعمل ذلك مريدا للعظمة .
ومما يؤيد هذا أن المقهور المغلوب المهزوم يقال له : ضاقت به الأرض حتى لم يبق له مكان ، أيظن أنهم يريدون به أنه صار لا مكان له ؟ وكيف يتصور الجسم بلا مكان ، ولا سيما من يقول بأن إلهه في مكان كيف يخرج الإنسان عن المكان ؟ فكما يقال للمقهور الهارب لم يبق له مكان مع أن المكان واجب له ، يقال للقادر القاهر هو متمكن وله عرش ، وإن كان التنزه عن المكان واجبا له ، وعلى هذا كلمة “ ثم “ معناها خلق السماوات والأرض ، ثم القصة أنه استوى على الملك ، وهذا كما يقول القائل : فلان أكرمني وأنعم علي مرارا ، ويحكي عنه أشياء ، ثم يقول : إنه ما كان يعرفني ولا كنت فعلت معه ما يجازيني بهذا . فنقول : “ ثم “ للحكاية لا للمحكي . الوجه الآخر : قيل استوى جاء بمعنى استولى على العرش ، واستوى جاء بمعنى استولى نقلا واستعمالا . أما النقل فكثير مذكور في كتب اللغة منها ديوان الأدب وغيره مما يعتبر النقل عنه . وأما الاستعمال فقول القائل :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وعلى هذا فكلمة “ ثم “ معناها ما ذكرنا كأنه قال خلق السماوات والأرض ، ثم ههنا ما هو أعظم منه استوى على العرش ، فإنه أعظم من الكرسي ، والكرسي وسع السماوات والأرض . والوجه الثالث : قيل إن المراد الاستقرار . وهذا القول ظاهر ولا يفيد أنه في مكان ; وذلك لأن الإنسان يقول : استقر رأي فلان على الخروج ، ولا يشك أحد أنه لا يريد أن الرأي في مكان وهو الخروج ، لما أن الرأي لا يجوز فيه أن يقال إنه متمكن أو هو مما يدخل في مكان . إذا علم هذا فنقول : فهم التمكن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكن ، حتى إذا قال قائل استقر زيد على الفلك أو على التخت ، يفهم منه التمكن وكونه في مكان ، وإذا قال قائل : استقر الملك على فلان لا يفهم أن الملك في فلان .
فقول القائل :
nindex.php?page=treesubj&link=28730_29686الله استقر على العرش لا ينبغي أن يفهم كونه في مكان ما لم يعلم أنه مما يجوز عليه أن يكون في مكان أو لا يجوز ، فإذن فهم كونه في مكان من هذه اللفظة مشروط بجواز أن يكون في مكان ، فجواز كونه في مكان إن استفيد من هذه اللفظة يلزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال ، ثم الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون على العرش بمعنى كون
[ ص: 149 ] العرش مكانا له وجوه من القرآن :
أحدها : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=64وإن الله لهو الغني ) [ الحج : 64 ] وهذا يقتضي أن يكون غنيا على الإطلاق ، وكل ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان ; لأن بديهة العقل حاكمة بأن الحيز إن لم يكن لا يكون المتحيز باقيا ، فالمتحيز ينتفي عند انتفاء الحيز ، وكل ما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه في استمراره ، فالقول باستقراره يوجب احتياجه في استمراره وهو غني بالنص .
الثاني : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=88كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] فالعرش يهلك ، وكذلك كل مكان فلا يبقى وهو يبقى ، فإذن لا يكون في ذلك الوقت في مكان ، فجاز عليه أن لا يكون في مكان ، وما جاز له من الصفات وجب له فيجب أن لا يكون في مكان .
الثالث : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=4وهو معكم ) [ الحديد : 4 ] ووجه التمسك به هو أن “ على “ إذا استعمل في المكان يفهم كونه عليه بالذات كقولنا فلان على السطح ، وكلمة “ مع “ إذا استعملت في متمكنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا زيد مع عمرو إذا استعمل هذا فإن كان الله في مكان ونحن متمكنون ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=40إن الله معنا ) [ التوبة : 40 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=4وهو معكم ) كان ينبغي أن يكون للاقتران وليس كذلك ، فإن قيل كلمة “ مع “ تستعمل لكون ميله إليه وعلمه معه أو نصرته يقال الملك الفلاني مع الملك الفلاني ، أي بالإعانة والنصر ، فنقول : كلمة “ على “ تستعمل لكون حكمه على الغير ، يقول القائل : لولا فلان على فلان لأشرف في الهلاك ولأشرف على الهلاك ، وكذلك يقال : لولا فلان على أملاك فلان أو على أرضه لما حصل له شيء منها ، ولا أكل حاصلها بمعنى الإشراف والنظر ، فكيف لا نقول في (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4استوى على العرش ) إنه استوى عليه بحكمه كما نقول هو معناه بعلمه .
الرابع : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] ولو كان في مكان لأحاط به المكان وحينئذ فإما أن يرى وإما أن لا يرى ، لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق ؛ لأن القول بأنه في مكان ولا يرى باطل بالإجماع ، وإن كان يرى فيرى في مكان أحاط به فتدركه الأبصار . وأما إذا لم يكن في مكان فسواء يرى أو لا يرى لا يلزم أن تدركه الأبصار . أما إذا لم ير فظاهر . وأما إذا رئي فلأن البصر لا يحيط به فلا يدركه .
وإنما قلنا : إن البصر لا يحيط به لأن كل ما أحاط به البصر فله مكان يكون فيه ، وقد فرضنا عدم المكان ، ولو تدبر الإنسان القرآن لوجده مملوءا من عدم جواز كونه في مكان ، كيف وهذا الذي يتمسك به هذا القائل يدل على أنه ليس على العرش بمعنى كونه في المكان ، وذلك لأن كلمة “ ثم “ للتراخي فلو كان عليه بمعنى المكان لكان قد حصل عليه بعدما لم يكن عليه ، فقبله إما أن يكون في مكان أو لا يكون ، فإن كان يلزم محالان :
أحدهما : كون المكان أزليا ، ثم إن هذا القائل يدعي مضادة الفلسفي فيصير فلسفيا يقول بقدم سماء من السماوات . والثاني : جواز الحركة والانتقال على الله تعالى وهو يفضي إلى حدوث الباري أو يبطل دلائل حدوث الأجسام ، وإن لم يكن مكان وما حصل في مكان يحيل العقل وجوده بلا مكان ، ولو جاز لما أمكن أن يقال بأن الجسم لو كان أزليا ، فإما أن يكون في الأزل ساكنا أو متحركا ؛ لأنهما فرعا الحصول في مكان ، وإذا كان كذلك فيلزمه القول بحدوث الله أو عدم القول بحدوث العالم ، لأنه إن سلم أنه قبل المكان لا يكون فهو القول بحدوث الله تعالى وإن لم يسلم فيجوز أن يكون الجسم في الأزل لم يكن في مكان ، ثم حصل في مكان فلا يتم دليله في حدوث العالم ، فيلزمه أن لا يقول بحدوثه ، ثم إن هذا القائل يقول : إنك تشبه الله بالمعدوم ، فإنه ليس في مكان ولا يعلم أنه جعله معدوما ، حيث أحوجه إلى مكان ، وكل محتاج نظرا إلى عدم ما يحتاج إليه معدوم ، ولو كتبنا ما فيها لطال الكلام .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ )
لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بَيَّنَ مَا عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) “ اللَّهُ “ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ “ الَّذِي خَلَقَ “ يَعْنِي
nindex.php?page=treesubj&link=28658اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ فَلَا إِلَهَ إِلَّا وَاحِدٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) إِشَارَةٌ إِلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ فِي نَظَرِ النَّاظِرِينَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذَاتٌ وَصِفَةٌ ، فَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ ذَاتَ السَّمَاوَاتِ حَالَةٌ ، وَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ صِفَاتِهَا أُخْرَى ، وَنَظَرًا إِلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ ، وَنَظَرًا إِلَى ذَوَاتِ مَا بَيْنَهُمَا ، وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ فَهِيَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْخَلْقِ رَآهُ فِعْلًا ،
[ ص: 147 ] وَالْفِعْلُ ظَرْفُهُ الزَّمَانُ ، وَالْأَيَّامُ أَشْهَرُ الْأَزْمِنَةِ ، وَإِلَّا فَقَبْلَ السَّمَاوَاتِ لَمْ يَكُنْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ ، وَهَذَا مِثْلُ مَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ :
إِنَّ يَوْمًا وُلِدْتَ فِيهِ كَانَ يَوْمًا مُبَارَكًا
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وُلِدَ لَيْلًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مُرَادِهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ وِلَادَتِهِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : تَرْكُ التَّعَرُّضِ إِلَى بَيَانِ الْمُرَادِ .
وَثَانِيهُمَا : التَّعَرُّضُ إِلَيْهِ . وَالْأَوَّلُ أَسْلَمُ وَإِلَى الْحِكْمَةِ أَقْرَبُ ، أَمَّا أَنَّهُ أَسْلَمُ ; فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ أَنَا لَا أَتَعَرَّضُ إِلَى بَيَانِ هَذَا وَلَا أَعْرِفُ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا ، لَا يَكُونُ حَالُهُ إِلَّا حَالَ مَنْ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُوبِ الْكَلَامِ أَوْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَهُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُصُولَ ثَلَاثَةٌ : التَّوْحِيدُ وَالْقَوْلُ بِالْحَشْرِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّسُلِ . لَكِنَّ الْحَشْرَ أَجْمَعْنَا وَاتَّفَقْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ وَاجِبٌ ، وَالْعِلْمُ بِتَفْصِيلِهِ أَنَّهُ مَتَى يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=34إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) [ لُقْمَانَ : 34 ] فَكَذَلِكَ اللَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29626يَجِبُ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَتَعَالِيهِ عَنْ وَصَمَاتِ الْإِمْكَانِ وَصِفَاتِ النُّقْصَانِ ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ كَمَا هِيَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29639وَصِفَةُ الِاسْتِوَاءِ مِمَّا لَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهَا ، فَمَنْ تَرَكَ التَّعَرُّضَ إِلَيْهِ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا ، وَأَمَّا مَنْ يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِ فَقَدْ يُخْطِئُ فِيهِ فَيَعْتَقِدُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ ، فَالْأَوَّلُ غَايَةُ مَا يَلْزَمُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ، وَالثَّانِي يَكَادُ أَنْ يَقَعَ فِي أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا مُرَكَّبًا ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ كَالسُّكُوتِ وَالْكَذِبِ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ السُّكُوتَ خَيْرٌ مِنَ الْكَذِبِ .
وَأَمَّا إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحِكْمَةِ ، فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُطَالِعُ كِتَابًا صَنَّفَهُ إِنْسَانٌ، وَكَتَبَ لَهُ شَرْحًا، وَالشَّارِحُ دُونَ الْمُصَنِّفِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَا أَتَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ; وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُورِدُ الْإِشْكَالَاتِ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ يَجِيءُ مَنْ يَنْصُرُ كَلَامَهُ وَيَقُولُ : لَمْ يُرِدِ الْمُصَنِّفُ هَذَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ كَذَا وَكَذَا . وَإِذَا كَانَ حَالُ الْكُتُبِ الْحَادِثَةِ الَّتِي تُكْتَبُ عَنْ عِلْمٍ قَاصِرٍ كَذَلِكَ ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي فِيهِ كُلُّ حِكْمَةٍ ، يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ جَاهِلٌ أَنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَكَيْفَ وَلَوِ ادَّعَى عَالِمٌ أَنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ وَكُلَّ فَائِدَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْفُلَانِيُّ ؛ يُسْتَقْبَحُ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلِمَ كُلَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ !
ثُمَّ لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كُلَّ مَا أَنْزَلَهُ ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21343تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ ، وَلَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ نَبِيِّهِ ؛ فَبَيَّنَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ . إِذَا ثَبَتَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُعْلَمُ ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعْلَمُ ، لِلتَّشَابُهِ الْبَالِغِ الَّذِي فِيهِ ، لَكِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ لَهُ شَرْطٌ ، وَهُوَ أَنْ يَنْفِيَ بَعْضَ مَا يَعْلَمُهُ ، قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَائِلًا إِذَا قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ قُرْءِ فُلَانَةَ ، يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ مَوْتِ فُلَانَةَ ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ سَفَرِ فُلَانَةَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مُنْحَصِرٌ فِي الطُّهْرِ أَوِ الْحَيْضِ ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي ذَاتِهِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ ، وَالْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ الْمَكَانِيُّ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ؛ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا يَجُوزُ بَعْدَهُ .
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : خَطَرٌ ، وَمَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ ظَاهِرُهُ وَهُوَ الْقِيَامُ وَالِانْتِصَابُ أَوِ الِاسْتِقْرَارُ الْمَكَانِيُّ ، وَثَانِيهِمَا : مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ الِاسْتِيلَاءُ . وَالْأَوَّلُ جَهْلٌ مَحْضٌ ، وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَهْلًا . وَالْأَوَّلُ مَعَ كَوْنِهِ جَهْلًا هُوَ بِدْعَةٌ وَكَادَ يَكُونُ كُفْرًا ، وَالثَّانِي وَإِنْ كَانَ جَهْلًا فَلَيْسَ بِجَهْلٍ يُورِثُ بِدْعَةً ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ وَاحِدًا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ الْكُفَّارَ وَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْهُمْ ، يَكُونُ جَهْلًا وَبِدْعَةً وَكُفْرًا ، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَرْحَمُ زَيْدًا الَّذِي هُوَ مَسْتُورُ
[ ص: 148 ] الْحَالِ لَا يَكُونُ بِدْعَةً ، غَايَةُ مَا يَكُونُ أَنَّهُ اعْتِقَادٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ ، وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ : إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتَوَى عَلَى مُلْكِهِ ، وَالْعَرْشُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمُلْكِ ، يُقَالُ: الْمَلِكُ قَعَدَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِالْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=64وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) [ الْمَائِدَةِ : 64 ] إِشَارَةٌ إِلَى الْبُخْلِ ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِأَنَّ عَلَى يَدِ اللَّهِ غُلًّا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ ذَلِكَ لَكَانَ كَذِبًا -جَلَّ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ- ثُمَّ لِهَذَا فَضْلُ تَقْرِيرٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُلُوكَ عَلَى دَرَجَاتٍ ، فَمَنْ يَمْلِكُ مَدِينَةً صَغِيرَةً أَوْ بِلَادًا يَسِيرَةً مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَجْلِسَ أَوَّلَ مَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ ، وَمَنْ يَكُونُ سُلْطَانًا يَمْلِكُ الْبِلَادَ الشَّاسِعَةَ وَالدِّيَارَ الْوَاسِعَةَ ، وَتَكُونُ الْمُلُوكُ فِي خِدْمَتِهِ يَكُونُ لَهُ سَرِيرٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ ، وَقُدَّامَهُ كُرْسِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ ، فَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَظَمَةِ الْمَمْلَكَةِ ، فَلَمَّا كَانَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ ، عَبَّرَ بِمَا يُنْبِئُ فِي الْعُرْفِ عَنِ الْعَظَمَةِ ، وَمِمَّا يُنَبِّهُكَ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=2إِنَّا خَلَقْنَا ) [ الْإِنْسَانِ : 2 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=6إِنَّا زَيَّنَّا ) [ الصَّافَّاتِ : 6 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=16نَحْنُ أَقْرَبُ ) [ ق : 16 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9نَحْنُ نَزَّلْنَا ) [ الْحِجْرِ : 9 ] ، أَيَظُنُّ أَوْ يَشُكُّ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ مِنَ الشَّرِيكِ ؟ وَهَلْ يَجِدُ لَهُ مَحْمَلًا ، غَيْرَ أَنَّ الْعَظِيمَ فِي الْعُرْفِ لَا يَكُونُ وَاحِدًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَهُ غَيْرُهُ ؟ فَكَذَلِكَ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ فِي الْعُرْفِ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَا سَرِيرٍ يَسْتَوِي عَلَيْهِ ، فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ مُرِيدًا لِلْعَظَمَةِ .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَقْهُورَ الْمَغْلُوبَ الْمَهْزُومَ يُقَالُ لَهُ : ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكَانٌ ، أَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ صَارَ لَا مَكَانَ لَهُ ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْجِسْمُ بِلَا مَكَانٍ ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ إِلَهَهُ فِي مَكَانٍ كَيْفَ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْمَكَانِ ؟ فَكَمَا يُقَالُ لِلْمَقْهُورِ الْهَارِبِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكَانٌ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ وَاجِبٌ لَهُ ، يُقَالُ لِلْقَادِرِ الْقَاهِرِ هُوَ مُتَمَكِّنٌ وَلَهُ عَرْشٌ ، وَإِنْ كَانَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْمَكَانِ وَاجِبًا لَهُ ، وَعَلَى هَذَا كَلِمَةُ “ ثُمَّ “ مَعْنَاهَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، ثُمَّ الْقِصَّةُ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْمُلْكِ ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : فُلَانٌ أَكْرَمَنِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ مِرَارًا ، وَيَحْكِي عَنْهُ أَشْيَاءَ ، ثُمَّ يَقُولُ : إِنَّهُ مَا كَانَ يَعْرِفُنِي وَلَا كُنْتُ فَعَلْتُ مَعَهُ مَا يُجَازِينِي بِهَذَا . فَنَقُولُ : “ ثُمَّ “ لِلْحِكَايَةِ لَا لِلْمَحْكِيِّ . الْوَجْهُ الْآخَرُ : قِيلَ اسْتَوَى جَاءَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى عَلَى الْعَرْشِ ، وَاسْتَوَى جَاءَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى نَقْلًا وَاسْتِعْمَالًا . أَمَّا النَّقْلُ فَكَثِيرٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ مِنْهَا دِيوَانُ الْأَدَبِ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ النَّقْلُ عَنْهُ . وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ :
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَعَلَى هَذَا فَكَلِمَةُ “ ثُمَّ “ مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْنَا كَأَنَّهُ قَالَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، ثُمَّ هَهُنَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الْكُرْسِيِّ ، وَالْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِقْرَارُ . وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرٌ وَلَا يُفِيدُ أَنَّهُ فِي مَكَانٍ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ : اسْتَقَرَّ رَأْيُ فُلَانٍ عَلَى الْخُرُوجِ ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي مَكَانٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ ، لِمَا أَنَّ الرَّأْيَ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ أَوْ هُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَكَانٍ . إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ : فَهْمُ التَّمَكُّنِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ الِاسْتِقْرَارِ مَشْرُوطٌ بِجَوَازِ التَّمَكُّنِ ، حَتَّى إِذَا قَالَ قَائِلٌ اسْتَقَرَّ زَيْدٌ عَلَى الْفُلْكِ أَوْ عَلَى التَّخْتِ ، يُفْهَمُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ وَكَوْنُهُ فِي مَكَانٍ ، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : اسْتَقَرَّ الْمُلْكُ عَلَى فُلَانٍ لَا يُفْهَمُ أَنَّ الْمُلْكَ فِي فُلَانٍ .
فَقَوْلُ الْقَائِلِ :
nindex.php?page=treesubj&link=28730_29686اللَّهُ اسْتَقَرَّ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ كَوْنُهُ فِي مَكَانٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ لَا يَجُوزُ ، فَإِذَنْ فَهْمُ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَشْرُوطٌ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ ، فَجَوَازُ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ إِنِ اسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى كَوْنِ
[ ص: 149 ] الْعَرْشِ مَكَانًا لَهُ وُجُوهٌ مِنَ الْقُرْآنِ :
أَحَدُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=64وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ ) [ الْحَجِّ : 64 ] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ فِي بَقَائِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى مَكَانٍ ; لِأَنَّ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ الْحَيِّزَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَكُونُ الْمُتَحَيِّزُ بَاقِيًا ، فَالْمُتَحَيِّزُ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَيِّزِ ، وَكُلُّ مَا يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي اسْتِمْرَارِهِ ، فَالْقَوْلُ بِاسْتِقْرَارِهِ يُوجِبُ احْتِيَاجَهُ فِي اسْتِمْرَارِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ بِالنَّصِّ .
الثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=88كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) [ الْقَصَصِ : 88 ] فَالْعَرْشُ يَهْلِكُ ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَكَانٍ فَلَا يَبْقَى وَهُوَ يَبْقَى ، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي مَكَانٍ ، فَجَازَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَكَانٍ ، وَمَا جَازَ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَجَبَ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَكَانٍ .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=4وَهُوَ مَعَكُمْ ) [ الْحَدِيدِ : 4 ] وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ هُوَ أَنَّ “ عَلَى “ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْمَكَانِ يُفْهَمُ كَوْنُهُ عَلَيْهِ بِالذَّاتِ كَقَوْلِنَا فُلَانٌ عَلَى السَّطْحِ ، وَكَلِمَةُ “ مَعَ “ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مُتَمَكِّنَيْنِ يُفْهَمُ مِنْهَا اقْتِرَانُهُمَا بِالذَّاتِ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو إِذَا اسْتُعْمِلَ هَذَا فَإِنْ كَانَ اللَّهُ فِي مَكَانٍ وَنَحْنُ مُتَمَكِّنُونَ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=40إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [ التَّوْبَةِ : 40 ] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=4وَهُوَ مَعَكُمْ ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلِاقْتِرَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ كَلِمَةُ “ مَعَ “ تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ وَعِلْمِهِ مَعَهُ أَوْ نُصْرَتِهِ يُقَالُ الْمَلِكُ الْفُلَانِيُّ مَعَ الْمَلِكِ الْفُلَانِيِّ ، أَيْ بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ ، فَنَقُولُ : كَلِمَةُ “ عَلَى “ تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ حُكْمِهِ عَلَى الْغَيْرِ ، يَقُولُ الْقَائِلُ : لَوْلَا فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ لَأَشْرَفَ فِي الْهَلَاكِ وَلَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ : لَوْلَا فُلَانٌ عَلَى أَمْلَاكِ فُلَانٍ أَوْ عَلَى أَرْضِهِ لَمَا حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَلَا أَكَلَ حَاصِلَهَا بِمَعْنَى الْإِشْرَافِ وَالنَّظَرِ ، فَكَيْفَ لَا نَقُولُ فِي (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=4اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) إِنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ كَمَا نَقُولُ هُوَ مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ .
الرَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) [ الْأَنْعَامِ : 103 ] وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَأَحَاطَ بِهِ الْمَكَانُ وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يُرَى وَإِمَّا أَنْ لَا يُرَى ، لَا سَبِيلَ إِلَى الثَّانِي بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ فِي مَكَانٍ وَلَا يُرَى بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ يُرَى فَيُرَى فِي مَكَانٍ أَحَاطَ بِهِ فَتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ . وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ فَسَوَاءٌ يُرَى أَوْ لَا يُرَى لَا يَلْزَمُ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ . أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَ فَظَاهِرٌ . وَأَمَّا إِذَا رُئِيَ فَلِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحِيطُ بِهِ فَلَا يُدْرِكُهُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّ الْبَصَرَ لَا يُحِيطُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَاطَ بِهِ الْبَصَرُ فَلَهُ مَكَانٌ يَكُونُ فِيهِ ، وَقَدْ فَرَضْنَا عَدَمَ الْمَكَانِ ، وَلَوْ تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ الْقُرْآنَ لَوَجَدَهَ مَمْلُوءًا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ ، كَيْفَ وَهَذَا الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ “ ثُمَّ “ لِلتَّرَاخِي فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ لَكَانَ قَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ، فَقَبْلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ لَا يَكُونَ ، فَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مُحَالَانِ :
أَحَدُهُمَا : كَوْنُ الْمَكَانِ أَزَلِيًّا ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَدَّعِي مُضَادَّةَ الْفَلْسَفِيِّ فَيَصِيرُ فَلْسَفِيًّا يَقُولُ بِقِدَمِ سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ . وَالثَّانِي : جَوَازُ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يُفْضِي إِلَى حُدُوثِ الْبَارِي أَوْ يُبْطِلُ دَلَائِلَ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانٌ وَمَا حَصَلَ فِي مَكَانٍ يُحِيلُ الْعَقْلُ وَجُودَهُ بِلَا مَكَانٍ ، وَلَوْ جَازَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْجِسْمَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا ؛ لِأَنَّهُمَا فَرَّعَا الْحُصُولَ فِي مَكَانٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ أَوْ عَدَمُ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالِمِ ، لِأَنَّهُ إِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ قَبْلَ الْمَكَانِ لَا يَكُونُ فَهُوَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ ، ثُمَّ حَصَلَ فِي مَكَانٍ فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقُولَ بِحُدُوثِهِ ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ : إِنَّكَ تُشَبِّهُ اللَّهَ بِالْمَعْدُومِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مَعْدُومًا ، حَيْثُ أَحْوَجَهُ إِلَى مَكَانٍ ، وَكُلُّ مُحْتَاجٍ نَظَرًا إِلَى عَدَمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَعْدُومٌ ، وَلَوْ كَتَبْنَا مَا فِيهَا لَطَالَ الْكَلَامُ .