(
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) على التفسير الأول ظاهر ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=31810_31808_32405آدم كان من طين ، ونسله من سلالة من ماء مهين ، هو النطفة ، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين ، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين ، فإن قال قائل : التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7بدأ خلق الإنسان ) ثم
[ ص: 152 ] جعل نسله دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين ، فنقول : لا ، بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي ، فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان ، فقال : بدأه من طين ، ثم جعله سلالة ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، وعلى ما ذكرتم يبعد أن يقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثم سواه ونفخ فيه من روحه ) عائد إلى
آدم أيضا ؛ لأن كلمة “ ثم “ للتراخي ، فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة ، وذلك بعد خلق
آدم ، واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لخلق السماوات والأرض أكبر ) [ غافر : 57 ] ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة ، فإن التغيرات فيها كثيرة ، وإليه الإشارة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثم جعل نسله ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثم سواه ) أي كان طينا فجعله منيا ، ثم جعله بشرا سويا .
وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ونفخ فيه من روحه ) إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف ، واعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=29706_29434_31994النصارى يفترون على الله الكذب ويقولون : بأن عيسى كان روح الله فهو ابن ، ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح الله بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ونفخ فيه من روحه ) أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل : داري وعبدي ، ولم يقل أعطاه من جسمه؛ لأن الشرف بالروح ، فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم ، فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9وجعل لكم ) مخاطبا ولم يخاطب من قبل ، وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي ، فلما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ونفخ فيه من روحه ) خاطبه من بعده وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9جعل لكم ) ، فإن قيل : الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=20ومن آياته أن خلقكم من تراب ) [ الروم : 20 ] فنقول : هناك لم يذكر الأمور المرتبة ، وإنما أشار إلى تمام الخلق ، وهاهنا ذكر الأمور المرتبة وهي
nindex.php?page=treesubj&link=32405_31810_31821كون الإنسان طينا ثم ماء مهينا ، ثم خلقا مسوى، بأنواع القوى مقوى ؛ فخاطب في بعض المراتب دون البعض .
المسألة الثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=31808_31821_32412الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة ، وذلك لأن الإنسان يسمع أولا من الأبوين أو الناس أمورا فيفهمها ، ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجربها ، ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قبله ، ومثاله : شخص يسمع من أستاذ شيئا ثم يصير له أهلية مطالعة الكتب وفهم معانيها ، ثم يصير له أهلية التصنيف فيكتب من قلبه كتابا ، فكذلك الإنسان يسمع ثم يطالع صحائف الموجودات ثم يعلم الأمور الخفية .
المسألة الثالثة : ذكر في السمع المصدر وفي البصر والفؤاد الاسم ، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع ; لأن المصدر لا يجمع ، وذلك لحكمة ؛ وهو أن السمع قوة واحدة ولها فعل واحد ، فإن الإنسان لا يضبط في زمان واحد كلامين ، والأذن محله ولا اختيار لها فيه ، فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ، ولا قدرة لها على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض ، وأما الإبصار فمحله العين ولها فيه شبه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون آخر ، وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره ، وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير ، والقوة مستبدة ، فذكر القوة في الأذن وفي العين ، والفؤاد للمحل نوع اختيار ، فذكر المحل لأن الفعل يسند إلى المختار ، ألا ترى أنك تقول : سمع زيد ورأى عمرو . ولا تقول : سمع أذن زيد ولا رأى عين عمرو إلا نادرا ، لما بينا أن المختار هو الأصل وغيره آلته ، فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له ، والعين كالأصل ، وقوة الإبصار آلتها ، والفؤاد كذلك ، وقوة الفهم آلته ، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة ، وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ; ولأن السمع له قوة واحدة ، ولها فعل
[ ص: 153 ] واحد ; ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ، ويدرك في زمان واحد صورتين وأكثر ويستبينهما .
المسألة الرابعة : لم
nindex.php?page=treesubj&link=28900قدم السمع ههنا والقلب في قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=7ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) [ البقرة : 7 ] ؟ فنقول : ذلك يحقق ما ذكرنا ، وذلك لأن عند الإعطاء ذكر الأدنى وارتقى إلى الأعلى فقال : أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب . وعند السلب قال : ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها ، وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار مع أنها في الوسط فيما ذكرنا من الترتيب ، وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع ، فجمع بينهما ، وسلب قوة البصر بجعل الغشاوة عليه فذكرها متأخرة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31810_31808_32405آدَمَ كَانَ مِنْ طِينٍ ، وَنَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ، هُوَ النُّطْفَةُ ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي هُوَ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الطِّينِ ، ثُمَّ يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ سُلَالَةٌ هِيَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : التَّفْسِيرُ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=7بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ) ثُمَّ
[ ص: 152 ] جَعَلَ نَسْلَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَعْلَ النَّسْلِ بَعْدَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ، فَنَقُولُ : لَا ، بَلِ التَّفْسِيرُ الثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ ، فَقَالَ : بَدَأَهُ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَهُ سُلَالَةً ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) عَائِدٌ إِلَى
آدَمَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ “ ثُمَّ “ لِلتَّرَاخِي ، فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ جَعْلِ النَّسْلِ مِنْ سُلَالَةٍ ، وَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ
آدَمَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ ) [ غَافِرٍ : 57 ] وَدَلَائِلُ الْأَنْفُسِ أَدَلُّ عَلَى نَفَاذِ الْإِرَادَةِ ، فَإِنَّ التَّغَيُّرَاتِ فِيهَا كَثِيرَةٌ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=8ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9ثُمَّ سَوَّاهُ ) أَيْ كَانَ طِينًا فَجَعَلَهُ مَنِيًّا ، ثُمَّ جَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) إِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ كَإِضَافَةِ الْبَيْتِ إِلَيْهِ لِلتَّشْرِيفِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29706_29434_31994النَّصَارَى يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَقُولُونَ : بِأَنَّ عِيسَى كَانَ رُوحَ اللَّهِ فَهُوَ ابْنٌ ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ رُوحُهُ رُوحُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) أَيِ الرُّوحِ الَّتِي هِيَ مِلْكُهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : دَارِي وَعَبْدِي ، وَلَمْ يَقُلْ أَعْطَاهُ مِنْ جِسْمِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرَفَ بِالرُّوحِ ، فَأَضَافَ الرُّوحَ دُونَ الْجِسْمِ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَفْخِ الرُّوحِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ ، فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9وَجَعَلَ لَكُمُ ) مُخَاطِبًا وَلَمْ يُخَاطِبْ مِنْ قَبْلُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَكُونُ مَعَ الْحَيِّ ، فَلَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) خَاطَبَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=9جَعَلَ لَكُمُ ) ، فَإِنْ قِيلَ : الْخِطَابُ وَاقِعٌ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=20وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) [ الرُّومِ : 20 ] فَنَقُولُ : هُنَاكَ لَمْ يَذْكُرِ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ وَهِيَ
nindex.php?page=treesubj&link=32405_31810_31821كَوْنُ الْإِنْسَانِ طِينًا ثُمَّ مَاءً مَهِينًا ، ثُمَّ خَلْقًا مُسَوًّى، بِأَنْوَاعِ الْقُوَى مُقَوًّى ؛ فَخَاطَبَ فِي بَعْضِ الْمَرَاتِبِ دُونَ الْبَعْضِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=31808_31821_32412التَّرْتِيبُ فِي السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْمَعُ أَوَّلًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوِ النَّاسِ أُمُورًا فَيَفْهَمُهَا ، ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَصِيرَةٌ فَيُبْصِرُ الْأُمُورَ وَيُجَرِّبُهَا ، ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِدْرَاكٌ تَامٌّ وَذِهْنٌ كَامِلٌ فَيَسْتَخْرِجُ الْأَشْيَاءَ مِنْ قِبَلِهِ ، وَمِثَالُهُ : شَخْصٌ يَسْمَعُ مِنْ أُسْتَاذٍ شَيْئًا ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَهْلِيَّةُ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَفَهْمِ مَعَانِيهَا ، ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصْنِيفِ فَيَكْتُبُ مِنْ قَلْبِهِ كِتَابًا ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ يَسْمَعُ ثُمَّ يُطَالِعُ صَحَائِفَ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ يَعْلَمُ الْأُمُورَ الْخَفِيَّةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَ فِي السَّمْعِ الْمَصْدَرَ وَفِي الْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ الِاسْمَ ، وَلِهَذَا جَمَعَ الْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ وَلَمْ يَجْمَعِ السَّمْعَ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُجْمَعُ ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ السَّمْعَ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْبِطُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَلَامَيْنِ ، وَالْأُذُنُ مَحَلُّهُ وَلَا اخْتِيَارَ لَهَا فِيهِ ، فَإِنَّ الصَّوْتَ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ ، وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى تَخْصِيصِ الْقُوَّةِ بِإِدْرَاكِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ، وَأَمَّا الْإِبْصَارُ فَمَحَلُّهُ الْعَيْنُ وَلَهَا فِيهِ شِبْهُ اخْتِيَارٍ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ إِلَى جَانِبٍ مَرْئِيٍّ دُونَ آخَرَ ، وَكَذَلِكَ الْفُؤَادُ مَحَلُّ الْإِدْرَاكِ وَلَهُ نَوْعُ اخْتِيَارٍ يَلْتَفِتُ إِلَى مَا يُرِيدُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَحَلِّ فِي السَّمْعِ تَأْثِيرٌ ، وَالْقُوَّةُ مُسْتَبِدَّةٌ ، فَذَكَرَ الْقُوَّةَ فِي الْأُذُنِ وَفِي الْعَيْنِ ، وَالْفُؤَادُ لِلْمَحَلِّ نَوْعُ اخْتِيَارٍ ، فَذَكَرَ الْمَحَلَّ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُسْنَدُ إِلَى الْمُخْتَارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ : سَمِعَ زَيْدٌ وَرَأَى عَمْرٌو . وَلَا تَقُولُ : سَمِعَ أُذُنُ زَيْدٍ وَلَا رَأَى عَيْنُ عَمْرٍو إِلَّا نَادِرًا ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْأَصْلُ وَغَيْرُهُ آلَتُهُ ، فَالسَّمْعُ أَصْلٌ دُونَ مَحَلِّهِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ لَهُ ، وَالْعَيْنُ كَالْأَصْلِ ، وَقُوَّةُ الْإِبْصَارِ آلَتُهَا ، وَالْفُؤَادُ كَذَلِكَ ، وَقُوَّةُ الْفَهْمِ آلَتُهُ ، فَذَكَرَ فِي السَّمْعِ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ ، وَفِي الْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْقُوَّةِ ; وَلِأَنَّ السَّمْعَ لَهُ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَهَا فِعْلٌ
[ ص: 153 ] وَاحِدٌ ; وَلِهَذَا لَا يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَلَامَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَضْبِطُهُمَا ، وَيُدْرِكُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ صُورَتَيْنِ وَأَكْثَرَ وَيَسْتَبِينُهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لِمَ
nindex.php?page=treesubj&link=28900قَدَّمَ السَّمْعَ هَهُنَا وَالْقَلْبَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=7خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 7 ] ؟ فَنَقُولُ : ذَلِكَ يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ ذَكَرَ الْأَدْنَى وَارْتَقَى إِلَى الْأَعْلَى فَقَالَ : أَعْطَاكُمُ السَّمْعَ ثُمَّ أَعْطَاكُمْ مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَهُوَ الْقَلْبُ . وَعِنْدَ السَّلْبِ قَالَ : لَيْسَ لَهُمْ قَلْبٌ يُدْرِكُونَ بِهِ وَلَا مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ السَّمْعُ الَّذِي يَسْمَعُونَ بِهِ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَفْهَمُ الْحَقَائِقَ وَيَسْتَخْرِجُهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَأْخِيرِ الْأَبْصَارِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْوَسَطِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّرْتِيبِ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ وَالسَّمْعَ سَلَبَ قُوَّتَهُمَا بِالطَّبْعِ ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَسَلَبَ قُوَّةَ الْبَصَرِ بِجَعْلِ الْغِشَاوَةِ عَلَيْهِ فَذَكَرَهَا مُتَأَخِّرَةً .