( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين    ) 
ثم قال تعالى : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين    ) جوابا عن قولهم : ( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا    ) وبيانه هو أنه تعالى قال : إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ، ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت وما شئت إيمانكم فلا أردكم ، وقوله : ( ولو شئنا لآتينا    ) صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول : إن الله ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر ، ثم قال تعالى : ( ولكن حق القول مني لأملأن جهنم    ) أي وقع القول وهو قوله تعالى لإبليس : ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك    ) هذا من حيث النقل ، وله وجه في العقل ؛ وهو أن الله تعالى لم يفعل فعلا خاليا عن حكمة  ، وهذا متفق عليه ، والخلاف في أنه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل ولزمته الحكمة لا بحيث تحمله تلك الحكمة على الفعل ؟ وإذا علم أن فعله لا يخلو عن الحكمة فقال الحكماء : حكمة أفعاله بأمرها لا تدرك على سبيل التفصيل لكن تدرك على سبيل الإجمال ، فكل ضرب يكون في العالم وفساد فحكمته تخرج من تقسيم عقلي ، وهو أن الفعل إما أن يكون خيرا محضا أو شرا محضا أو خيرا مشوبا بشر ، وهذا القسم على ثلاثة أقسام : قسم خيره غالب وقسم شره غالب ، وقسم خيره وشره مثلان . 
إذا علم هذا فخلق الله عالما فيه الخير المحض وهو عالم الملائكة وهو العالم العلوي ، وخلق عالما فيه خير وشر وهو عالمنا ، وهو العالم السفلي ولم يخلق عالما فيه شر محض ، ثم إن العالم السفلي الذي هو عالمنا وإن كان الخير والشر موجودين فيه لكنه من القسم الأول الذي خيره غالب ، فإنك إذا قابلت المنافع بالمضار والنافع بالضار ، تجد المنافع أكثر ، وإذا قابلت الشرير بالخير تجد الخير أكثر ، وكيف لا والمؤمن يقابله الكافر ، ولكن المؤمن قد يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه شر أصلا من أول عمره إلى آخره كالأنبياء عليهم السلام والأولياء ، والكافر لا يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه خير أصلا ، غاية ما في الباب أن الكفر يحبط خيره ولا ينفعه  ، إنما يستحيل نظرا إلى العادة أن يوجد كافر لا يسقي العطشان شربة ماء ولا يطعم الجائع لقمة خبز ولا يذكر ربه في عمره ، وكيف لا وهو في زمن صباه كان مخلوقا على الفطرة المقتضية للخيرات . 
إذا ثبت هذا فنقول : قالوا : لولا الشر في هذا العالم لكانت مخلوقات الله تعالى منحصرة في الخير المحض ولا يكون قد خلق القسم الذي فيه الخير الغالب والشر   [ ص: 156 ] القليل ، ثم إن ترك خلق هذا القسم إن كان لما فيه من الشر ، فترك الخير الكثير لأجل الشر القليل لا يناسب الحكمة ، ألا ترى أن التاجر إذا طلب منه درهم بدينار ، فلو امتنع وقال : في هذا شر وهو زوال الدرهم عن ملكي ، فيقال له : لكن في مقابلته خير كثير وهو حصول الدينار في ملكك ، وكذلك الإنسان لو ترك الحركة اليسيرة لما فيها من المشقة مع علمه بأنه تحصل له راحة مستمرة ينسب إلى مخالفة الحكمة ، فإذا نظر إلى الحكمة كان وقوع الخير الكثير المشوب بالشر القليل من اللطف ، فخلق العالم الذي يقع فيه الشر ، وإلى هذا أشار بقوله : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك    ) [ البقرة : 30 ] فقال الله تعالى في جوابهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون    ) [ البقرة : 30 ] أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة ؛ لأن الخير فيه كثير ، ثم بين لهم خيره بالتعليم ، كما قال تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها    ) [ البقرة : 31 ] يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة . وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب ، فقوله تعالى : ( أتجعل فيها من يفسد فيها    ) [ البقرة : 30 ] إشارة إلى الشر ، وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله : ( وعلم آدم الأسماء    ) . 
فإن قال قائل : فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر . فيقال له ما قاله الله تعالى : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها    ) يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر ، لكن حينئذ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول ، فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة ، لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة ، وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه ، فيخلقه لما فيه من الخير الكثير ، وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح : إن الخير في القضاء والشر في القدر ، فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل . 
وقوله : ( من الجنة والناس    ) لأنه تعالى قال لإبليس : ( لأملأن جهنم منك وممن تبعك    ) وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي ، والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة ، وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح . وقوله : ( أجمعين    ) يحتمل وجهين . 
أحدهما : أن يكون تأكيدا وهو الظاهر . 
والثاني : أن يكون حالا أي مجموعين . 
فإن قيل : كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار ؟ نقول : هذا لبيان الجنس ، أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمنا للملائكة  ، ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل : ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس ، فإن قيل : فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلئ ببعض الخلق . نقول : هو كذلك ، وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة . والله أعلم . 
ولما بين الله تعالى بقوله : ( ولو شئنا لآتينا    ) أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم . 
				
						
						
