(
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب )
اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبرا جبارا بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السماوات ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج الجمع الكثير من المشبهة بهذه الآية في إثبات أن الله في السماوات وقرروا ذلك من وجوه ; الأول : أن فرعون كان من المنكرين لوجود الله ، وكل ما يذكره في صفات الله تعالى فذلك إنما يذكره لأجل أنه سمع أن
موسى يصف الله بذلك ، فهو أيضا يذكره كما سمعه ، فلولا أنه سمع
موسى يصف الله بأنه موجود في السماء وإلا لما طلبه في السماء . الوجه الثاني : أنه قال : وإني لأظنه كاذبا ، ولم يبين أنه كاذب في ماذا ، والمذكور السابق متعين لصرف الكلام إليه ، فكأن التقدير : فأطلع إلى الإله الذي يزعم
موسى أنه موجود في السماء ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وإني لأظنه كاذبا ) أي وإني لأظن
موسى كاذبا في ادعائه أن الإله موجود في السماء ، وذلك يدل على أن دين
موسى هو أن
nindex.php?page=treesubj&link=29640_29639الإله موجود في السماء . الوجه الثالث : العلم بأنه لو وجد إله لكان موجودا في السماء ، علم بديهي متقرر في كل العقول ، ولذلك فإن الصبيان إذا تضرعوا إلى الله رفعوا
[ ص: 57 ] وجوههم وأيديهم إلى السماء ، وإن فرعون مع نهاية كفره لما طلب الإله فقد طلبه في السماء ، وهذا يدل على أن العلم بأن الإله موجود في السماء علم متقرر في عقل الصديق والزنديق والملحد والعالم والجاهل .
فهذا جملة استدلالات المشبهة بهذه الآية ، والجواب : أن هؤلاء الجهال يكفيهم في كمال الخزي والضلال أن جعلوا قول فرعون اللعين حجة لهم على صحة دينهم ، وأما
موسى عليه السلام فإنه لم يزد في تعريف إله العالم على ذكر صفة الخلاقية فقال في سورة طه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [طه : 50] وقال في سورة الشعراء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=26ربكم ورب آبائكم الأولين ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=28رب المشرق والمغرب وما بينهما ) [الشعراء : 28] فظهر أن تعريف ذات الله بكونه في السماء دين فرعون وتعريفه بالخلاقية والموجودية دين
موسى ، فمن قال بالأول كان على دين فرعون ، ومن قال بالثاني كان على دين
موسى ، ثم نقول : لا نسلم أن كل ما يقوله فرعون في صفات الله تعالى فذلك قد سمعه من
موسى عليه السلام ، بل لعله كان على دين المشبهة فكان يعتقد أن الإله لو كان موجودا لكان حاصلا في السماء ، فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه لا لأجل أنه قد سمعه من
موسى عليه السلام .
وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وإني لأظنه كاذبا ) فنقول : لعله لما سمع
موسى عليه السلام قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=102رب السماوات والأرض ) [الإسراء : 102] ظن أنه عنى به أنه رب السماوات ، كما يقال للواحد منا : إنه رب الدار بمعنى كونه ساكنا فيه ، فلما غلب على ظنه ذلك حكى عنه ، وهذا ليس بمستبعد ، فإن فرعون كان بلغ في الجهل والحماقة إلى حيث لا يبعد نسبة هذا الخيال إليه ، فإن استبعد الخصم نسبة هذا الخيال إليه كان ذلك لائقا بهم ; لأنهم لما كانوا على دين فرعون وجب عليهم تعظيمه . وأما قوله : إن فطرة فرعون شهدت بأن الإله لو كان موجودا لكان في السماء ، قلنا : نحن لا ننكر أن فطرة أكثر الناس تخيل إليهم صحة ذلك لا سيما من بلغ في الحماقة إلى درجة فرعون فثبت أن هذا الكلام ساقط .
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماء أم لا؟ أما الظاهريون من المفسرين فقد قطعوا بذلك ، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء ذلك الصرح ، والذي عندي أنه بعيد ، والدليل عليه أن يقال : فرعون لا يخلو إما أن يقال : إنه كان من المجانين أو كان من العقلاء ، فإن قلنا : إنه كان من المجانين لم يجز من الله تعالى إرسال الرسول إليه ; لأن العقل شرط في التكليف ، ولم يجز من الله أن يذكر حكاية كلام مجنون في القرآن ، وأما إن قلنا : إنه كان من العقلاء فنقول : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي ، ويعلم أيضا ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر إليه من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليه من أعلى الجبال ، وإذا كان هذان العلمان بديهيين امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء ، وإذا كان فساد هذا معلوما بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون ، والذي عندي في تفسير هذه الآية أن فرعون كان من
الدهرية وغرضه من ذكر هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع ، وتقريره أنه قال : إنا لا نرى شيئا نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجز إثبات هذا الإله ، أما إنه لا نراه فلأنه لو كان موجودا لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه ، ثم إنه لأجل المبالغة في بيان أنه لا يمكنه صعود السماوات قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب ) والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله
[ ص: 58 ] بطريق الحس ممتنعا ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=35فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) [الأنعام : 35] وليس المراد منه أن
محمدا صلى الله عليه وسلم طلب نفقا في الأرض أو وضع سلما إلى السماء ، بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيل لك إلى تحصيل ذلك المقصود ، فكذا هاهنا غرض فرعون من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36ياهامان ابن لي صرحا ) يعني أن الاطلاع على إله
موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق وكان هذا الطريق ممتنعا ، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته
موسى . فنقول : هذا ما حصلته في هذا الباب .
واعلم أن هذه الشبهة فاسدة ; لأن طرق العلم ثلاثة الحس والخبر والنظر ، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب ; وذلك لأن
موسى عليه السلام كان قد بين لفرعون أن الطريق في معرفة الله تعالى إنما هو الحجة والدليل كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=26ربكم ورب آبائكم الأولين ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=28رب المشرق والمغرب ) ( الشعراء : 28 ) إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل ، وألقى إلى الجهال أنه لما كان لا طريق إلا الإحساس بهذا الإله وجب نفيه ، فهذا ما عندي في هذا الباب ، وبالله التوفيق والعصمة .
المسألة الثالثة : ذهب قوم إلى أنه تعالى خلق جواهر الأفلاك وحركاتها بحيث تكون هي الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم الأسفل ، واحتجوا بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات ) ومعلوم أنها ليست أسبابا إلا لحوادث هذا العالم قالوا : ويؤكد هذا بقوله تعالى في سورة ص : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=10فليرتقوا في الأسباب ) [ص : 10] أما المفسرون فقد ذكروا في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات ) أن المراد بأسباب السماوات طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها ، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب كالرشاد ونحوه .
المسألة الرابعة : قالت
اليهود : أطبق الباحثون عن تواريخ
بني إسرائيل وفرعون أن
هامان ما كان موجودا البتة في زمان
موسى وفرعون وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر ، فالقول بأن
هامان كان موجودا في زمان فرعون خطأ في التاريخ ، وليس لقائل أن يقول : إن وجود شخص يسمى
بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الاسم في زمانه ، قالوا : لأن هذا الشخص المسمى
بهامان الذي كان موجودا في زمان فرعون ما كان شخصا خسيسا في حضرة فرعون بل كان كالوزير له ، ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية ، فلو كان موجودا لعرف حاله ، وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون
وموسى أن الشخص المسمى
بهامان ما كان موجودا في زمان فرعون وإنما جاء بعده بأدوار علم أنه غلط وقع في التواريخ ، قالوا : ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة إنما جاء بعد
محمد صلى الله عليه وسلم فلو أن قائلا ادعى أن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة كان موجودا في زمان
محمد عليه السلام ، وزعم أنه شخص آخر سوى الأول وهو أيضا يسمى
nindex.php?page=showalam&ids=11990بأبي حنيفة ، فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه فكذا هاهنا . والجواب : أن تواريخ
موسى وفرعون قد طال العهد بها واضطربت الأحوال والأدوار فلم يبق على كلام أهل التواريخ اعتماد في هذا الباب ، فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى بخلاف حال رسولنا مع
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة فإن هذه التواريخ قريبة غير مضطربة ، بل هي مضبوطة فظهر الفرق بين البابين ، فهذا جملة ما يتعلق بالمباحث المعنوية في هذه الآية ، وبقي ما يتعلق بالمباحث اللفظية .
قيل : "الصرح" البناء الظاهر لا يخفى على الناظر وإن بعد ، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر و (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37أسباب السماوات ) طرقها ، فإن قيل : ما فائدة هذا التكرير ، لو قيل : لعلي أبلغ أسباب السماوات ، كان
[ ص: 59 ] كافيا؟ أجاب صاحب "الكشاف" عنه فقال : إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيما لشأنه ، فلما أراد تفخيم أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37فأطلع إلى إله موسى ) قرأ
حفص عن
عاصم "فأطلع" بفتح العين والباقون بالرفع ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : من رفع فقد عطفه على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36أبلغ ) والتقدير (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36لعلي أبلغ الأسباب ) ثم أطلع إلا أن حرف ثم أشد تراخيا من الفاء ، ومن نصب جعله جوابا ، والمعنى لعلي أبلغ الأسباب فمتى بلغتها أطلع والمعنى مختلف ; لأن الأول : لعلي أطلع ، والثاني : لعلي أبلغ وأنا ضامن أني متى بلغت فلا بد وأن أطلع .
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذه القصة قال بعدها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
عاصم وحمزة والكسائي "وصد" بضم الصاد ، قال
أبو عبيدة : وبه يقرأ ; لأن ما قبله فعل مبني للمفعول به فجعل ما عطف عليه مثله ، والباقون "وصد" بفتح الصاد على أنه منع الناس عن الإيمان ، قالوا : ومن صده قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=124لأقطعن أيديكم وأرجلكم ) [الأعراف : 124] ويؤيد هذه القراءة قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=1الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ) [الفتح : 25] .
المسألة الثانية : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37زين ) لا بد له من المزين ، فقالت
المعتزلة : إنه الشيطان ، فقيل لهم : إن كان المزين لفرعون هو الشيطان ، فالمزين للشيطان إن كان شيطانا آخر لزم إثبات التسلسل في الشياطين أو الدور وهو محال ، ولما بطل ذلك وجب انتهاء الأسباب والمسببات في درجات الحاجات إلى واجب الوجود ، وأيضا فقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37زين ) يدل على أن الشيء إن لم يكن في اعتقاد الفاعل موصوفا بأنه خير وزينة وحسن فإنه لا يقدم عليه ، إلا أن ذلك الاعتقاد إن كان صوابا فهو العلم ، وإن كان خطأ فهو الجهل ، ففاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان ; لأن العاقل لا يقصد تحصيل الجهل لنفسه ، ولأنه إنما يقصد تحصيل الجهل لنفسه إذا عرف كونه جهلا ، ومتى عرف كونه جهلا امتنع بقاؤه جاهلا ، فثبت أن فاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان ، ولا يجوز أن يكون فاعله هو الشيطان ; لأن البحث الأول بعينه عائد فيه ، فلم يبق إلا أن يكون فاعله هو الله تعالى . والله أعلم . ويقوي ما قلناه أن صاحب "الكشاف" نقل أنه قرئ "وزين له سوء عمله" على البناء للفاعل والفعل لله عز وجل ، ويدل عليه قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37إلى إله موسى ) .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وما كيد فرعون إلا في تباب ) والتباب الهلاك والخسران ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=101وما زادوهم غير تتبيب ) [هود : 101] وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تبت يدا أبي لهب ) [المسد : 1] . والله أعلم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ )
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ فِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا بَيَّنَ أَنَّهُ أَبْلَغَ فِي الْبَلَادَةِ وَالْحَمَاقَةِ إِلَى أَنْ قَصَدَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاوَاتِ ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : احْتَجَّ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَقَرَّرُوا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ ; الْأَوَّلُ : أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللَّهِ ، وَكُلُّ مَا يَذْكُرُهُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ إِنَّمَا يَذْكُرُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ
مُوسَى يَصِفُ اللَّهَ بِذَلِكَ ، فَهُوَ أَيْضًا يَذْكُرُهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ سَمِعَ
مُوسَى يَصِفُ اللَّهَ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَّا لَمَا طَلَبَهُ فِي السَّمَاءِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي مَاذَا ، وَالْمَذْكُورُ السَّابِقُ مُتَعَيِّنٌ لِصَرْفِ الْكَلَامِ إِلَيْهِ ، فَكَأَنَّ التَّقْدِيرَ : فَأَطَّلِعَ إِلَى الْإِلَهِ الَّذِي يَزْعُمُ
مُوسَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ) أَيْ وَإِنِّي لَأَظُنُّ
مُوسَى كَاذِبًا فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ
مُوسَى هُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29640_29639الْإِلَهَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ إِلَهٌ لَكَانَ مَوْجُودًا فِي السَّمَاءِ ، عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ مُتَقَرِّرٌ فِي كُلِّ الْعُقُولِ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الصِّبْيَانَ إِذَا تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ رَفَعُوا
[ ص: 57 ] وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ نِهَايَةِ كُفْرِهِ لَمَّا طَلَبَ الْإِلَهَ فَقَدْ طَلَبَهُ فِي السَّمَاءِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْإِلَهَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَاءِ عِلْمٌ مُتَقَرِّرٌ فِي عَقْلِ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ وَالْمُلْحِدِ وَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ .
فَهَذَا جُمْلَةُ اسْتِدْلَالَاتِ الْمُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالَ يَكْفِيهِمْ فِي كَمَالِ الْخِزْيِ وَالضَّلَالِ أَنْ جَعَلُوا قَوْلَ فِرْعَوْنَ اللَّعِينَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ ، وَأَمَّا
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِي تَعْرِيفِ إِلَهِ الْعَالَمِ عَلَى ذِكْرِ صِفَةِ الْخَلَّاقِيَّةِ فَقَالَ فِي سُورَةِ طه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) [طه : 50] وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=26رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=28رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) [الشُّعَرَاءِ : 28] فَظَهَرَ أَنَّ تَعْرِيفَ ذَاتِ اللَّهِ بِكَوْنِهِ فِي السَّمَاءِ دِينُ فِرْعَوْنَ وَتَعْرِيفَهُ بِالْخَلَّاقِيَّةِ وَالْمَوْجُودِيَّةِ دِينُ
مُوسَى ، فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ كَانَ عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي كَانَ عَلَى دِينِ
مُوسَى ، ثُمَّ نَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ فِرْعَوْنُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، بَلْ لَعَلَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ الْمُشَبِّهَةِ فَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِلَهَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ حَاصِلًا فِي السَّمَاءِ ، فَهُوَ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الِاعْتِقَادَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ) فَنَقُولُ : لَعَلَّهُ لَمَّا سَمِعَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=102رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [الْإِسْرَاءِ : 102] ظَنَّ أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ ، كَمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَّا : إِنَّهُ رَبُّ الدَّارِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ سَاكِنًا فِيهِ ، فَلَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ حَكَى عَنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ بَلَغَ فِي الْجَهْلِ وَالْحَمَاقَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَبْعُدُ نِسْبَةُ هَذَا الْخَيَالِ إِلَيْهِ ، فَإِنِ اسْتَبْعَدَ الْخَصْمُ نِسْبَةَ هَذَا الْخَيَالِ إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا بِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ فِطْرَةَ فِرْعَوْنَ شَهِدَتْ بِأَنَّ الْإِلَهَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ فِي السَّمَاءِ ، قُلْنَا : نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ فِطْرَةَ أَكْثَرِ النَّاسِ تُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا مَنْ بَلَغَ فِي الْحَمَاقَةِ إِلَى دَرَجَةِ فِرْعَوْنَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقِطٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ قَصَدَ بِنَاءَ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ مِنْهُ إِلَى السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ أَمَّا الظَّاهِرِيُّونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَقَدْ قَطَعُوا بِذَلِكَ ، وَذَكَرُوا حِكَايَةً طَوِيلَةً فِي كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ ذَلِكَ الصَّرْحِ ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ بَعِيدٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : فِرْعَوْنُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَجَانِينِ أَوْ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَجَانِينِ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِرْسَالُ الرَّسُولِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ ، وَلَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَةَ كَلَامِ مَجْنُونٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَنَقُولُ : إِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ وَضْعُ بِنَاءٍ يَكُونُ أَرْفَعَ مِنَ الْجَبَلِ الْعَالِي ، وَيَعْلَمُ أَيْضًا بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فِي الْبَصَرِ حَالُ السَّمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِبَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ أَعْلَى الْجِبَالِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَانِ الْعِلْمَانِ بَدِيهِيَّيْنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ الْعَاقِلُ وَضْعَ بِنَاءٍ يَصْعَدُ مِنْهُ إِلَى السَّمَاءِ ، وَإِذَا كَانَ فَسَادُ هَذَا مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ امْتَنَعَ إِسْنَادُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مِنَ
الدَّهْرِيَّةِ وَغَرَضُهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ إِيرَادُ شُبْهَةٍ فِي نَفْيِ الصَّانِعِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّا لَا نَرَى شَيْئًا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِلَهُ الْعَالَمِ فَلَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُ هَذَا الْإِلَهِ ، أَمَّا إِنَّهُ لَا نَرَاهُ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى صُعُودِ السَّمَاوَاتِ فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَرَاهُ ، ثُمَّ إِنَّهُ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ صُعُودُ السَّمَاوَاتِ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ ) وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ مُمْتَنِعٌ كَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ اللَّهِ
[ ص: 58 ] بِطَرِيقِ الْحِسِّ مُمْتَنِعًا ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=35فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) [الْأَنْعَامِ : 35] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ وَضَعَ سُلَّمًا إِلَى السَّمَاءِ ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا عُرِفَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُمْتَنِعٌ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ ، فَكَذَا هَاهُنَا غَرَضُ فِرْعَوْنَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا ) يَعْنِي أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى إِلَهِ
مُوسَى لَمَّا كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مُمْتَنِعًا ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ الَّذِي يُثْبِتُهُ
مُوسَى . فَنَقُولُ : هَذَا مَا حَصَّلْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فَاسِدَةٌ ; لِأَنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ ثَلَاثَةٌ الْحِسُّ وَالْخَبَرُ وَالنَّظَرُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحِسُّ انْتِفَاءَ الْمَطْلُوبِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=26رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=28رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) ( الشُّعَرَاءِ : 28 ) إِلَّا أَنَّ فِرْعَوْنَ لِخُبْثِهِ وَمَكْرِهِ تَغَافَلَ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ، وَأَلْقَى إِلَى الْجُهَّالِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا طَرِيقَ إِلَّا الْإِحْسَاسُ بِهَذَا الْإِلَهِ وَجَبَ نَفْيُهُ ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ جَوَاهِرَ الْأَفْلَاكِ وَحَرَكَاتِهَا بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْأَسْبَابُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْبَابًا إِلَّا لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ قَالُوا : وَيُؤَكِّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=10فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ) [ص : 10] أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) أَنَّ الْمُرَادَ بِأَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ طُرُقُهَا وَأَبْوَابُهَا وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا ، وَكُلُّ مَا أَدَّاكَ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ سَبَبٌ كَالرَّشَادِ وَنَحْوِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَتِ
الْيَهُودُ : أَطْبَقَ الْبَاحِثُونَ عَنْ تَوَارِيخِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِرْعَوْنَ أَنَّ
هَامَانَ مَا كَانَ مَوْجُودًا الْبَتَّةَ فِي زَمَانِ
مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا جَاءَ بَعْدَهُمَا بِزَمَانٍ مَدِيدٍ وَدَهْرٍ دَاهِرٍ ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ
هَامَانَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ فِي التَّارِيخِ ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ وُجُودَ شَخْصٍ يُسَمَّى
بِهَامَانَ بَعْدَ زَمَانِ فِرْعَوْنَ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ فِي زَمَانِهِ ، قَالُوا : لِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمُسَمَّى
بِهَامَانَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ مَا كَانَ شَخْصًا خَسِيسًا فِي حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ بَلْ كَانَ كَالْوَزِيرِ لَهُ ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ لَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْوَصْفِ وَالْحِلْيَةِ ، فَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَعُرِفَ حَالُهُ ، وَحَيْثُ أَطْبَقَ الْبَاحِثُونَ عَنْ أَحْوَالِ فِرْعَوْنَ
وَمُوسَى أَنَّ الشَّخْصَ الْمُسَمَّى
بِهَامَانَ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ وَإِنَّمَا جَاءَ بَعْدَهُ بِأَدْوَارٍ عُلِمَ أَنَّهُ غَلَطٌ وَقَعَ فِي التَّوَارِيخِ ، قَالُوا : وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّا نَعْرِفُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا ادَّعَى أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَانِ
مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ شَخْصٌ آخَرُ سِوَى الْأَوَّلِ وَهُوَ أَيْضًا يُسَمَّى
nindex.php?page=showalam&ids=11990بِأَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ أَصْحَابَ التَّوَارِيخِ يَقْطَعُونَ بِخَطَئِهِ فَكَذَا هَاهُنَا . وَالْجَوَابُ : أَنَّ تَوَارِيخَ
مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قَدْ طَالَ الْعَهْدُ بِهَا وَاضْطَرَبَتِ الْأَحْوَالُ وَالْأَدْوَارُ فَلَمْ يَبْقَ عَلَى كَلَامِ أَهْلِ التَّوَارِيخِ اعْتِمَادٌ فِي هَذَا الْبَابِ ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِخِلَافِ حَالِ رَسُولِنَا مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ هَذِهِ التَّوَارِيخَ قَرِيبَةٌ غَيْرُ مُضْطَرِبَةٍ ، بَلْ هِيَ مَضْبُوطَةٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ .
قِيلَ : "الصَّرْحُ" الْبِنَاءُ الظَّاهِرُ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ وَإِنْ بَعُدَ ، اشْتَقُّوهُ مِنْ صَرْحِ الشَّيْءِ إِذَا ظَهَرَ وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ) طُرُقُهَا ، فَإِنْ قِيلَ : مَا فَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ ، لَوْ قِيلَ : لَعَلِّي أَبْلُغُ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ، كَانَ
[ ص: 59 ] كَافِيًا؟ أَجَابَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ" عَنْهُ فَقَالَ : إِذَا أُبْهِمَ الشَّيْءُ ثُمَّ أُوضِحَ كَانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ ، فَلَمَّا أَرَادَ تَفْخِيمَ أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ أَبْهَمَهَا ثُمَّ أَوْضَحَهَا ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) قَرَأَ
حَفْصٌ عَنْ
عَاصِمٍ "فَأَطَّلِعَ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15153الْمُبَرِّدُ : مَنْ رَفَعَ فَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36أَبْلُغُ ) وَالتَّقْدِيرُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ) ثُمَّ أَطَّلِعُ إِلَّا أَنَّ حَرْفَ ثُمَّ أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنَ الْفَاءِ ، وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَهُ جَوَابًا ، وَالْمَعْنَى لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ فَمَتَى بَلَغْتُهَا أَطَّلِعُ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ : لَعَلِّي أَطَّلِعُ ، وَالثَّانِي : لَعَلِّي أَبْلُغُ وَأَنَا ضَامِنٌ أَنِّي مَتَى بَلَغْتُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ أَطَّلِعَ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ بَعْدَهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَرَأَ
عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "وَصُدَّ" بِضَمِّ الصَّادِ ، قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : وَبِهِ يُقْرَأُ ; لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ بِهِ فَجَعَلَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ ، وَالْبَاقُونَ "وَصَدَّ" بِفَتْحِ الصَّادِ عَلَى أَنَّهُ مَنَعَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ ، قَالُوا : وَمِنْ صَدِّهِ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=124لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) [الْأَعْرَافِ : 124] وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=1الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=25هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) [الْفَتْحِ : 25] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37زُيِّنَ ) لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُزَيِّنِ ، فَقَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : إِنَّهُ الشَّيْطَانُ ، فَقِيلَ لَهُمْ : إِنْ كَانَ الْمُزَيِّنُ لِفِرْعَوْنَ هُوَ الشَّيْطَانُ ، فَالْمُزَيِّنُ لِلشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ إِثْبَاتُ التَّسَلْسُلِ فِي الشَّيَاطِينِ أَوِ الدَّوْرِ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ انْتِهَاءُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ فِي دَرَجَاتِ الْحَاجَاتِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37زُيِّنَ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِ الْفَاعِلِ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ خَيْرٌ وَزِينَةٌ وَحُسْنٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ إِنْ كَانَ صَوَابًا فَهُوَ الْعِلْمُ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَهُوَ الْجَهْلُ ، فَفَاعِلُ ذَلِكَ الْجَهْلِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ ; لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ لِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ لِنَفْسِهِ إِذَا عَرَفَ كَوْنَهُ جَهْلًا ، وَمَتَى عَرَفَ كَوْنَهُ جَهْلًا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ جَاهِلًا ، فَثَبَتَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ الْجَهْلِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ الشَّيْطَانُ ; لِأَنَّ الْبَحْثَ الْأَوَّلَ بِعَيْنِهِ عَائِدٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَيُقَوِّي مَا قُلْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ "الْكَشَّافِ" نَقَلَ أَنَّهُ قُرِئَ "وَزَيَّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ" عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالْفِعْلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ) وَالتَّبَابُ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=101وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) [هُودٍ : 101] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) [الْمَسَدِ : 1] . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .