ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12nindex.php?page=treesubj&link=29012_31756وأوحى في كل سماء أمرها ) قال
مقاتل أمر في كل سماء بما أراد ، وقال
قتادة : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ، وقال
السدي : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد ، قال : ولله في كل سماء بيت يحج إليه ويطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل الكعبة ، ولو وقعت منه حصاة ما وقعت إلا على الكعبة ، والأقرب أن يقال : قد ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص .
فمن
nindex.php?page=treesubj&link=29747الملائكة من هو في القيام في أول خلق العالم إلى قيام القيامة ، ومنهم ركوع لا ينتصبون ومنهم سجود لا يرفعون ، وإذا كان ذلك الأمر مختصا بأهل ذلك السماء كان ذلك الأمر مختصا بتلك السماء ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12وأوحى في كل سماء أمرها ) أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ) [ الأعراف : 4 ] والمعنى فكان قد جاءها .
هذا ما نقله
الواحدي وهو عندي ضعيف ؛ لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى ، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما يفيد التناقض ، ونظيره قول القائل : ضربت اليوم زيدا ثم ضربت عمرا بالأمس ، فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه ، وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه .
والمختار عندي أن يقال : خلق السماوات مقدم على خلق الأرض ، بقي أن يقال : كيف تأويل هذه الآية ؟ فنقول : الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد ، بل هو عبارة عن التقدير ، والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=9خلق الأرض في يومين ) معناه أنه قضى بحدوثه في يومين ، وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا ، لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال ، فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء ، ولا يلزم منه تقدم إحداث الأرض على إحداث السماء ، وحينئذ يزول السؤال ، فهذا ما وصلت إليه في هذه الموضع المشكل .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) .
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان :
القول الأول : أن تجري هذه الآية على ظاهرها ، فنقول : إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه ، قال القائلون بهذا القول : وهذا غير مستبعد ، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع
داود عليه السلام ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10ياجبال أوبي معه والطير ) [ سبأ : 10 ]
[ ص: 94 ] والله تعالى تجلى للجبل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143فلما تجلى ربه للجبل ) [ الأعراف : 143 ] والله تعالى أنطق الأيدي والأرجل ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=24يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) [ النور : 24 ] وإذ كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله في ذات السماء والأرض حياة وعقلا وفهما ، ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما ، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه :
الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع ، وههنا لا مانع ، فوجب إجراؤه على ظاهره .
الثاني : أنه تعالى أخبر عنهما ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11قالتا أتينا طائعين ) وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم .
الثالث : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=72إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ) [ الأحزاب : 72 ] وهذا يدل على كونها عارفة بالله ، مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها ، والإشكال عليه أن يقال : المراد من قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ائتيا طوعا أو كرها ) الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول ، وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السماوات والأرض معدومة ، إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال : يا موجود كن موجودا ، وذلك لا يجوز فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة ، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب ، فلم يجز توجيه الأمر عليها .
فإن قال قائل : روى
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : قال الله سبحانه للسماوات : أطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : شققي أنهارك وأخرجي ثمارك ، وكان الله تعالى أودع فيهما هذه الأشياء ثم أمرهما بإبرازها وإظهارها ، فنقول فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11أتينا طائعين ) حدوثهما في ذاتهما ، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعا فيهما ، إلا أن هذا الكلام باطل ؛ لأنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12فقضاهن سبع سماوات في يومين ) والفاء للتعقيب ، وذلك يدل على أن حدوث السماوات إنما حصل بعد قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ائتيا طوعا أو كرها ) فهذا جملة ما يمكن ذكره في هذا البحث .
القول الثاني : أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ) ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السماوات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع ، ونظيره قول القائل : قال الجدار للوتد لم تشقني ؟ قال الوتد : اسأل من يدقني ، فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي .
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر ، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذا قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، وقد بينا أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ائتيا طوعا أو كرها ) إنما حصل قبل وجودهما ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ائتيا طوعا أو كرها ) على الأمر والتكليف ، فوجب حمله على ما ذكرنا .
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما ، وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السماوات الملائكة ، أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء ، وليس في الآية ما يدل على أنه إنما
nindex.php?page=treesubj&link=31750خلق الملائكة مع السماوات ، أو أنه تعالى خلقهم قبل السماوات ، ثم إنه تعالى أسكنهم فيها ، وأيضا ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها ، وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر ، بل هي أعلى من مصاعد أفهامهم ومرامي أوهامهم
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12وزينا السماء الدنيا بمصابيح ) وهي النيرات التي خلقها في السماوات ، وخص كل واحد بضوء معين ، وسر معين ، وطبيعة معينة ، لا يعرفها إلا الله ، ثم قال : ( وحفظا ) يعني وحفظناها حفظا ، يعني من الشياطين الذين يسترقون السمع ، فأعد لكل شيطان نجما يرميه به ولا يخطئه ،
[ ص: 95 ] فمنها ما يحرق ، ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلا ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=hadith&LINKID=16013662أن اليهود سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن خلق السماوات والأرض ، فقال : " خلق الله تعالى الأرض في يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال والشجر في يومين ، وخلق في يوم الخميس السماء ، وخلق في يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ، ثم خلق آدم عليه السلام وأسكنه الجنة ، ثم قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد ؟ قال : ثم استوى على العرش ، قالوا : ثم استراح فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم " فنزل قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38وما مسنا من لغوب ) [ ق : 38 ] .
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل ، قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12ذلك تقدير العزيز العليم ) والعزيز إشارة إلى
nindex.php?page=treesubj&link=33679كمال القدرة ، والعليم إشارة إلى كمال العلم ، وما أحسن هذه الخاتمة ؛ لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12nindex.php?page=treesubj&link=29012_31756وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) قَالَ
مُقَاتِلٌ أَمَرَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بِمَا أَرَادَ ، وَقَالَ
قَتَادَةُ : خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا ، وَقَالَ
السُّدِّيُّ : خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءِ خَلَقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ ، قَالَ : وَلِلَّهِ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَحُجُّ إِلَيْهِ وَيَطُوفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُقَابِلَ الْكَعْبَةِ ، وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ حَصَاةٌ مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْكَعْبَةِ ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ : قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ ، وَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ تَكْلِيفٌ خَاصٌّ .
فَمِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=29747الْمَلَائِكَةِ مَنْ هُوَ فِي الْقِيَامِ فِي أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ ، وَمِنْهُمْ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَمِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْفَعُونَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ ذَلِكَ السَّمَاءِ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ السَّمَاءِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) أَيْ وَكَانَ قَدْ خَصَّ كُلَّ سَمَاءٍ بِالْأَمْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ) [ الْأَعْرَافِ : 4 ] وَالْمَعْنَى فَكَانَ قَدْ جَاءَهَا .
هَذَا مَا نَقَلَهُ
الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ ثُمَّ كَانَ قَدِ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ قَدْ أَوْحَى ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ وَكَلِمَةَ كَانَ تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُفِيدُ التَّنَاقُضَ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ : ضَرَبْتُ الْيَوْمَ زَيْدًا ثُمَّ ضَرَبْتُ عَمْرًا بِالْأَمْسِ ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ فَكَذَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ كَلَامِ اللَّهِ بِمَا لَا يُؤَدِّي إِلَى وُقُوعِ التَّنَاقُضِ وَالرَّكَاكَةِ فِيهِ .
وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ : خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ ، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : كَيْفَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ ؟ فَنَقُولُ : الْخَلْقُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ التَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ ، وَالتَّقْدِيرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ حُكْمُهُ بِأَنَّهُ سَيُوجِدُهُ وَقَضَاؤُهُ بِذَلِكَ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=9خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَضَى بِحُدُوثِهِ فِي يَوْمَيْنِ ، وَقَضَاءُ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيُحْدِثُ كَذَا فِي مُدَّةِ كَذَا ، لَا يَقْتَضِي حُدُوثَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ ، فَقَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِحُدُوثِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى إِحْدَاثِ السَّمَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقَدُّمُ إِحْدَاثِ الْأَرْضِ عَلَى إِحْدَاثِ السَّمَاءِ ، وَحِينَئِذٍ يَزُولُ السُّؤَالُ ، فَهَذَا مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوْضِعِ الْمُشْكِلِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) .
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِالْإِتْيَانِ فَأَطَاعَا وَامْتَثَلَا وَعِنْدَ هَذَا حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ :
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَنْ تَجْرِيَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، فَنَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمَا بِالْإِتْيَانِ فَأَطَاعَاهُ ، قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ : وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْجِبَالَ أَنْ تَنْطِقَ مَعَ
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=10يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) [ سَبَأٍ : 10 ]
[ ص: 94 ] وَاللَّهُ تَعَالَى تَجَلَّى لِلْجَبَلِ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) [ الْأَعْرَافِ : 143 ] وَاللَّهُ تَعَالَى أَنْطَقَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=24يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ النُّورِ : 24 ] وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي ذَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَيَاةً وَعَقْلًا وَفَهْمًا ، ثُمَّ يُوَجِّهُ الْأَمْرَ وَالتَّكْلِيفَ عَلَيْهِمَا ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِوُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَّا إِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ ، وَهَهُنَا لَا مَانِعَ ، فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمَا ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) وَهَذَا الْجَمْعُ جَمْعُ مَا يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=72إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ) [ الْأَحْزَابِ : 72 ] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا عَارِفَةً بِاللَّهِ ، مَخْصُوصَةً بِتَوْجِيهِ تَكَالِيفِ اللَّهِ عَلَيْهَا ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) الْإِتْيَانُ إِلَى الْوُجُودِ وَالْحُدُوثُ وَالْحُصُولُ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَحَالَ تَوَجَّهَ هَذَا الْأَمْرُ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مَعْدُومَةً ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُقَالَ : يَا مَوْجُودُ كُنْ مَوْجُودًا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّهَا حَالَ تَوَجَّهَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيْهَا كَانَتْ مَعْدُومَةً ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً لَمْ تَكُنْ فَاهِمَةً وَلَا عَارِفَةً لِلْخِطَابِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَوْجِيهُ الْأَمْرِ عَلَيْهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلسَّمَاوَاتِ : أَطْلِعِي شَمْسَكِ وَقَمَرَكِ وَنُجُومَكِ ، وَقَالَ لِلْأَرْضِ : شَقِّقِي أَنْهَارَكِ وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهِمَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ أَمَرَهُمَا بِإِبْرَازِهَا وَإِظْهَارِهَا ، فَنَقُولُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) حُدُوثَهُمَا فِي ذَاتِهِمَا ، بَلْ يَصِيرُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُظْهِرَا مَا كَانَ مُودَعًا فِيهِمَا ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ السَّمَاوَاتِ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَوْجِيهَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ تَكْوِينَهُمَا فَلَمْ يَمْتَنِعَا عَلَيْهِ وَوُجِدَتَا كَمَا أَرَادَهُمَا ، وَكَانَتَا فِي ذَلِكَ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَمِيرِ الْمُطَاعِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ : قَالَ الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي ؟ قَالَ الْوَتِدُ : اسْأَلْ مَنْ يَدُقُّنِي ، فَإِنَّ الْحَجَرَ الَّذِي وَرَائِي مَا خَلَّانِي وَرَائِي .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ ، وَإِنَّمَا جَازَ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) إِنَّمَا حَصَلَ قَبْلَ وُجُودِهِمَا ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) عَلَى الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ فِيهِمَا مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الْمَأْمُورِ فِيهِمَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَسْكَنَ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ الْمَلَائِكَةَ ، أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=31750خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مَعَ السَّمَاوَاتِ ، أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَسْكَنَهُمْ فِيهَا ، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ الشَّرَائِعِ الَّتِي أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِهَا ، وَهَذِهِ الْأَسْرَارُ لَا تَلِيقُ بِعُقُولِ الْبَشَرِ ، بَلْ هِيَ أَعْلَى مِنْ مَصَاعِدِ أَفْهَامِهِمْ وَمَرَامِي أَوْهَامِهِمْ
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) وَهِيَ النَّيِّرَاتُ الَّتِي خَلَقَهَا فِي السَّمَاوَاتِ ، وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِضَوْءٍ مُعَيَّنٍ ، وَسِرٍّ مُعَيَّنٍ ، وَطَبِيعَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : ( وَحِفْظًا ) يَعْنِي وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا ، يَعْنِي مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ ، فَأَعَدَّ لِكُلِّ شَيْطَانٍ نَجْمًا يَرْمِيهِ بِهِ وَلَا يُخْطِئُهُ ،
[ ص: 95 ] فَمِنْهَا مَا يَحْرِقُ ، وَمِنْهَا مَا يَقْتُلُ وَمِنْهَا مَا يَجْعَلُهُ مُخَبَّلًا ، وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=16013662أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فَقَالَ : " خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالشَّجَرَ فِي يَوْمَيْنِ ، وَخَلَقَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ ، وَخَلَقَ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْمَلَائِكَةَ ، ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ : ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ، قَالُوا : ثُمَّ اسْتَرَاحَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) [ ق : 38 ] .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ ، قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) وَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=33679كَمَالِ الْقُدْرَةِ ، وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ ، وَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ وَعِلْمٍ مُحِيطٍ .