[ ص: 144 ] ولنرجع إلى التفسير : أورد صاحب "الكشاف" على نفسه سؤالا ، فقال : هلا قيل إلا مودة القربى ، أو إلا مودة للقربى ، وما معنى قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=23إلا المودة في القربى ) ؟ وأجاب عنه بأن قال : جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ؛ كقوله : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=23ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) قيل : نزلت هذه الآية في
أبي بكر - رضي الله عنه - ، والظاهر العموم في أي حسنة كانت ، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة في القربى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=23إن الله غفور شكور ) والشكور في حق الله تعالى مجاز ، والمعنى : أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم ، وفي أن يزيد عليه أنواعا كثيرة من التفضيل .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24أم يقولون افترى على الله كذبا ) واعلم أن الكلام في أول السورة إنما ابتدئ في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بوحي الله ، وهو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=3كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) [الشورى : 3] واتصل الكلام في تقرير هذا المعنى ، وتعلق البعض بالبعض حتى وصل إلى ههنا ، ثم حكى ههنا شبهة القوم ، وهي قولهم : إن هذا ليس وحيا من الله تعالى ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24أم يقولون افترى على الله كذبا ) قال صاحب "الكشاف" : "أم" منقطعة ، ومعنى الهمزة نفس التوبيخ ؛ كأنه قيل : أيقع في قلوبهم ويجري في ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله ، الذي هو أقبح أنواع الفرية وأفحشها ، ثم أجاب عنه بأن قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24فإن يشأ الله يختم على قلبك ) وفيه وجوه :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم "إنه مفتر كذاب" .
والثاني : يعني بهذا الكلام أنه إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى يفتري عليه الكذب ، فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل هذه الحالة ، والمقصود من ذكر هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد ، ومثاله أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة ، فيقول الأمين : لعل الله خذلني ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه ، وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة عنه .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24ويمح الله الباطل ويحق الحق ) أي : ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق ، فلو كان
محمد مبطلا كذابا لفضحه الله ولكشف عن باطله ، ولما أيده بالقوة والنصرة ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس من الكاذبين المفترين على الله ، ويجوز أن يكون هذا وعدا من الله لرسوله بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والفرية والتكذيب ، ويثبت الحق الذي كان
محمد - صلى الله عليه وسلم - عليه .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24إنه عليم بذات الصدور ) أي : إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك ، وعن
قتادة : يختم على قلبك ينسيك القرآن ، ويقطع عنك الوحي ، بمعنى : لو افترى على الله الكذب لفعل الله به ذلك .
واعلم أنه تعالى لما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24أم يقولون افترى على الله كذبا ) ثم برأ رسوله مما أضافوه إليه من هذا ، وكان من المعلوم أنهم قد استحقوا بهذه الفرية عقابا عظيما ، لا جرم ندبهم الله على التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء وإن عظمت إساءته ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ) وفي هذه الآية مسائل :
[ ص: 145 ] المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : يقال قبلت منه الشيء وقبلته عنه ، فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبول ومنشأه ، ومعنى قبلته عنه أخذته وأثبته عنه ، وقد سبق البحث المستقصى عن
nindex.php?page=treesubj&link=19704حقيقة التوبة في سورة البقرة ، وأقل ما لا بد منه الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل ، وروى
جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، وكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له
علي - عليه السلام - : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، فتوبتك تحتاج إلى توبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة ؟ فقال : اسم يقع على ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة ؛ كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته .
المسألة الثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=19728_29682_28783قالت المعتزلة : يجب على الله تعالى عقلا قبول التوبة ، وقال أصحابنا : لا يجب على الله شيء ، وكل ما يفعله فإنما يفعله بالكرم والفضل ، واحتجوا على صحة مذهبهم بهذه الآية ، فقالوا : إنه تعالى تمدح بقبول التوبة ، ولو كان ذلك القبول واجبا لما حصل التمدح العظيم ، ألا ترى أن من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلما ولا يقتلهم غضبا ، كان ذلك مدحا قليلا ، أما إذا قال : إني أحسن إليهم مع أن ذلك لا يجب علي - كان ذلك مدحا وثناء .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25ويعفو عن السيئات ) إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد الإتيان بالتوبة ، أو المراد منه أنه يعفو عن الصغائر ، أو المراد منه أنه يعفو عن الكبائر قبل التوبة ، والأول باطل ، وإلا لصار قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25ويعفو عن السيئات ) عين قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وهو الذي يقبل التوبة ) والتكرار خلاف الأصل ، والثاني أيضا باطل ؛ لأن ذلك واجب ، وأداء الواجب لا يتمدح به ، فبقي القسم الثالث ، فيكون المعنى : أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة ، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة .
[ ص: 144 ] وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ : أَوْرَدَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ" عَلَى نَفْسِهِ سُؤَالًا ، فَقَالَ : هَلَّا قِيلَ إِلَّا مَوَدَّةَ الْقُرْبَى ، أَوْ إِلَّا مَوَدَّةً لِلْقُرْبَى ، وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=23إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ : جَعَلُوا مَكَانًا لِلْمَوَدَّةِ وَمَقَرًّا لَهَا ؛ كَقَوْلِهِ : لِي فِي آلِ فُلَانٍ مَوَدَّةٌ ، وَلِي فِيهِمْ هَوًى وَحُبٌّ شَدِيدٌ ، تُرِيدُ : أُحِبُّهُمْ وَهُمْ مَكَانُ حُبِّي وَمَحِلُّهُ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=23وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) قِيلَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي أَيِّ حَسَنَةٍ كَانَتْ ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا ذُكِرَتْ عَقِيبَ ذِكْرِ الْمَوَدَّةِ فِي الْقُرْبَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّأْكِيدُ فِي تِلْكَ الْمَوَدَّةِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=23إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) وَالشَّكُورُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ تَعَالَى يُحْسِنُ إِلَى الْمُطِيعِينَ فِي إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِمْ ، وَفِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّفْضِيلِ .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ إِنَّمَا حَصَلَ بِوَحْيِ اللَّهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=3كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [الشُّورَى : 3] وَاتَّصَلَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَتَعَلَّقَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى هَهُنَا ، ثُمَّ حَكَى هَهُنَا شُبْهَةَ الْقَوْمِ ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ : إِنَّ هَذَا لَيْسَ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) قَالَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ" : "أَمْ" مُنْقَطِعَةٌ ، وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ نَفْسُ التَّوْبِيخِ ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ : أَيَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَجْرِي فِي أَلْسِنَتِهِمْ أَنْ يَنْسُبُوا مِثْلَهُ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ ، الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْفِرْيَةِ وَأَفْحَشُهَا ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) وَفِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٌ : يَرْبِطْ عَلَى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ حَتَّى لَا يَشُقَّ عَلَيْكَ قَوْلُهُمْ "إِنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ" .
وَالثَّانِي : يَعْنِي بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَجْعَلْكَ مِنَ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ الِاسْتِبْعَادِ ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَنْسُبَ رَجُلٌ بَعْضَ الْأُمَنَاءِ إِلَى الْخِيَانَةِ ، فَيَقُولُ الْأَمِينُ : لَعَلَّ اللَّهَ خَذَلَنِي ، لَعَلَّ اللَّهَ أَعْمَى قَلْبِي ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ إِثْبَاتَ الْخِذْلَانِ وَعَمَى الْقَلْبِ لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اسْتِبْعَادَ صُدُورِ الْخِيَانَةِ عَنْهُ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ ) أَيْ : وَمِنْ عَادَةِ اللَّهِ إِبْطَالُ الْبَاطِلِ وَتَقْرِيرُ الْحَقِّ ، فَلَوْ كَانَ
مُحَمَّدٌ مُبْطِلًا كَذَّابًا لَفَضَحَهُ اللَّهُ وَلَكَشَفَ عَنْ بَاطِلِهِ ، وَلَمَا أَيَّدَهُ بِالْقُوَّةِ وَالنُّصْرَةِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْكَاذِبِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعْدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَهْتِ وَالْفِرْيَةِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَيُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي كَانَ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أَيْ : إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا فِي صَدْرِكَ وَصُدُورِهِمْ ، فَيَجْرِي الْأَمْرُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ ، وَعَنْ
قَتَادَةَ : يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ يُنْسِيكَ الْقُرْآنَ ، وَيَقْطَعُ عَنْكَ الْوَحْيَ ، بِمَعْنَى : لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=24أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) ثُمَّ بَرَّأَ رَسُولَهُ مِمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ عِقَابًا عَظِيمًا ، لَا جَرَمَ نَدَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى التَّوْبَةِ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ يَقْبَلُهَا مِنْ كُلِّ مُسِيءٍ وَإِنْ عَظُمَتْ إِسَاءَتُهُ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ :
[ ص: 145 ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ" : يُقَالُ قَبِلْتُ مِنْهُ الشَّيْءَ وَقَبِلْتُهُ عَنْهُ ، فَمَعْنَى قَبِلْتُهُ مِنْهُ أَخَذْتُهُ مِنْهُ وَجَعَلْتُهُ مَبْدَأَ قَبُولٍ وَمَنْشَأَهُ ، وَمَعْنَى قَبِلْتُهُ عَنْهُ أَخَذْتُهُ وَأَثْبَتُّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ سَبَقَ الْبَحْثُ الْمُسْتَقْصَى عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19704حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَأَقَلُّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ النَّدَمُ عَلَى الْمَاضِي وَالتَّرْكُ فِي الْحَالِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَرَوَى
جَابِرٌ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ، وَكَبَّرَ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ
عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : يَا هَذَا إِنَّ سُرْعَةَ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ ، فَتَوْبَتُكَ تَحْتَاجُ إِلَى تَوْبَةٍ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَا التَّوْبَةُ ؟ فَقَالَ : اسْمٌ يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْيَاءَ : عَلَى الْمَاضِي مِنَ الذُّنُوبِ النَّدَامَةُ ، وَلِتَضْيِيعِ الْفَرَائِضِ الْإِعَادَةُ ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ ، وَإِذَابَةُ النَّفْسِ فِي الطَّاعَةِ ؛ كَمَا رَبَّيْتَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ ، وَإِذَاقَةُ النَّفْسِ مَرَارَةَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهَا حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْبُكَاءُ بَدَلُ كُلِّ ضَحِكٍ ضَحِكْتَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=19728_29682_28783قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ : يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِالْكَرَمِ وَالْفَضْلِ ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالُوا : إِنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْقَبُولُ وَاجِبًا لَمَا حَصَلَ التَّمَدُّحُ الْعَظِيمُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ بِأَنْ لَا يَضْرِبَ النَّاسَ ظُلْمًا وَلَا يَقْتُلَهُمْ غَضَبًا ، كَانَ ذَلِكَ مَدْحًا قَلِيلًا ، أَمَّا إِذَا قَالَ : إِنِّي أُحْسِنُ إِلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيَّ - كَانَ ذَلِكَ مَدْحًا وَثَنَاءً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالتَّوْبَةِ ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الصَّغَائِرِ ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الْكَبَائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ، وَإِلَّا لَصَارَ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) عَيْنَ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ) وَالتَّكْرَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ ، وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَا يُتَمَدَّحُ بِهِ ، فَبَقِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى : أَنَّهُ تَارَةً يَعْفُو بِوَاسِطَةِ قَبُولِ التَّوْبَةِ ، وَتَارَةً يَعْفُو ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ .