ثم قال : ( وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون    ) ، واعلم أن قوله :   ( تبارك ) إما أن يكون مشتقا من الثبات والبقاء ، وإما أن يكون مشتقا من كثرة الخير  ، وعلى التقديرين فكل واحد من هذين الوجهين ينافي كون عيسى  عليه السلام ولدا لله تعالى ، لأنه إن كان المراد منه الثبات والبقاء فعيسى عليه السلام لم يكن واجب البقاء والدوام ، لأنه حدث بعد أن لم يكن ، ثم عند النصارى  أنه قتل ومات ومن كان كذلك لم يكن بينه وبين الباقي الدائم الأزلي مجانسة ومشابهة ، فامتنع كونه ولدا له ، وإن كان المراد بالبركة كثرة الخيرات مثل كونه خالقا للسماوات والأرض وما بينهما فعيسى  لم يكن كذلك ، بل كان محتاجا إلى الطعام وعند النصارى  أنه كان خائفا من اليهود  وبالآخرة أخذوه وقتلوه ، فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسماوات والأرض وما بينهما ؟ ! 
وأما قوله : ( وعنده علم الساعة    ) فالمقصود منه أنه لما شرح كمال قدرته فكذلك شرح كمال علمه ، والمقصود التنبيه على أن من كان كاملا في الذات والعلم والقدرة على الحد الذي شرحناه امتنع أن يكون ولده في العجز وعدم الوقوف على أحوال العالم بالحد الذي وصفه النصارى    . 
ولما أطنب الله تعالى في نفي الولد أردفه ببيان نفي الشركاء فقال : ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون    ) ، ذكر المفسرون في هذه الآية قولين : 
أحدهما : أن الذين يدعون من دونه الملائكة وعيسى  وعزيرا  ، والمعنى أن الملائكة وعيسى  وعزيرا  لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق  ، روي أن النضر بن الحارث  ونفرا معه قالوا : إن كان ما يقول محمد  حقا فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد  ، فأنزل الله هذه الآية يقول : لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد ، ثم استثنى فقال : ( إلا من شهد بالحق    ) والمعنى على هذا القول هؤلاء لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق ، فأضمر اللام ، أو يقال : التقدير : إلا شفاعة من شهد بالحق فحذف المضاف ، وهذا على لغة من يعدي الشفاعة بغير لام ، فيقول : شفعت فلانا بمعنى شفعت له كما تقول : كلمته وكلمت له ، ونصحته ونصحت له . 
والقول الثاني : أن الذين يدعون من دونه كل معبود من دون الله ، وقوله : ( إلا من شهد بالحق    ) الملائكة وعيسى  وعزير  ، والمعنى أن الأشياء التي عبدها الكفار لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق  ، وهم الملائكة وعيسى  وعزير  ، فإن لهم شفاعة عند الله ومنزلة ، ومعنى من شهد بالحق : من شهد أنه لا إله إلا الله . 
ثم قال تعالى : ( وهم يعلمون    ) وهذا القيد يدل على أن الشهادة باللسان فقط لا تفيد البتة  ، واحتج القائلون بأن إيمان المقلد لا ينفع البتة بهذه الآية ، فقالوا : بين الله تعالى أن الشهادة لا تنفع إلا إذا حصل معها العلم ، والعلم عبارة عن اليقين الذي لو شكك صاحبه فيه لم يتشكك ، وهذا لم يحصل إلا عند الدليل ، فثبت أن إيمان المقلد لا ينفع البتة . 
 [ ص: 200 ] ثم قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون    ) ، وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : ظن قوم أن هذه الآية وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرون إلى الاعتراف بوجود الإله للعالم ، قال الجبائي    : وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا : لا إله لهم غيره ، وقوم إبراهيم  قالوا : ( وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه    ) [ إبراهيم : 9 ] ، فيقال لهم : لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله ، والدليل على قولنا قوله تعالى : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما    ) [ النمل : 14 ] ، وقال موسى  لفرعون : ( لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر    ) [ الإسراء : 102 ] ، فالقراءة بفتح التاء في ( علمت ) تدل على أن فرعون كان عارفا بالله ، وأما قوم إبراهيم  حيث قالوا : ( وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه    ) فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوة . 
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى ذكر هذا الكلام في أول هذه السورة وفي آخرها ، والمقصود التنبيه على أنهم اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو الله تعالى  ، فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام خبيثة لا تضر ولا تنفع بل هي جمادات محضة ؟ ! 
وأما قوله : ( فأنى يؤفكون    ) معناه : لم تكذبون على الله فتقولون : إن الله أمرنا بعبادة الأصنام ، وقد احتج بعض أصحابنا به على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم بقوله : ( فأنى يؤفكون    ) ، وأجاب القاضي بأن من يضل في فهم الكلام أو في الطريق يقال له : أين يذهب بك ؟ والمراد : أين تذهب ؟ وأجاب الأصحاب بأن قول القائل : أين يذهب بك ؟ ظاهره يدل على أن ذاهبا آخر ذهب به ، فصرف الكلام عن حقيقته خلاف الأصل الظاهر ، وأيضا فإن الذي ذهب به هو الذي خلق تلك الداعية في قلبه ، وقد ثبت بالبرهان الباهر أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى . 
ثم قال تعالى : ( وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون    ) ، وفيه مباحث : 
الأول : قرأ الأكثرون ( وقيله ) بفتح اللام ، وقرأ عاصم  وحمزة  بكسر اللام ، قال الواحدي    : وقرأ أناس من غير السبعة بالرفع ، أما الذين قرءوا بالنصب فذكر الأخفش  والفراء  فيه قولين : أحدهما : أنه نصب على المصدر بتقدير : وقال قيله وشكا شكواه إلى ربه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتصب قيله بإضمار قال ، والثاني : أنه عطف على ما تقدم من قوله : ( أنا لا نسمع سرهم ونجواهم . . . وقيله ) ، وذكر الزجاج  فيه وجها ثالثا فقال : إنه نصب على موضع الساعة لأن قوله : ( وعنده علم الساعة    ) معناه أنه علم الساعة  ، والتقدير : علم الساعة وقيله ، ونظيره قولك : عجبت من ضرب زيد وعمرا ، وأما القراءة بالجر فقال الأخفش  والفراء  والزجاج    : إنه معطوف على الساعة ، أي عنده علم الساعة ، وعلم قيله : يا رب ، قال  المبرد    : العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه لأنه يجوز أن يفصل بين المنصوب وعامله ، والمجرور يجوز ذلك فيه على قبح ، وأما القراءة بالرفع ففيها وجهان : 
الأول : أن يكون ( وقيله    ) مبتدأ وخبره ما بعده . 
والثاني : أن يكون معطوفا على علم الساعة على تقدير حذف المضاف ، معناه : وعنده علم الساعة وعلم قيله ، قال صاحب “ الكشاف “ : هذه الوجوه ليست قوية في المعنى لا سيما وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ، ثم ذكر وجها آخر وزعم أنه أقوى مما سبق ، وهو أن يكون النصب والجر على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، يكون قوله : ( إن هؤلاء قوم لا يؤمنون    ) جواب القسم كأنه قيل   [ ص: 201 ] وأقسم بقيله : يا رب ، أو وقيله : يا رب قسمي ، وأقول : هذا الذي ذكره صاحب “ الكشاف “ متكلف أيضا ، وههنا إضمار امتلأ القرآن منه وهو إضمار اذكر ، والتقدير : واذكر قيله : يا رب ، وأما القراءة بالجر فالتقدير : واذكر وقت قيله : يا رب ، وإذا وجب التزام الإضمار فلأن يضمر شيئا جرت العادة في القرآن بالتزام إضماره أولى من غيره ، وعن  ابن عباس  أنه قال في تفسير قوله : ( وقيله يارب    ) والمراد : وقيل يا رب ، والهاء زيادة . 
البحث الثاني : القيل مصدر كالقول ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : نهى عن قيل وقال ، قال الليث    : تقول العرب : كثير فيه القيل والقال ، وروى شمر  عن أبي زيد  يقال : ما أحسن قيلك وقولك وقالك وقالتك ومقالتك ، خمسة أوجه . 
البحث الثالث : الضمير في قيله  لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
البحث الرابع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ضجر منهم وعرف إصرارهم أخبر عنهم أنهم قوم لا يؤمنون ، وهو قريب مما حكى الله عن نوح  أنه قال : ( رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا    ) [ نوح : 21 ] . 
ثم إنه تعالى قال له : ( فاصفح عنهم    ) ، فأمره بأن يصفح عنهم ، وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب ، والصفح هو الإعراض    . 
ثم قال : ( وقل سلام    ) ، قال  سيبويه  إنما معناه المتاركة ، ونظيره قول إبراهيم  لأبيه : ( سلام عليك سأستغفر لك ربي    ) [ مريم : 47 ] ، وكقوله : ( سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين    ) [ القصص : 55 ] . 
قوله : ( فسوف يعلمون    ) والمقصود منه التهديد ، وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ نافع  وابن عامر  تعلمون بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون . 
المسألة الثانية : احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر  ، وأقول : إن صح هذا الاستدلال فهذا يوجب الاقتصار على مجرد قوله : ( سلام ) ، وأن يقال للمؤمن : سلام عليكم ، والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكافر . 
المسألة الثالثة : قال  ابن عباس    : قوله تعالى : ( فاصفح عنهم وقل سلام     ) منسوخ بآية السيف ، وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل ، لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة ، فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ ، فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ ؟ وأيضا فمثله يمين الفور مشهورة عند الفقهاء ، وهي دالة على أن اللفظ قد يتقيد بحسب قرينة العرف ، وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ ، والله أعلم بالصواب . 
قال مولانا المؤلف عليه سحائب الرحمة والرضوان : تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الحادي عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة ، والحمد لله أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا ، والصلاة على ملائكته المقربين والأنبياء والمرسلين خصوصا على محمد    - صلى الله عليه وسلم - وآله وصحبه أجمعين أبد الآبدين ودهر الداهرين . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					