( إنا إذا لفي ضلال وسعر  أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر    ) 
وقوله تعالى عنهم : ( إنا إذا لفي ضلال وسعر    ) يحتمل وجهين: 
أحدهما : أن يكونوا قد قالوا في جواب من يقول لهم : إن لم تتبعوه تكونوا في ضلال ، فيقولون له : لا بل إن تبعناه نكون في ضلال . 
ثانيهما : أن يكون ذلك ترتيبا على ما مضى أي حاله ما ذكرنا من الضعف والوحدة ، فإن اتبعناه نكون في ضلال وسعر أي جنون على هذا الوجه ، فإن قلنا : إن ذلك قالوه على سبيل الجواب ، فيكون القائل قال لهم : إن لم تتبعوه فإنا إذا في الحال في ضلال وفي سعر في العقبى ، فقالوا : لا بل لو اتبعناه فإنا إذا في الحال في ضلال وفي سعر من الذل والعبودية مجازا ، فإنهم ما كانوا يعترفون بالسعير . 
المسألة الثالثة : السعير في الآخرة واحد فكيف جمع ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه : 
أحدها : في جهنم دركات  يحتمل أن تكون كل واحدة سعيرا أو فيها سعير . 
ثانيها : لدوام العذاب عليهم فإنه كلما نضجت جلودهم يبدلهم جلودا كأنهم في كل زمان في سعير آخر وعذاب آخر . 
ثالثها : لسعة السعير الواحد كأنها سعر ، يقال للرجل الواحد : فلان ليس برجل واحد بل هو رجال . 
ثم قال تعالى عنهم : 
( أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر    ) وقد تقدم أن النفي بطريق الاستفهام أبلغ  ؛ لأن من قال : ما أنزل عليه الذكر ربما يعلم أو يظن أو يتوهم أن السامع يكذبه فيه فإذا ذكر بطريق الاستفهام يكون معناه أن السامع يجيبني بقوله : " ما أنزل " فيجعل الأمر حينئذ منفيا ظاهرا لا يخفى على أحد بل   [ ص: 46 ] كل أحد يقول : " ما أنزل " ، والذكر الرسالة أو الكتاب إن كان ، ويحتمل أن يراد به ما يذكره من الله تعالى كما يقال : الحق ويراد به ما يحل من الله ، وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قولهم " أألقي " بدل " أأنزل " وفيه إشارة إلى ما كانوا ينكرونه من طريق المبالغة ؛ وذلك لأن الإلقاء إنزال بسرعة والنبي كان يقول : " جاءني الوحي مع الملك في لحظة يسيرة   " فكأنهم قالوا : الملك جسم والسماء بعيدة فكيف ينزل في لحظة فقالوا : أألقي وما قالوا : أأنزل ، وقولهم " عليه " إنكار آخر كأنهم قالوا : ما ألقي ذكر أصلا ، قالوا : إن ألقي فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء ، وقولهم أألقي بدل عن قولهم : أألقى الله للإشارة إلى أن الإلقاء من السماء غير ممكن فضلا عن أن يكون من الله تعالى . 
المسألة الثانية : عرفوا الذكر ولم يقولوا : أألقي عليه ذكر ؛ وذلك لأن الله تعالى حكى إنكارهم لما لا ينبغي أن ينكر فقال : أنكروا الذكر الظاهر المبين الذي لا ينبغي أن ينكر فهو كقول القائل : أنكروا المعلوم . 
المسألة الثالثة : " بل " يستدعي أمرا مضروبا عنه سابقا فما ذاك ؟ نقول : قولهم أألقي للإنكار فهم قالوا : ما ألقي ، ثم إن قولهم : أألقي عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بنبي ، ثم قالوا : بل هو ليس بصادق . 
المسألة الرابعة : " الكذاب " فعال من فاعل للمبالغة أو يقال : بل من فاعل كخياط وتمار ؟ نقول : الأول هو الصحيح الأظهر على أن الثاني من باب الأولى ؛ لأن المنسوب إلى الشيء لا بد له من أن يكثر من مزاولة الشيء ، فإن من خاط يوما ثوبه مرة لا يقال له خياط ، إذا عرفت هذا فنقول : المبالغة إما في الكثرة ، وإما في الشدة فالكذاب إما شديد الكذب يقول ما لا يقبله العقل أو كثير الكذب ، ويحتمل أن يكونوا وصفوه به لاعتقادهم الأمرين فيه وقولهم : ( أشر    ) إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة إلى خلاص كما يكذب الضعيف ، وإنما هو استغنى وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد اتباعكم له فكان كل وصف مانعا من الاتباع ؛ لأن الكاذب لا يلتفت إليه ، ولا سيما إذا كان كذبه لا لضرورة ، وقرئ : ( أشر ) فقال المفسرون : هذا على الأصل المرفوض في الأشر والأخير على وزن أفعل التفضيل ، وإنما رفض الأصل فيه ؛ لأن أفعل إذا فسر قد يفسر بأفعل أيضا والثاني بأفعل ثالث ، مثاله إذا قال : ما معنى الأعلم ؟ يقال : هو الأكثر علما فإذا قيل : الأكثر ماذا ؟ فيقال : الأزيد عددا أو شيء مثله فلا بد من أمر يفسر به الأفعال لا من بابه فقالوا : أفعل التفضيل والفضيلة أصلها الخير ، والخير أصل في باب أفعل فلا يقال فيه : أخير ، ثم إن الشر في مقابلة الخير يفعل به ما يفعل بالخير ، فيقال هو شر من كذا ، وخير من كذا والأشر في مقابلة الأخير ، ثم إن خيرا يستعمل في موضعين : 
أحدهما : مبالغة الخير بفعل أو أفعل على اختلاف يقال : هذا خير وهذا أخير ، ويستعمل في مبالغة خير على المشابهة لا على الأصل فمن يقول : ( أشر ) يكون قد ترك الأصل المستعمل ؛ لأنه أخذ في الأصل المرفوض بمعنى هو شر من غيره ، وكذا معنى الأعلم أن علمه خير من علم غيره ، أو هو خير من غرة الجهل كذلك القول في الأضعف وغيره .   [ ص: 47 ] 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					