( إن المجرمين في ضلال وسعر  يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر    ) 
ثم قال تعالى : ( إن المجرمين في ضلال وسعر    ) وفي الآية مسائل :   [ ص: 62 ] الأولى : فيمن نزلت الآية في حقهم ؟ أكثر المفسرين اتفقوا على أنها نازلة في القدرية ، روى الواحدي  في تفسيره قال : سمعت الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي  بنيسابور  قال : سمعت عبد الجبار  قال : أخبرنا الواحدي  ، قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج  ، قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله الكعبي  ، قال : حدثنا حمدان بن صالح الأشج  حدثنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود  ، حدثنا  سفيان الثوري  عن زياد بن إسماعيل المخزومي  عن محمد بن عباد بن جعفر  عن  أبي هريرة  قال : جاء مشركو قريش  يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر ، فأنزل الله تعالى : ( إن المجرمين في ضلال وسعر    ) إلى قوله : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر    ) [ القمر : 49 ] وكذلك نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في القدرية    . 
وروي عن  عائشة  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مجوس هذه الأمة القدرية    " وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله : ( إن المجرمين في ضلال وسعر    ) وكثرت الأحاديث في القدرية  ، وفيها مباحث : 
الأول : في معنى القدرية  الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم : نزلت الآية فيهم ، فنقول : كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه ، فالجبري يقول : القدري من يقول : الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره ، فهم قدرية لأنهم ينكرون القدر . والمعتزلي يقول : القدري هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق الله قدرني فهو قدري لإثباته القدر . وهما جميعا يقولان لأهل السنة    : الذي يعترف بخلق الله وليس من العبد إنه قدري ، والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية هو الذي ينكر القدر ، ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها ، ويدل عليه قوله جاء مشركو قريش  يحاجون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فإن مذهبهم ذلك ، وما كانوا يقولون مثل ما يقول المعتزلة    : إن الله خلق لي سلامة الأعضاء وقوة الإدراك ومكنني من الطاعة والمعصية ، والله قادر على أن يخلق في الطاعة إلجاء والمعصية إلجاء ، وقادر على أن يطعم الفقير الذي أطعمه أنا بفضل الله ، والمشركون كانوا يقولون : ( أنطعم من لو يشاء الله أطعمه    ) [ يس : 47 ] منكرين لقدرة الله تعالى على الإطعام ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " مجوس هذه الأمة هم القدرية     " فنقول : المراد من هذه الأمة ، إما الأمة التي كان محمد  صلى الله عليه وسلم مرسلا إليهم سواء آمنوا به أو لم يؤمنوا كلفظ القوم ، وإما أمته الذين آمنوا به ، فإن كان المراد الأول فالقدرية  في زمانه هم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة  ، وإن كان المراد هو الثاني فقوله : " مجوس هذه الأمة   " يكون معناه الذين نسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس  إلى الأمة المتقدمة ، لكن الأمة المتقدمة أكثرهم كفرة ، والمجوس  نوع منهم أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل ، فكذلك القدرية  في هذه الأمة تكون نوعا منهم أضعف دليلا ، ولا يقتضي ذلك الجزم بكونهم في النار ، فالحق أن القدري هو الذي ينكر قدرة الله تعالى ، إن قلنا : إن النسبة للنفي أو الذي يثبت قدرة غير الله تعالى على الحوادث إن قلنا : إن النسبة للإثبات وحينئذ يقطع بكونه : ( في ضلال وسعر    ) وإنه ذائق مس سقر . 
البحث الثاني : في بيان من يدخل في القدرية التي في النص ممن هو منتسب إلى أنه من أمة محمد  صلى الله عليه وسلم ، إن قلنا : القدرية  سموا بهذا الاسم لنفيهم قدرة الله تعالى ، فالذي يقول : لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة هي الصلاة وحركة هي الزنا مع أن ذلك أمر ممكن لا يبعد دخوله فيهم ، وأما الذي يقول : بأن الله قادر غير أنه لم يجبره وتركه مع داعية العبد كالوالد الذي يجرب الصبي في حمل شيء ، تركه معه لا لعجز الوالد بل للابتلاء والامتحان ، لا كالمفلوج الذي لا قوة له إذا قال لغيره : احمل هذا ، فلا يدخل فيهم ظاهرا وإن كان مخطئا ، وإن قلنا : إن القدرية  سموا بهذا الاسم لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب ،   [ ص: 63 ] والجبري الذي قال : هو الحائط الساقط الذي لا يجوز تكليفه بشيء لصدور الفعل من غيره ، وهم أهل الإباحة ، فلا شك في دخوله في القدرية  فإنه يكفر بنفيه التكليف . وأما الذي يقول : خلق الله تعالى فينا الأفعال وقدرها وكلفنا ، و( لا يسأل عما يفعل    ) [ الأنبياء : 23 ] فما هو منهم . 
البحث الثالث : اختلف القائلون في التعصب أن الاسم بالمعتزلة  أحق أم بالأشاعرة  ؟ فقالت المعتزلة  الاسم بكم أحق ؛ لأن النسبة تكون للإثبات لا للنفي ، يقال للدهري : دهري لقوله بالدهر وإثباته ، وللمباحي إباحي لإثباته الإباحة وللثنوية ثنوية لإثباتهم الاثنين وهما النور والظلمة ، وكذلك أمثاله وأنتم تثبتون القدر . وقالت الأشاعرة    : النصوص تدل على أن القدري من ينفي قدرة الله تعالى ، ومشركو قريش  ما كانوا قدرية إلا لإثباتهم قدرة لغير الله ، قالت المعتزلة    : إنما سمي المشركون قدرية ؛ لأنهم قالوا : إن كان قادرا على الحوادث كما تقول يا محمد  فلو شاء الله لهدانا ولو شاء لأطعم الفقير ، فاعتقدوا أن من لوازم قدرة الله تعالى على الحوادث خلقه الهداية فيهم إن شاء ، وهذا مذهبكم أيها الأشاعرة  ، والحق الصراح أن كل واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية  ، ولا يصير واحد منهم قدريا إلا إذا صار النافي نافيا للقدرة والمثبت منكرا للتكليف . 
المسألة الثانية : المجرمون هم المشركون هاهنا كما في قوله تعالى : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم    ) [ السجدة : 12 ] وقوله : ( يود المجرم لو يفتدي    ) [ المعارج : 11 ] وفي قوله : ( يعرف المجرمون بسيماهم    ) [ الرحمن : 41 ] فالآية عامة ، وإن نزلت في قوم خاص . وجرمهم تكذيب الرسل والنذر بالإشراك وإنكار الحشر  وإنكار قدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة ، وعلى غيره من الحوادث . 
المسألة الثالثة : ( في ضلال وسعر    ) يحتمل وجوها ثلاثة : 
أحدها : الجمع بين الأمرين في الدنيا أي : هم في الدنيا في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون ، وعلى هذا فقوله : ( يسحبون    ) بيان حالهم في تلك الصورة وهو أقرب . 
ثانيها : الجمع في الآخرة أي : هم في ضلال الآخرة وسعر أيضا . أما السعر فكونهم فيها ظاهر ، وأما الضلال فلا يجدون إلى مقصدهم أو إلى ما يصلح مقصدا وهم متحيرون سبيلا ، فإن قيل : الصحيح هو الوجه الأخير لا غير لأن قوله تعالى : ( يوم يسحبون    ) ظرف القول أي : يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا ، وسنبين ذلك فنقول : ( يوم يسحبون    ) يحتمل أن يكون منصوبا بعامل مذكور أو مفهوم غير مذكور ، والاحتمال الأول له وجهان: 
أحدهما : العامل سابق وهو معنى كائن ومستقر غير أن ذلك صار نسيا منسيا . 
ثانيهما : العامل متأخر وهو قوله : ( ذوقوا    ) تقديره : ذوقوا مس سقر يوم يسحب المجرمون ، والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله : ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة    ) [ القمر : 43 ] . 
والاحتمال الثالث : أن المفهوم هو أن يقال لهم : يوم يسحبون ذوقوا ، وهذا هو المشهور ، وقوله تعالى : ( ذوقوا    ) استعارة وفيه حكمة وهو أن الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذ لاقى اللسان يدرك أيضا حرارته وبرودته وخشونته وملاسته ، كما يدرك سائر أعضائه الحسية ، ويدرك أيضا طعمه ولا يدركه غير اللسان ، فإدراك اللسان أتم ، فإذا تأذى من نار تأذى بحرارته ومرارته إن كان الحار أو غيره لا يتأذى إلا بحرارته ، فإذن الذوق إدراك لمسي أتم من   [ ص: 64 ] غيره في الملموسات فقال : ( ذوقوا    ) إشارة إلى أن إدراكهم بالذوق أتم الإدراكات ، فيجتمع في العذاب شدته وإيلامه بطول مدته ودوامه ، ويكون المدرك له لا عذر له يشغله ، وإنما هو على أتم ما يكون من الإدراك فيحصل الألم العظيم . وقد ذكرنا أن على قول الأكثرين يقال لهم أو نقول مضمر . وقد ذكرنا أنه لا حاجة إلى الإضمار إذا كان الخطاب مع غير من قيل في حقهم : ( إن المجرمين في ضلال    ) فإنه يصير كأنه قال : ذوقوا أيها المكذبون بمحمد  صلى الله عليه وسلم مس سقر يوم يسحب المجرمون المتقدمون في النار . 
				
						
						
