(
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=28فبأي آلاء ربكما تكذبان )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=28فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الوجه يطلق على الذات والمجسم يحمل الوجه على العضو وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن ؛ لأن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=88كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] يدل على أنه لا يبقى إلا
nindex.php?page=treesubj&link=29714وجه الله تعالى ، فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة الله أو غير ذات الله شيء وهو كذلك ، وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها ورجله التي قال بها ، لا يقال : فعلى قولكم أيضا يلزم أن لا يبقى علم الله ولا قدرة الله ، لأن الوجه جعلتموه ذاتا ، والذات غير الصفات فإذا قلت : كل شيء هالك إلا حقيقة الله ، خرجت الصفات عنها ، فيكون قولكم نفيا للصفات . نقول : الجواب عنه بالعقل والنقل ، أما النقل فذلك أمر يذكر في غير هذا الموضع ، وأما العقل فهو أن قول القائل : لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض ، وإذا قال : لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله ، فكذلك قولنا : يبقى ذات الله تعالى يتناول صفاته ، وإذا قلتم : لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده .
المسألة الثانية : فما السبب في حسن إطلاق لفظ الوجه على الذات ؟ نقول : إنه مأخوذ من عرف الناس ،
[ ص: 94 ] فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان ، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول : رأيته ، وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلا لا يقول رأيته ، وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس ، فإن الإنسان إذا رأى شيئا علم منه ما لم يكن يعلم حال غيبته ، لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي وإنما يتعلق ببعضه ، ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم ، فإذا رأى شيئا بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه ، لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة كل واحد يدل على أمر ، فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه ، فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره ، فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام ، ثم نقل إلى ما ليس بجسم ، يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف ، وقول من قال : إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية ، فليس بشيء إذ الأمر على العكس ، لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل ، فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره ، ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب .
المسألة الثالثة : لو قال : ويبقى ربك أو الله أو غيره فحصلت الفائدة من غير وقوع في توهم ما هو ابتداع ، نقول : ما كان يقوم مقام الوجه لفظ آخر ولا وجه فيه إلا ما قاله الله تعالى ، وذلك لأن سائر الأسماء المعروفة لله تعالى أسماء الفاعل كالرب والخالق ، والله عند البعض بمعنى المعبود ، فلو قال : ويبقى ربك ربك ، وقولنا : ربك معنيان عند الاستعمال أحدهما أن يقال : شيء من كل ربك ، ثانيهما أن يقال : يبقى ربك مع أنه حالة البقاء ربك فيكون المربوب في ذلك الوقت ، وكذلك لو قال : يبقى الخالق والرازق وغيرهما .
المسألة الرابعة : ما الحكمة في لفظ الرب وإضافة الوجه إليه ، وقال في موضع آخر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=115فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ البقرة : 115 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38يريدون وجه الله ) [ الروم : 38 ] ؟ نقول : المراد في الموضعين المذكورين هو العبادة . أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=115فثم وجه الله ) فظاهر لأن المذكور هناك الصلاة ، وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38يريدون وجه الله ) فالمذكور هو الزكاة ، قال تعالى من قبل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ) [ الروم : 38 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38ذلك خير للذين يريدون وجه الله ) ولفظ الله يدل على العبادة ، لأن الله هو المعبود ، والمذكور في هذا الموضع النعم التي بها تربية الإنسان فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وجه ربك ) .
المسألة الخامسة : الخطاب بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27ربك ) مع من ؟ نقول : الظاهر أنه مع كل أحد كأنه يقول : ويبقى وجه ربك أيها السامع ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع
محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن قيل : فكيف قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=28فبأي آلاء ربكما تكذبان ) خطابا مع الاثنين ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وجه ربك ) خطابا مع الواحد ؟ نقول : عند قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27ويبقى وجه ربك ) وقعت الإشارة إلى فناء كل أحد ، وبقاء الله فقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وجه ربك ) أي أيها السامع
nindex.php?page=treesubj&link=29430فلا تلتفت إلى أحد غير الله تعالى ، فإن كل من عداه فان ، والمخاطب كثيرا ما يخرج عن الإرادة في الكلام ، فإنك إذا قلت : لمن يشكو إليك من أهل موضع سأعاقب لأجلك كل من في ذلك الموضع . يخرج المخاطب عن الوعيد ، وإن كان من أهل الموضع فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27ويبقى وجه ربك ) ليعلم كل أحد أن غيره فان ، ولو قال : وجه ربكما لكان كل واحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب من الفناء ، فإن قلت : لو قال " ويبقى وجه الرب " من غير خطاب كان أدل على فناء الكل ؟ نقول : كأن الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف والإبقاء إشارة إلى القهر ، والموضع موضع بيان اللطف
[ ص: 95 ] وتعديد النعم ، فلو قال : بلفظ الرب لم يدل عليه الخطاب ، وفي لفظ الرب عادة جارية وهي أنه لا يترك استعماله مع الإضافة . فالعبد يقول لي : ربنا اغفر لنا ، ورب اغفر لي ، والله تعالى يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=26ربكم ورب آبائكم ) [ الشعراء : 26 ] و (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=45رب العالمين ) [ الأنعام : 45 ] وحيث ترك الإضافة ذكره مع صفة أخرى من أوصاف اللفظ ، حيث قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15بلدة طيبة ورب غفور ) [ سبأ : 15 ] وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=58سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] ولفظ الرب يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى التربية ، يقال : ربه يربه ربا مثل رباه يربيه ، ويحتمل أن يكون وصفا من الرب الذي هو مصدر بمعنى الراب كالطب للطبيب ، والسمع للحاسة ، والبخل للبخيل ، وأمثال ذلك لكن من باب فعل ، وعلى هذا فيكون كأنه فعل من باب فعل يفعل أي فعل الذي للغريزي كما يقال فيما إذا قلنا : فلان أعلم وأحكم ، فكان وصفا له من باب فعل اللازم ليخرج عن التعدي .
المسألة السادسة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27الجلال ) إشارة إلى كل صفة من باب النفي ، كقولنا :
nindex.php?page=treesubj&link=29442_33677الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ، ولهذا يقال : جل أن يكون محتاجا ، وجل أن يكون عاجزا ، والتحقيق فيه أن الجلال هو بمعنى العظمة غير أن العظمة أصلها في القوة ، والجلال في الفعل ، فهو عظيم لا يسعه عقل ضعيف ، فجل أن يسعه كل فرض معقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27والإكرام ) إشارة إلى كل صفة هي من باب الإثبات ، كقولنا : حي قادر عالم ، وأما السميع والبصير فإنهما من باب الإثبات كذلك عند أهل السنة ، وعند
المعتزلة من باب النفي ، وصفات باب النفي قبل صفات باب الإثبات عندنا ، لأنا أولا نجد الدليل وهو العالم فنقول : العالم محتاج إلى شيء وذلك الشيء ليس مثل العالم فليس بمحدث ولا محتاج ، ولا ممكن ، ثم نثبت له القدرة والعلم وغيرهما ، ومن هنا قال تعالى لعباده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=35لا إله إلا الله ) [ الصافات : 35 ] وقال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011501أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ونفي الإلهية عن غير الله ، نفي صفات غير الله عن الله ، فإنك إذا قلت : الجسم ليس بإله لزم منه قولك : الله ليس بجسم و (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27الجلال والإكرام ) وصفان مرتبان على أمرين سابقين ، فالجلال مرتب على فناء الغير والإكرام على بقائه تعالى ، فيبقى الفرد وقد عز أن يحد أمره بفناء من عداه وما عداه ، ويبقى وهو مكرم قادر عالم فيوجد بعد فنائهم من يريد . وقرئ : " ذو الجلال " ، و " ذي الجلال " . وسنذكر ما يتعلق به في تفسير آخر السورة إن شاء الله تعالى .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=28فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=28فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْوَجْهُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ وَالْمُجَسِّمُ يَحْمِلُ الْوَجْهَ عَلَى الْعُضْوِ وَهُوَ خِلَافُ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَعْنِي الْقُرْآنَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=88كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) [ الْقَصَصِ : 88 ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29714وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَبْقَى غَيْرُ حَقِيقَةِ اللَّهِ أَوْ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ شَيْءٌ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُجَسِّمِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَبْقَى يَدُهُ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَرِجْلُهُ الَّتِي قَالَ بِهَا ، لَا يُقَالُ : فَعَلَى قَوْلِكُمْ أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى عِلْمُ اللَّهِ وَلَا قُدْرَةُ اللَّهِ ، لِأَنَّ الْوَجْهَ جَعَلْتُمُوهُ ذَاتًا ، وَالذَّاتُ غَيْرُ الصِّفَاتِ فَإِذَا قُلْتَ : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا حَقِيقَةَ اللَّهِ ، خَرَجَتِ الصِّفَاتُ عَنْهَا ، فَيَكُونُ قَوْلُكُمْ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ . نَقُولُ : الْجَوَابُ عَنْهُ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ، أَمَّا النَّقْلُ فَذَلِكَ أَمْرٌ يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : لَمْ يَبْقَ لِفُلَانٍ إِلَّا ثَوْبٌ يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ وَمَا قَامَ بِهِ مِنَ اللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ ، وَإِذَا قَالَ : لَمْ يَبْقَ إِلَّا كُمُّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ جَيْبِهِ وَذَيْلِهِ ، فَكَذَلِكَ قَوْلُنَا : يَبْقَى ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ صِفَاتِهِ ، وَإِذَا قُلْتُمْ : لَا يَبْقَى غَيْرُ وَجْهِهِ بِمَعْنَى الْعُضْوِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْقَى يَدُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَمَا السَّبَبُ فِي حُسْنِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْوَجْهِ عَلَى الذَّاتِ ؟ نَقُولُ : إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ عُرْفِ النَّاسِ ،
[ ص: 94 ] فَإِنَّ الْوَجْهَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ لِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى وَجْهَ غَيْرِهِ يَقُولُ : رَأَيْتُهُ ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْوَجْهِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مَثَلًا لَا يَقُولُ رَأَيْتُهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اطِّلَاعَ الْإِنْسَانَ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَحْصُلُ بِالْحِسِّ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَىَ شَيْئًا عَلِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ حَالَ غَيْبَتِهِ ، لِأَنَّ الْحِسَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمَرْئِيِّ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِهِ ، ثُمَّ إِنَّ الْحِسَّ يُدْرِكُ وَالْحَدْسَ يَحْكُمُ ، فَإِذَا رَأَىَ شَيْئًا بِحِسِّهِ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ بِحَدْسِهِ ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ اجْتَمَعَ فِي وَجْهِهِ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ ، فَإِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ وَجْهَ الْإِنْسَانِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَحْكَامٍ مَا كَانَ يَحْكُمُ بِهَا لَوْلَا رُؤْيَتُهُ وَجْهَهُ ، فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَاسْتُعْمِلَ الْوَجْهُ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْإِنْسَانِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ ، يُقَالُ فِي الْكَلَامِ هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْوَجْهَ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ كَمَا هُوَ الْمَسْطُورُ فِي الْبَعْضِ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِذِ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَ الْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرَ مِنَ الِاسْمِ الْأَصْلِيِّ وَإِنْ كَانَ بِالنَّقْلِ ، فَالْوَجْهُ أَوَّلُ مَا وُضِعَ لِلْعُضْوِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ وَاشْتُقَّ مِنْهُ غَيْرُهُ ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَارِفُ بِالتَّصْرِيفِ الْبَارِعِ فِي الْأَدَبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَوْ قَالَ : وَيَبْقَى رَبُّكَ أَوِ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ فَحَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ فِي تَوَهُّمِ مَا هُوَ ابْتِدَاعٌ ، نَقُولُ : مَا كَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْوَجْهِ لَفَظٌ آخَرُ وَلَا وَجْهَ فِيهِ إِلَّا مَا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْرُوفَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَسْمَاءُ الْفَاعِلِ كَالرَّبِّ وَالْخَالِقِ ، وَاللَّهُ عِنْدَ الْبَعْضِ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ ، فَلَوْ قَالَ : وَيَبْقَى رَبُّكَ رَبُّكَ ، وَقَوْلُنَا : رَبُّكَ مَعْنَيَانِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ : شَيْءٌ مِنْ كُلِّ رَبِّكَ ، ثَانِيهِمَا أَنْ يُقَالَ : يَبْقَى رَبُّكَ مَعَ أَنَّهُ حَالَةَ الْبَقَاءِ رَبُّكَ فَيَكُونُ الْمَرْبُوبَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : يَبْقَى الْخَالِقُ وَالرَّازِقُ وَغَيْرُهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَا الْحِكْمَةُ فِي لَفْظِ الرَّبِّ وَإِضَافَةِ الْوَجْهِ إِلَيْهِ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=115فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) [ الْبَقَرَةِ : 115 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ) [ الرُّومِ : 38 ] ؟ نَقُولُ : الْمُرَادُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُوَ الْعِبَادَةُ . أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=115فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ الصَّلَاةُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ) فَالْمَذْكُورُ هُوَ الزَّكَاةُ ، قَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) [ الرُّومِ : 38 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=38ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ) وَلَفْظُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الْعِبَادَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَعْبُودُ ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ النِّعَمُ الَّتِي بِهَا تَرْبِيَةُ الْإِنْسَانِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَجْهُ رَبِّكَ ) .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27رَبِّكَ ) مَعَ مَنْ ؟ نَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ : وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ أَيُّهَا السَّامِعُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=28فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) خِطَابًا مَعَ الِاثْنَيْنِ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَجْهُ رَبِّكَ ) خِطَابًا مَعَ الْوَاحِدِ ؟ نَقُولُ : عِنْدَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى فَنَاءِ كُلِّ أَحَدٍ ، وَبَقَاءِ اللَّهِ فَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَجْهُ رَبِّكَ ) أَيْ أَيُّهَا السَّامِعُ
nindex.php?page=treesubj&link=29430فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى أَحَدٍ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَدَاهُ فَانٍ ، وَالْمُخَاطِبُ كَثِيرًا مَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِرَادَةِ فِي الْكَلَامِ ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : لِمَنْ يَشْكُو إِلَيْكَ مِنْ أَهْلِ مَوْضِعٍ سَأُعَاقِبُ لِأَجْلِكَ كُلَّ مَنْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ . يَخْرُجُ الْمُخَاطِبُ عَنِ الْوَعِيدِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْضِعِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) لِيُعْلِمَ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّ غَيْرَهُ فَانٍ ، وَلَوْ قَالَ : وَجْهُ رَبِّكُمَا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يُخْرِجُ نَفْسَهُ وَرَفِيقَهُ الْمُخَاطَبَ مِنَ الْفَنَاءِ ، فَإِنْ قُلْتَ : لَوْ قَالَ " وَيَبْقَى وَجْهُ الرَّبِّ " مِنْ غَيْرِ خِطَابٍ كَانَ أَدَلَّ عَلَى فَنَاءِ الْكُلِّ ؟ نَقُولُ : كَأَنَّ الْخِطَابَ فِي الرَّبِّ إِشَارَةٌ إِلَى اللُّطْفِ وَالْإِبْقَاءَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهْرِ ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضُعُ بَيَانِ اللُّطْفِ
[ ص: 95 ] وَتَعْدِيدِ النِّعَمِ ، فَلَوْ قَالَ : بِلَفْظِ الرَّبِّ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ ، وَفِي لَفْظِ الرَّبِّ عَادَةٌ جَارِيَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْإِضَافَةِ . فَالْعَبْدُ يَقُولُ لِي : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ، وَرَبِّ اغْفِرْ لِي ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=26رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ ) [ الشُّعَرَاءِ : 26 ] وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=45رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ الْأَنْعَامِ : 45 ] وَحَيْثُ تَرَكَ الْإِضَافَةَ ذَكَرَهُ مَعَ صِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) [ سَبَأٍ : 15 ] وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=58سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) [ يس : 58 ] وَلَفْظُ الرَّبِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ ، يُقَالُ : رَبَّهُ يُرَبِّهِ رَبًّا مِثْلَ رَبَّاهُ يُرَبِّيهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مِنَ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّابِّ كَالطِّبِّ لِلطَّبِيبِ ، وَالسَّمْعِ لِلْحَاسَّةِ ، وَالْبُخْلِ لِلْبَخِيلِ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَكِنْ مِنْ بَابِ فَعَلَ ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ فَعَلَ مِنْ بَابِ فَعَلَ يَفْعَلُ أَيْ فَعَلَ الَّذِي لِلْغَرِيزِيِّ كَمَا يُقَالُ فِيمَا إِذَا قُلْنَا : فُلَانٌ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ ، فَكَانَ وَصْفًا لَهُ مِنْ بَابِ فَعَلَ اللَّازِمِ لِيَخْرُجَ عَنِ التَّعَدِّي .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27الْجَلَالِ ) إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ مِنْ بَابِ النَّفْيِ ، كَقَوْلِنَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29442_33677اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ ، وَلِهَذَا يُقَالُ : جَلَّ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا ، وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْجَلَالَ هُوَ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ غَيْرَ أَنَّ الْعَظَمَةَ أَصْلُهَا فِي الْقُوَّةِ ، وَالْجَلَالُ فِي الْفِعْلِ ، فَهُوَ عَظِيمٌ لَا يَسَعُهُ عَقْلٌ ضَعِيفٌ ، فَجَلَّ أَنْ يَسَعَهُ كُلُّ فَرْضٍ مَعْقُولٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27وَالْإِكْرَامِ ) إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ ، كَقَوْلِنَا : حَيٌّ قَادِرٌ عَالِمٌ ، وَأَمَّا السَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ فَإِنَّهُمَا مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَعِنْدَ
الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ بَابِ النَّفْيِ ، وَصِفَاتُ بَابِ النَّفْيِ قَبْلَ صِفَاتِ بَابِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَنَا ، لِأَنَّا أَوَّلًا نَجِدُ الدَّلِيلَ وَهُوَ الْعَالَمُ فَنَقُولُ : الْعَالَمُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ الشَّيْءُ لَيْسَ مِثْلَ الْعَالَمِ فَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ وَلَا مُحْتَاجٍ ، وَلَا مُمْكِنٍ ، ثُمَّ نُثْبِتُ لَهُ الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ وَغَيْرَهُمَا ، وَمِنْ هُنَا قَالَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=35لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) [ الصَّافَّاتِ : 35 ] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011501أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَنَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ ، نَفْيُ صِفَاتِ غَيْرِ اللَّهِ عَنِ اللَّهِ ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : الْجِسْمُ لَيْسَ بِإِلَهٍ لَزِمَ مِنْهُ قَوْلُكَ : اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=27الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) وَصْفَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى أَمْرَيْنِ سَابِقَيْنِ ، فَالْجَلَالُ مُرَتَّبٌ عَلَى فَنَاءِ الْغَيْرِ وَالْإِكْرَامُ عَلَى بَقَائِهِ تَعَالَى ، فَيَبْقَى الْفَرْدُ وَقَدْ عَزَّ أَنْ يُحَدَّ أَمْرُهُ بِفَنَاءِ مَنْ عَدَاهُ وَمَا عَدَاهُ ، وَيَبْقَى وَهُوَ مُكْرِمٌ قَادِرٌ عَالِمٌ فَيُوجِدُ بَعْدَ فَنَائِهِمْ مَنْ يُرِيدُ . وَقُرِئَ : " ذُو الْجَلَالِ " ، وَ " ذِي الْجَلَالِ " . وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .