[ ص: 179 ] [ سورة الحديد ]
وهي تسع وعشرون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=33143_24407التسبيح تبعيد الله تعالى من السوء ، وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد .
واعلم أن التسبيح عن السوء يدخل فيه تبعيد الذات عن السوء ، وتبعيد الصفات وتبعيد الأفعال ، وتبعيد الأسماء وتبعيد الأحكام ، أما في الذات : فأن لا تكون محلا للإمكان ، فإن السوء هو العدم وإمكانه ، ثم نفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة ، ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ، ونفي الضد والند وحصول الوحدة المطلقة . وأما في الصفات : فأن يكون منزها عن الجهل بأن يكون محيطا بكل المعلومات ، ويكون قادرا على كل المقدورات ، وتكون صفاته منزهة عن التغيرات . وأما في الأفعال : فأن تكون فاعليته موقوفة على مادة ومثال ؛ لأن كل مادة ومثال فهو فعله ، لما بينا أن كل ما عداه فهو ممكن ، وكل ممكن فهو فعله ، فلو افتقرت فاعليته إلى مادة ومثال ، لزم التسلسل ، وغير موقوفة على زمان ومكان ؛ لأن كل زمان فهو مركب من أجزاء منقضية ، فيكون ممكنا ، كل مكان فهو يعد ممكنا مركبا من أفراد الأحياز ، فيكون كل واحد منهما ممكنا ومحدثا ، فلو افتقرت فاعليته إلى زمان وإلى مكان ، لافتقرت فاعلية الزمان والمكان إلى زمان ومكان ، فيلزم التسلسل ، وغير موقوفة على جلب منفعة ، ولا دفع مضرة ، وإلا لكان مستكملا بغيره ناقصا في ذاته ، وذلك محال . وأما في الأسماء : فكما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=180ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) [ الأعراف : 180 ] . وأما في الأحكام : فهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=30457كل ما شرعه فهو مصلحة وإحسان وخير ، وأن كونه فضلا وخيرا ليس على سبيل الوجوب عليه ، بل على سبيل الإحسان ، وبالجملة يجب أن يعلم من هذا الباب أن حكمه وتكليفه لازم لكل أحد ، وأنه ليس لأحد عليه حكم ولا تكليف ولا يجب لأحد عليه شيء أصلا ، فهذا هو ضبط معاقد التسبيح .
المسألة الثانية : جاء في بعض الفواتح ( سبح ) على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وذلك إشارة إلى أن كون هذه الأشياء مسبحة غير مختص بوقت دون وقت ، بل هي كانت مسبحة أبدا في
[ ص: 180 ] الماضي ، وتكون مسبحة أبدا في المستقبل ، وذلك لأن كونها مسبحة صفة لازمة لماهياتها ، فيستحيل انفكاك تلك الماهيات عن ذلك التسبيح ، وإنما قلنا : إن هذه المسبحية صفة لازمة لماهياتها ؛ لأن كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممكن فهو مفتقر إلى الواجب ، وكون الواجب واجبا يقتضي تنزيهه عن كل سوء في الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء على ما بيناه ، فظهر أن هذه المسبحية كانت حاصلة في الماضي ، وتكون حاصلة في المستقبل ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : هذا الفعل تارة عدي باللام كما في هذه السورة ، وأخرى بنفسه كما في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=9وتسبحوه بكرة وأصيلا ) [ الفتح : 9 ] وأصله التعدي بنفسه ؛ لأن معنى سبحته أي بعدته عن السوء ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد يسبح لله أحدث التسبيح لأجل الله وخالصا لوجهه .
المسألة الرابعة : زعم
الزجاج أن المراد بهذا التسبيح ، التسبيح الذي هو القول ، واحتج عليه بوجهين :
الأول : أنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء : 44 ] فلو كان
nindex.php?page=treesubj&link=24407المراد من التسبيح ، هو دلالة آثار الصنع على الصانع لكانوا يفقهونه .
الثاني : أنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=79وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ) [ الأنبياء : 79 ] فلو كان تسبيحا عبارة عن دلالة الصنع على الصانع لما كان في ذلك تخصيص
لداود عليه السلام . واعلم أن هذا الكلام ضعيف لحجتين :
أما الأولى : فلأن دلالة هذه الأجسام على
nindex.php?page=treesubj&link=33133_33143تنزيه ذات الله وصفاته وأفعاله من أدق الوجوه ، ولذلك فإن العقلاء اختلفوا فيها ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44ولكن لا تفقهون ) لعله إشارة إلى أقوام جهلوا بهذه الدلالة ، وأيضا فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44لا تفقهون ) إشارة إن لم يكن إشارة إلى جمع معين ، فهو خطاب مع الكل فكأنه قال : كل هؤلاء ما فقهوا ذلك ، وذلك لا ينافي أن يفقهه بعضهم .
وأما الحجة الثانية : فضعيفة لأن هناك من المحتمل أن
nindex.php?page=treesubj&link=33143_33133الله خلق حياة في الجبل حتى نطق بالتسبيح ، أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال : إنها تسبح الله على سبيل النطق بذلك التسبيح ، إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال الله تعالى على كونه عالما حيا ، وذلك كفر ، بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى ، فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه ، ومثل ذلك لا يصح من الجمادات ، فإذا التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسرا بأحد وجهين :
الأول : أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه .
والثاني : أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع ، إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : إن حملنا التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول ، كان المراد بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1ما في السماوات ) من في السماوات ومنهم حملة العرش : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=38فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون ) [ فصلت : 38 ] ومنهم المقربون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=41قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم ) [ سبأ : 41 ] وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال
ذو النون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=87لا إله إلا أنت سبحانك ) [ الأنبياء : 87 ] وقال
موسى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143سبحانك تبت إليك ) [ الأعراف : 143 ] والصحابة يسبحون كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191سبحانك فقنا عذاب النار ) [ آل عمران : 191 ] وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي : فأجزاء السماوات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام
[ ص: 181 ] والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال الله منقادة لتصرف الله كما قال عز من قائل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] وهذا التسبيح هو المراد بالسجود في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=49ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ) [ الرعد : 15 ] أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1وهو العزيز الحكيم ) فالمعنى أنه القادر الذي لا ينازعه شيء ، فهو إشارة إلى كمال القدرة ،
nindex.php?page=treesubj&link=28781_29448والحكيم إشارة إلى أنه العالم الذي لا يحتجب عن علمه شيء من الجزئيات والكليات أو أنه الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب ، ولما كان العلم بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما لا جرم قدم العزيز على الحكيم في الذكر .
واعلم أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1وهو العزيز الحكيم ) يدل على أن العزيز ليس إلا هو ؛ لأن هذه الصيغة تفيد الحصر ، يقال : زيد هو العالم لا غيره ، فهذا يقتضي أنه لا إله إلا الواحد ؛ لأن غيره ليس بعزيز ولا حكيم وما لا يكون كذلك لا يكون إلها .
[ ص: 179 ] [ سُورَةُ الْحَدِيدِ ]
وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=33143_24407التَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السُّوءِ ، وَكَذَا التَّقْدِيسُ مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ وَقَدَسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْبِيحَ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ تَبْعِيدُ الذَّاتِ عَنِ السُّوءِ ، وَتَبْعِيدُ الصِّفَاتِ وَتَبْعِيدُ الْأَفْعَالِ ، وَتَبْعِيدُ الْأَسْمَاءِ وَتَبْعِيدُ الْأَحْكَامِ ، أَمَّا فِي الذَّاتِ : فَأَنْ لَا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِمْكَانِ ، فَإِنَّ السُّوءَ هُوَ الْعَدَمُ وَإِمْكَانُهُ ، ثُمَّ نَفْيُ الْإِمْكَانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَثْرَةِ ، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجِسْمِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ ، وَنَفْيَ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَحُصُولَ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ . وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ : فَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَهْلِ بِأَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ ، وَتَكُونَ صِفَاتُهُ مُنَزَّهَةً عَنِ التَّغَيُّرَاتِ . وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ : فَأَنْ تَكُونَ فَاعِلِيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَادَّةٍ وَمِثَالٍ فَهُوَ فِعْلُهُ ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ فِعْلُهُ ، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُنْقَضِيَةٍ ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا ، كُلُّ مَكَانٍ فَهُوَ يُعَدُّ مُمْكِنًا مُرَكَّبًا مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْيَازِ ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا ، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى زَمَانٍ وَإِلَى مَكَانٍ ، لَافْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّةُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ ، وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ . وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ : فَكَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=180وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [ الْأَعْرَافِ : 180 ] . وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ : فَهُوَ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30457كُلَّ مَا شَرَعَهُ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ وَإِحْسَانٌ وَخَيْرٌ ، وَأَنَّ كَوْنَهُ فَضْلًا وَخَيْرًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ ، وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ حُكْمَهُ وَتَكْلِيفَهُ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا ، فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ مَعَاقِدِ التَّسْبِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : جَاءَ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ ( سَبَّحَ ) عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسَبِّحَةً غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، بَلْ هِيَ كَانَتْ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي
[ ص: 180 ] الْمَاضِي ، وَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهَا مُسَبِّحَةً صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا ، فَيَسْتَحِيلُ انْفِكَاكُ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْوَاجِبِ ، وَكَوْنُ الْوَاجِبِ وَاجِبًا يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْمَاضِي ، وَتَكُونُ حَاصِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا الْفِعْلُ تَارَةً عُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَأُخْرَى بِنَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=9وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) [ الْفَتْحِ : 9 ] وَأَصْلُهُ التَّعَدِّي بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى سَبَّحْتُهُ أَيْ بَعَّدْتُهُ عَنِ السُّوءِ ، فَاللَّامُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ اللَّامِ فِي نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ يُسَبِّحُ لِلَّهِ أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ وَخَالِصًا لِوَجْهِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : زَعَمَ
الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ ، التَّسْبِيحُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) [ الْإِسْرَاءِ : 44 ] فَلَوْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=24407الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ ، هُوَ دَلَالَةَ آثَارِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَكَانُوا يَفْقَهُونَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=79وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 79 ] فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحًا عِبَارَةً عَنْ دَلَالَةِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ
لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ لِحُجَّتَيْنِ :
أَمَّا الْأُولَى : فَلِأَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=33133_33143تَنْزِيهِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ أَدَقِّ الْوُجُوهِ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ ) لَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَقْوَامٍ جَهِلُوا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44لَا تَفْقَهُونَ ) إِشَارَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً إِلَى جَمْعٍ مُعَيَّنٍ ، فَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ : كُلُّ هَؤُلَاءِ مَا فَقِهُوا ذَلِكَ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَفْقَهَهُ بَعْضُهُمْ .
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : فَضَعِيفَةٌ لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=33143_33133اللَّهَ خَلَقَ حَيَاةً فِي الْجَبَلِ حَتَّى نَطَقَ بِالتَّسْبِيحِ ، أَمَّا هَذِهِ الْجَمَادَاتُ الَّتِي تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهَا تُسَبِّحُ اللَّهَ عَلَى سَبِيلِ النُّطْقِ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ ، إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا صُدُورَ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ عَنِ الْجَمَادَاتِ لَمَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا حَيًّا ، وَذَلِكَ كُفْرٌ ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْعَاقِلِ الْعَارِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى ، فَيَنْوِي بِذَلِكَ الْقَوْلِ تَنْزِيهَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْجَمَادَاتِ ، فَإِذَا التَّسْبِيحُ الْعَامُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْعَاقِلِ وَالْجَمَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَتَنْزِيهِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يُرِيدُ لَيْسَ لَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَتَكْوِينِهِ مَانِعٌ وَلَا دَافِعٌ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ ، فَنَقُولُ : إِنْ حَمَلْنَا التَّسْبِيحَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى التَّسْبِيحِ بِالْقَوْلِ ، كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=38فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ ) [ فُصِّلَتْ : 38 ] وَمِنْهُمُ الْمُقَرَّبُونَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=41قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ) [ سَبَأٍ : 41 ] وَأَمَّا الْمُسَبِّحُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الْأَرْضِ فَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ
ذُو النُّونِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=87لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 87 ] وَقَالَ
مُوسَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) [ الْأَعْرَافِ : 143 ] وَالصَّحَابَةُ يُسَبِّحُونَ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 191 ] وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا هَذَا التَّسْبِيحَ عَلَى التَّسْبِيحِ الْمَعْنَوِيِّ : فَأَجْزَاءُ السَّمَاوَاتِ وَذَرَّاتُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالُ وَالرِّمَالُ وَالْبِحَارُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَاللَّوْحُ وَالْقَلَمُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالذَّوَاتُ وَالصِّفَاتُ وَالْأَجْسَامُ
[ ص: 181 ] وَالْأَعْرَاضُ كُلُّهَا مُسَبِّحَةٌ خَاشِعَةٌ خَاضِعَةٌ لِجَلَالِ اللَّهِ مُنْقَادَةٌ لِتَصَرُّفِ اللَّهِ كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) [ الْإِسْرَاءِ : 44 ] وَهَذَا التَّسْبِيحُ هُوَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=49وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) [ الرَّعْدِ : 15 ] أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُنَازِعُهُ شَيْءٌ ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28781_29448وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَحْتَجِبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ أَوْ أَنَّهُ الَّذِي يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا لَا جَرَمَ قَدَّمَ الْعَزِيزَ عَلَى الْحَكِيمِ فِي الذِّكْرِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=1وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزِيزَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْحَصْرَ ، يُقَالُ : زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ لَا غَيْرُهُ ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْوَاحِدُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِعَزِيزٍ وَلَا حَكِيمٍ وَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَهًا .