[ ص: 206 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) زعم جمهور أصحابنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=30404_29468نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل ، وهذا أيضا قول
الكعبي من
المعتزلة ، واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية ، أجاب القاضي عنه فقال : هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلا من الله تعالى ، فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال ، وإنما قلنا : إنه لا منافاة بين هذين الوصفين ؛ لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق ، فلما كان تعالى متفضلا بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلا بها ، قال : ولما ثبت هذا ، ثبت أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21يؤتيه من يشاء ) لا بد وأن يكون مشروطا بما يستحقه ، ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21سابقوا إلى مغفرة من ربكم ) معنى .
واعلم أن هذا ضعيف ؛ لأن كونه تعالى متفضلا بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلا بنفس الجنة ، فإن من وهب من إنسان كاغدا ودواة وقلما ، ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفا وباعه من الواهب ، لا يقال : إن أداء ذلك الثمن تفضيل ، بل يقال : إنه مستحق ، فكذا ههنا ، وأما قوله أولا : إنه لا بد من الاستحقاق ، وإلا لم يكن لقوله من قبل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21سابقوا إلى مغفرة ) معنى ، فجوابه أن هذا الاستدلال عجيب ؛ لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء ، ويقول : لا أتفضل إلا مع هذا الشرط .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21والله ذو الفضل العظيم ) والمراد منه التنبيه على
nindex.php?page=treesubj&link=30387عظم حال الجنة ، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيما .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ) قال
الزجاج : إنه تعالى لما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21سابقوا إلى مغفرة ) بين أن
nindex.php?page=treesubj&link=30455المؤدي إلى الجنة والنار لا يكون إلا بقضاء وقدر ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22ما أصاب من مصيبة ) والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض هي قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوع . والمصيبة في الأنفس فيها قولان :
الأول : أنها هي : الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها .
والثاني : أنها تتناول الخير والشر أجمع ؛ لقوله بعد ذلك : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) [ الحديد : 23 ] ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إلا في كتاب ) يعني مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية دالة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30455_28782جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللوح المحفوظ . قال المتكلمون : وإنما كتب كل ذلك لوجوه :
أحدها : تستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع الأشياء قبل وقوعها .
وثانيها : ليعرفوا حكمة الله فإنه تعالى مع علمه بأنهم يقدمون على تلك المعاصي خلقهم ورزقهم .
وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي .
ورابعها : ليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم على الطاعات وعصمته إياهم من المعاصي .
وقالت الحكماء : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبرات أمرا ، وهم المقسمات أمرا ، إنما هي المبادئ لحدوث الحوادث في
[ ص: 207 ] هذا العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ، فتصوراتها لانسياق تلك الأسباب إلى المسببات هو المراد من قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إلا في كتاب ) .
المسألة الثانية : استدل جمهور أهل التوحيد بهذه الآية على
nindex.php?page=treesubj&link=28781_30455أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها خلافا
لهشام بن الحكم ، ووجه الاستدلال أنه تعالى لما كتبها في الكتاب قبل وقوعها وجاءت مطابقة لذلك الكتاب علمنا أنه تعالى عالما بها بأسرها .
المسألة الثالثة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22ولا في أنفسكم ) يتناول جميع مصائب الأنفس فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ، ومثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محالا ؛ لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها ، والجمع بين المتنافيين محال ، فلما حصل العلم بوجودها ، وهذا العلم ممتنع الزوال كان الجمع بين عدمها وبين علم الله بوجودها محالا .
المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يقل : إن جميع الحوادث مكتوبة في الكتاب ؛ لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال ، وأيضا خصص ذلك بالأرض والأنفس وما أدخل فيها أحوال السماوات ، وأيضا خصص ذلك بمصائب الأرض والأنفس لا بسعادات الأرض والأنفس ، وفي كل هذه الرموز إشارات وأسرار ، أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22من قبل أن نبرأها ) فقد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : من قبل أن نخلق هذه المصائب ، وقال بعضهم : بل المراد الأنفس ، وقال آخرون : بل المراد نفس الأرض ، والكل محتمل ؛ لأن ذكر الكل قد تقدم وإن كان الأقرب نفس المصيبة ؛ لأنها هي المقصود ، وقال آخرون : المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات ، والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه ) .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إن ذلك على الله يسير ) وفيه قولان :
أحدهما : إن حفظ ذلك على الله هين .
والثاني : إن إثبات ذلك على كثرته في الكتاب يسير على الله وإن كان عسيرا على العباد ، ونظير هذه الآية قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=11وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ) [ فاطر : 11 ] .
[ ص: 206 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) زَعَمَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30404_29468نَعِيمَ الْجَنَّةِ تَفَضُّلٌ مَحْضٌ لَا أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَمَلِ ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ
الْكَعْبِيِّ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ : هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوِ امْتَنَعَ بَيْنَ كَوْنِ الْجَنَّةِ مُسْتَحَقَّةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَمَّا إِذَا صَحَّ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُ مَعَهَا مِنْ كَسْبِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِمَا يُكْسِبُ أَسْبَابَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ مُتَفَضِّلًا بِهَا ، قَالَ : وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا ، ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) مَعْنًى .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِأَسْبَابِ ذَلِكَ الْكَسْبِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِنَفْسِ الْجَنَّةِ ، فَإِنَّ مَنْ وُهِبَ مِنْ إِنْسَانٍ كَاغِدًا وَدَوَاةً وَقَلَمًا ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَتَبَ بِذَلِكَ الْمِدَادِ عَلَى ذَلِكَ الْكَاغِدِ مُصْحَفًا وَبَاعَهُ مِنَ الْوَاهِبِ ، لَا يُقَالُ : إِنَّ أَدَاءَ ذَلِكَ الثَّمَنِ تَفْضِيلٌ ، بَلْ يُقَالُ : إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ ، فَكَذَا هَهُنَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا : إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ ) مَعْنًى ، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَجِيبٌ ؛ لِأَنَّ لِلْمُتَفَضِّلِ أَنْ يَشْرُطَ فِي تَفَضُّلِهِ أَيَّ شَرْطٍ شَاءَ ، وَيَقُولُ : لَا أَتَفَضَّلُ إِلَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=30387عِظَمِ حَالِ الْجَنَّةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ إِذَا أَعْطَى عَطَاءً مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَثْنَى بِسَبَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَطَاءُ عَظِيمًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) قَالَ
الزَّجَّاجُ : إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ ) بَيَّنَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30455الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ) وَالْمَعْنَى لَا تُوجَدُ مُصِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَائِبِ إِلَّا وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ قَحْطُ الْمَطَرِ ، وَقِلَّةُ النَّبَاتِ ، وَنَقْصُ الثِّمَارِ ، وَغَلَاءُ الْأَسْعَارِ ، وَتَتَابُعُ الْجُوعِ . وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَنْفُسِ فِيهَا قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا هِيَ : الْأَمْرَاضُ ، وَالْفَقْرُ ، وَذَهَابُ الْأَوْلَادِ ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ أَجْمَعَ ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) [ الْحَدِيدِ : 23 ] ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إِلَّا فِي كِتَابٍ ) يَعْنِي مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30455_28782جَمِيعَ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ . قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ : وَإِنَّمَا كَتَبَ كُلَّ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : تَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا .
وَثَانِيهَا : لِيَعْرِفُوا حِكْمَةَ اللَّهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ .
وَثَالِثُهَا : لِيَحْذَرُوا مِنْ أَمْثَالِ تِلْكَ الْمَعَاصِي .
وَرَابِعُهَا : لِيَشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِصْمَتِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي .
وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ : إِنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا ، وَهُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا ، إِنَّمَا هِيَ الْمَبَادِئُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي
[ ص: 207 ] هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِوَاسِطَةِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالِاتِّصَالَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ ، فَتَصَوُّرَاتُهَا لِانْسِيَاقِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إِلَّا فِي كِتَابٍ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28781_30455أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا خِلَافًا
لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَهَا فِي الْكِتَابِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَجَاءَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْكِتَابِ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا بِأَسْرِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ ) يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَصَائِبِ الْأَنْفُسِ فَيَدْخُلُ فِيهَا كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ بِتَفَاصِيلِهَا مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، وَمُثْبَتَةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مُحَالًا ؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِوُجُودِهَا مُنَافٍ لِعَدَمِهَا ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُحَالٌ ، فَلَمَّا حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا ، وَهَذَا الْعِلْمُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدَمِهَا وَبَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ بِوُجُودِهَا مُحَالًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : إِنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ مَكْتُوبَةٌ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ، فَإِثْبَاتُهَا فِي الْكِتَابِ مُحَالٌ ، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ وَمَا أَدْخَلَ فِيهَا أَحْوَالَ السَّمَاوَاتِ ، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَصَائِبِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ لَا بِسَعَادَاتِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الرُّمُوزِ إِشَارَاتٌ وَأَسْرَارٌ ، أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْلُقَ هَذِهِ الْمَصَائِبَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلِ الْمُرَادُ الْأَنْفُسُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ الْأَرْضِ ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّ قَدْ تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَالْمَخْلُوقَاتُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا إِلَّا أَنَّهَا لِظُهُورِهَا يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : إِنَّ حِفْظَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ هَيِّنٌ .
وَالثَّانِي : إِنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ فِي الْكِتَابِ يَسِيرٌ عَلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=11وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) [ فَاطِرٍ : 11 ] .