(
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فاعتبروا يا أولي الأبصار ) .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فاعتبروا ياأولي الأبصار ) .
اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب " المحصول من أصول الفقه " على أن القياس حجة فلا نذكره
[ ص: 245 ] ههنا ، إلا أنه لا بد ههنا من بيان الوجه الذي أمر الله فيه بالاعتبار ، وفيه احتمالات :
أحدها : أنهم اعتمدوا على حصونهم ، وعلى قوتهم وشوكتهم ، فأباد الله شوكتهم وأزال قوتهم ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فاعتبروا ياأولي الأبصار ) ولا تعتمدوا على شيء غير الله ، فليس للزاهد أن يعتمد على زهده ، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد
بلعام ، وليس للعالم أن يعتمد على علمه ، انظر إلى
ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار ، بل
nindex.php?page=treesubj&link=19651_29703لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته .
وثانيها : قال القاضي : المراد أن يعرف الإنسان
nindex.php?page=treesubj&link=30539_30558_30525_18849عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة ، فإن أولئك
اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء ، والمؤمنون أيضا يعتبرون به ، فيعدلون عن المعاصي .
فإن قيل : هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا : إنهم غدروا وكفروا فعذبوا ، وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر ، إلا أن هذا القول فاسد طردا وعكسا ، أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر ، وما عذب في الدنيا ، وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه ، ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم ، وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار ، وأيضا فالحكم الثالث في الأصل هو أنهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين ، ومعلوم أن هذا لا يصلح ، فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح .
والجواب : أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب :
أولها : كونه تخريبا للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين .
وثانيها : وهو أعم من الأول ، كونه عذابا في الدنيا .
وثالثها : وهو أعم من الثاني ، كونه مطلق العذاب ، والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب ، فأما خصوص كونه تخريبا أو قتلا في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر ، فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة .
والغدر والكفر يناسبان العذاب ، فعلمنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=18849_18843الكفر والغدر هما السببان في العذاب ، فأينما حصلا حصل العذاب من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة ، ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض ، وتم القياس على الوجه الصحيح .
المسألة الثانية : الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء ؛ ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، وسمي المعبر معبرا لأن به تحصل المجاوزة ، وسمي العلم المخصوص بالتعبير ؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ؛ ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها .
وفي قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2ياأولي الأبصار ) وجهان :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر .
والثاني : قال الفراء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2ياأولي الأبصار ) يا من عاين تلك الواقعة المذكورة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ ) .
اعْلَمْ أَنَّا قَدْ تَمَسَّكْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ " الْمَحْصُولُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ " عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَلَا نَذْكُرُهُ
[ ص: 245 ] هَهُنَا ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ هَهُنَا مِنْ بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ فِيهِ بِالِاعْتِبَارِ ، وَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى حُصُونِهِمْ ، وَعَلَى قُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ ، فَأَبَادَ اللَّهُ شَوْكَتَهُمْ وَأَزَالَ قُوَّتَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ ) وَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ ، فَلَيْسَ لِلزَّاهِدِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى زُهْدِهِ ، فَإِنَّ زُهْدَهُ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ زُهْدِ
بِلْعَامٍ ، وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عِلْمِهِ ، انْظُرْ إِلَى
ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ مَعَ كَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ كَيْفَ صَارَ ، بَلْ
nindex.php?page=treesubj&link=19651_29703لَا اعْتِمَادَ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ إِلَّا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .
وَثَانِيهَا : قَالَ الْقَاضِي : الْمُرَادُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ
nindex.php?page=treesubj&link=30539_30558_30525_18849عَاقِبَةَ الْغَدْرِ وَالْكُفْرِ وَالطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ ، فَإِنَّ أُولَئِكَ
الْيَهُودَ وَقَعُوا بِشُؤْمِ الْغَدْرِ وَالْكُفْرِ فِي الْبَلَاءِ وَالْجَلَاءِ ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا يَعْتَبِرُونَ بِهِ ، فَيَعْدِلُونَ عَنِ الْمَعَاصِي .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الِاعْتِبَارُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ قُلْنَا : إِنَّهُمْ غَدَرُوا وَكَفَرُوا فَعُذِّبُوا ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ هُوَ الْكُفْرَ وَالْغَدْرَ ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ طَرْدًا وَعَكْسًا ، أَمَّا الطَّرْدُ فَلِأَنَّهُ رُبَّ شَخْصٍ غَدَرَ وَكَفَرَ ، وَمَا عُذِّبَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمِحَنِ بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا وَقَعَتْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِأَصْحَابِهِ ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ أَدْيَانِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ فَقَدْ بَطَلَ هَذَا الِاعْتِبَارُ ، وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) وَإِذَا عَلَّلْنَا ذَلِكَ بِالْكُفْرِ وَالْغَدْرِ يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَنْ غَدَرَ وَكَفَرَ أَنْ يُخَرِّبَ بَيْتَهُ بِيَدِهِ وَبِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْأَصْلِ لَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ :
أَوَّلُهَا : كَوْنُهُ تَخْرِيبًا لِلْبَيْتِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ .
وَثَانِيهَا : وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ ، كَوْنُهُ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا .
وَثَالِثُهَا : وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الثَّانِي ، كَوْنُهُ مُطْلَقَ الْعَذَابِ ، وَالْغَدْرُ وَالْكُفْرُ إِنَّمَا يُنَاسِبَانِ الْعَذَابَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَذَابٌ ، فَأَمَّا خُصُوصُ كَوْنِهِ تَخْرِيبًا أَوْ قَتْلًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَذَاكَ عَدِيمُ الْأَثَرِ ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْقِيَاسِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ غَدَرُوا وَكَفَرُوا وَكَذَّبُوا عُذِّبُوا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ .
وَالْغَدْرُ وَالْكُفْرُ يُنَاسِبَانِ الْعَذَابَ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18849_18843الْكُفْرَ وَالْغَدْرَ هُمَا السَّبَبَانِ فِي الْعَذَابِ ، فَأَيْنَمَا حَصَلَا حَصَلَ الْعَذَابُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَتَى قَرَّرْنَا الْقِيَاسَ وَالِاعْتِبَارَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَتِ الْمَطَاعِنُ وَالنُّقُوضُ ، وَتَمَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الِاعْتِبَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبُورِ وَالْمُجَاوَزَةِ مِنْ شَيْءٍ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتِ الْعَبْرَةُ عَبْرَةً لِأَنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْخَدِّ ، وَسُمِّيَ الْمَعْبَرُ مَعْبَرًا لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ الْمُجَاوَزَةُ ، وَسُمِّيَ الْعِلْمُ الْمَخْصُوصُ بِالتَّعْبِيرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْمُتَخَيَّلِ إِلَى الْمَعْقُولِ ، وَسُمِّيَتِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَاتٌ ؛ لِأَنَّهَا تَنْقُلُ الْمَعَانِيَ مِنْ لِسَانِ الْقَائِلِ إِلَى عَقْلِ الْمُسْتَمِعِ ، وَيُقَالُ : السَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَقْلُهُ مَنْ حَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إِلَى حَالِ نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الِاعْتِبَارُ هُوَ النَّظَرُ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَجِهَاتِ دَلَالَتِهَا لِيُعْرَفَ بِالنَّظَرِ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهَا .
وَفِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يَاأُولِي الْأَبْصَارِ ) وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ يَا أَهْلَ اللُّبِّ وَالْعَقْلِ وَالْبَصَائِرِ .
وَالثَّانِي : قَالَ الْفَرَّاءُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يَاأُولِي الْأَبْصَارِ ) يَا مَنْ عَايَنَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ الْمَذْكُورَةَ .