(
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=7إن لك في النهار سبحا طويلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=7إن لك في النهار سبحا طويلا ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : سبحا أي تقلبا فيما يجب, ولهذا سمي السابح سابحا لتقلبه بيديه ورجليه ، ثم في كيفية المعنى وجهان :
الأول : إن لك في النهار تصرفا وتقلبا في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل ، فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل .
الثاني : قال
الزجاج : أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه .
المسألة الثانية : قرئ "سبخا" بالخاء المنقطة من فوق ، وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه ، فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل ، وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة ، واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولا بقيام الليل ، ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار ، ثم بين أن
nindex.php?page=treesubj&link=1252_24582أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو .
وقوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين :
أحدهما : الذكر .
والثاني : التبتل ، أما الذكر فاعلم أنه إنما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8واذكر اسم ربك ) ههنا وقال في آية أخرى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ) [الأعراف : 205] لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم
[ ص: 157 ] ويبقى المسمى ، فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8واذكر اسم ربك ) .
والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر ربك في نفسك ) وإنما تكون مشتغلا بذكر الرب إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته ، وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك ، فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق القلب به ، وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلا بذكر إلهيته ، وإليه الإشارة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) [البقرة : 200] وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية ؛ لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية ، ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام مترددا في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية ، التي كلت العبارات عن شرحها ، وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها ، وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق ، ثم يقف ؛ لأنه ليس هناك نظير في الصفات ، حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة ، ولا تكون الهوية مركبة حتى ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء ، ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة ، فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر ، وهي الباطنة ؛ لأنها فوق عقول كل المخلوقات ، فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره ، وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8وتبتل إليه تبتيلا ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص ، وأصل التبتل في اللغة القطع ، وقيل
لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة ، وصدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها . وقال
الليث : التبتيل تمييز الشيء عن الشيء ، والبتول كل امرأة تنقبض من الرجال ، لا رغبة لها فيهم . إذا عرفت ذلك فاعلم أن للمفسرين عبارات : قال الفراء : يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته ، وقال زيد بن أسلم : التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها والتماس ما عند الله ، واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون ؛ لأن قوله : ( وتبتل ) أي انقطع عن كل ما سواه إليه فالمشغول بطلب الآخرة غير متبتل إلى الله تعالى ، بل التبتل إلى الآخرة, والمشغول بعبادة الله متبتل إلى العبادة لا إلى الله ، والطالب لمعرفة الله متبتل إلى معرفة الله لا إلى الله ، فمن آثر العبادة لنفس العبادة أو لطلب الثواب أو ليصير متعبدا كاملا بتلك العبودية للعبودية فهو متبتل إلى غير الله ، ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل إلى العرفان ، ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف ، فقد خاض لجة الوصول ، وهذا مقام لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال ، ومن أراده فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر .
ولا يجد الإنسان لهذا مثالا إلا عند العشق الشديد إذا مرض البدن بسببه وانحبست القوى وعميت العينان, وزالت الأغراض بالكلية وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية ، فهناك يظهر الفرق بين التبتل إلى المعشوق وبين التبتل إلى رؤية المعشوق .
المسألة الثانية : الواجب أن يقال : وتبتل إليه تبتلا أو يقال : بتل نفسك إليه تبتيلا ، لكنه تعالى لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل . فأما التبتيل فهو تصرف
[ ص: 158 ] والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى الله ؛ لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا إلى الله ، إلا أنه لا بد أولا من التبتيل حتى يحصل التبتل كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [العنكبوت : 69] فذكر التبتل أولا إشعارا بأنه المقصود بالذات , وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه , ولكنه مقصود بالغرض .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=7إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=7إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15153الْمُبَرِّدُ : سَبْحًا أَيْ تَقَلُّبًا فِيمَا يَجِبُ, وَلِهَذَا سُمِّي السَّابِحُ سَابِحًا لِتَقَلُّبِهِ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَعْنَى وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ تَصَرُّفًا وَتَقَلُّبًا فِي مُهِمَّاتِكَ فَلَا تَتَفَرَّغْ لِخِدْمَةِ اللَّهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرْتُكَ بِالصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ .
الثَّانِي : قَالَ
الزَّجَّاجُ : أَيْ إِنْ فَاتَكَ مِنَ اللَّيْلِ شَيْءٌ مِنَ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ فَلَكَ فِي النَّهَارِ فَرَاغُهُ فَاصْرِفْهُ إِلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُرِئَ "سَبْخًا" بِالْخَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ سَبَخِ الصُّوفِ وَهُوَ نَفْشُهُ وَنَشْرُ أَجْزَائِهِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ فِي النَّهَارِ يَتَفَرَّغُ بِسَبَبِ الشَّوَاغِلِ ، وَتَخْتَلِفُ هُمُومُهُ بِسَبَبِ الْمُوجِبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَوَّلًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ فِي أَنَّهُ لِمَ خَصَّ اللَّيْلَ بِذَلِكَ دُونَ النَّهَارِ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=1252_24582أَشْرَفَ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا عِنْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا هُوَ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : الذِّكْرُ .
وَالثَّانِي : التَّبَتُّلُ ، أَمَّا الذِّكْرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) هَهُنَا وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) [الْأَعْرَافِ : 205] لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ بِاللِّسَانِ مُدَّةً ثُمَّ يَزُولُ الِاسْمُ
[ ص: 157 ] وَيَبْقَى الْمُسَمَّى ، فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هَهُنَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) .
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ) وَإِنَّمَا تَكُونُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ الرَّبِّ إِذَا كُنْتَ فِي مَقَامِ مُطَالَعَةِ رُبُوبِيَّتِهِ ، وَرُبُوبِيَّتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْوَاعِ تَرْبِيَتِهِ لَكَ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْكَ ، فَمَا دُمْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَكُونُ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِمُطَالَعَةِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ فَلَا تَكُونُ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِهِ ، وَحِينَئِذٍ يَزْدَادُ التَّرَقِّي فَتَصِيرُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ إِلَهِيَّتِهِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=200فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ) [الْبَقَرَةِ : 200] وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ وَالْخَشْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهَارِيَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ وَالصَّمَدِيَّةِ ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَرْقَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُتَرَدِّدًا فِي مَقَامَاتِ الْجَلَالِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ إِلَى أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى مَقَامِ الْهَوِيَّةِ الْأَحَدِيَّةِ ، الَّتِي كَلَّتِ الْعِبَارَاتُ عَنْ شَرْحِهَا ، وَتَقَاصَرَتِ الْإِشَارَاتُ عَنِ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا ، وَهُنَاكَ الِانْتِهَاءُ إِلَى الْوَاحِدِ الْحَقِّ ، ثُمَّ يَقِفُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ نَظِيرٌ فِي الصِّفَاتِ ، حَتَّى يَحْصُلَ الِانْتِقَالُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ ، وَلَا تَكُونُ الْهَوِيَّةُ مُرَكَّبَةً حَتَّى يَنْتَقِلَ نَظَرُ الْعَقْلِ مِنْ جُزْءٍ إِلَى جُزْءٍ ، وَلَا مُنَاسِبَةً لِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُدْرَكَةِ عَنِ النَّفْسِ حَتَّى تُعْرَفَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ ، فَهِيَ الظَّاهِرَةُ لِأَنَّهَا مَبْدَأُ ظُهُورِ كُلِّ ظَاهِرٍ ، وَهِيَ الْبَاطِنَةُ ؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ عُقُولِ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَسُبْحَانَ مَنِ احْتَجَبَ عَنِ الْعُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَاخْتَفَى عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=8وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا التَّبَتُّلَ بِالْإِخْلَاصِ ، وَأَصْلُ التَّبَتُّلِ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ ، وَقِيلَ
لِمَرْيَمَ الْبَتُولُ لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ ، وَصَدَقَةٌ بَتْلَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا . وَقَالَ
اللَّيْثُ : التَّبْتِيلُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ ، وَالْبَتُولُ كُلُّ امْرَأَةٍ تَنْقَبِضُ مِنَ الرِّجَالِ ، لَا رَغْبَةَ لَهَا فِيهِمْ . إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ : قَالَ الْفَرَّاءُ : يُقَالُ لِلْعَابِدِ إِذَا تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ قَدْ تَبَتَّلَ أَيِ انْقَطَعَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : التَّبَتُّلُ رَفْضُ الدُّنْيَا مَعَ كُلِّ مَا فِيهَا وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فَوْقَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيُّونَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( وَتَبَتَّلْ ) أَيِ انْقَطِعْ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ إِلَيْهِ فَالْمَشْغُولُ بِطَلَبِ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُتَبَتِّلٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، بَلِ التَّبَتُّلُ إِلَى الْآخِرَةِ, وَالْمَشْغُولُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُتَبَتِّلٌ إِلَى الْعِبَادَةِ لَا إِلَى اللَّهِ ، وَالطَّالِبُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ مُتَبَتِّلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ لَا إِلَى اللَّهِ ، فَمَنْ آثَرَ الْعِبَادَةَ لِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْ لِطَلَبِ الثَّوَابِ أَوْ لِيَصِيرَ مُتَعَبِّدًا كَامِلًا بِتِلْكَ الْعُبُودِيَّةِ لِلْعُبُودِيَّةِ فَهُوَ مُتَبَتِّلٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ ، وَمَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لِلْعِرْفَانِ فَهُوَ مُتَبَتِّلٌ إِلَى الْعِرْفَانِ ، وَمَنْ آثَرَ الْعُبُودِيَّةَ لَا لِلْعُبُودِيَّةِ بَلْ لِلْمَعْبُودِ وَآثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ بَلْ لِلْمَعْرُوفِ ، فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ الْوُصُولِ ، وَهَذَا مَقَامٌ لَا يَشْرَحُهُ الْمَقَالُ وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْخَيَالُ ، وَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ دُونَ السَّامِعِينَ لِلْأَثَرِ .
وَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِهَذَا مِثَالًا إِلَّا عِنْدَ الْعِشْقِ الشَّدِيدِ إِذَا مَرِضَ الْبَدَنُ بِسَبَبِهِ وَانْحَبَسَتِ الْقُوَى وَعَمِيَتِ الْعَيْنَانِ, وَزَالَتِ الْأَغْرَاضُ بِالْكُلِّيَّةِ وَانْقَطَعَتِ النَّفْسُ عَمَّا سِوَى الْمَعْشُوقِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَهُنَاكَ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّبَتُّلِ إِلَى الْمَعْشُوقِ وَبَيْنَ التَّبَتُّلِ إِلَى رُؤْيَةِ الْمَعْشُوقِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبَتُّلًا أَوْ يُقَالُ : بَتِّلْ نَفْسَكَ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُمَا وَاخْتَارَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الدَّقِيقَةَ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ إِنَّمَا هُوَ التَّبَتُّلُ . فَأَمَّا التَّبْتِيلُ فَهُوَ تَصَرُّفٌ
[ ص: 158 ] وَالْمُشْتَغِلُ بِالتَّصَرُّفِ لَا يَكُونُ مُتَبَتِّلًا إِلَى اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا إِلَى اللَّهِ ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنَ التَّبْتِيلِ حَتَّى يَحْصُلَ التَّبَتُّلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) [الْعَنْكَبُوتِ : 69] فَذَكَرَ التَّبَتُّلَ أَوَّلًا إِشْعَارًا بِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ , وَذَكَرَ التَّبْتِيلَ ثَانِيًا إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ , وَلَكِنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْغَرَضِ .