(
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=12إن لدينا أنكالا وجحيما nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا )
ثم ذكر كيفية عذابهم عند الله فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=12إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ) أي : إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا ، وذكر أمورا أربعة :
أولها : قوله : ( أنكالا ) واحدها نكل ونكل ، قال
الواحدي : النكل القيد ، وقال صاحب الكشاف : النكل القيد الثقيل .
وثانيها : قوله : ( وجحيما ) ولا حاجة به إلى التفسير .
وثالثها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وطعاما ذا غصة ) الغصة ما يغص به الإنسان ، وذلك الطعام هو الزقوم والضريع كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6ليس لهم طعام إلا من ضريع ) [ الغاشية : 6] قالوا : إنه شوك كالعوسج يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج .
ورابعها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وعذابا أليما ) والمراد منه سائر أنواع العذاب . واعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية ، أما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية ، فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة ، فبعد البدن يشتد الحنين ، مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ، ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية ، فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها - يوجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ، ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه ، فذاك هو الجحيم ، ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق ، فذاك هو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وطعاما ذا غصة ) ، ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما عن تجلي نور الله والانخراط في سلك المقدسين ، وذلك هو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وعذابا أليما ) ، والتنكير في قوله : ( وعذابا ) يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل ، واعلم أني لا أقول المراد بهذه الآيات هو ما ذكرته فقط ، بل أقول : إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية ، وحصول المراتب الأربعة الروحانية ، ولا يمتنع حمله عليهما ، وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة ، وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا متعارفا مشهورا .
ثم إنه تعالى لما وصف العذاب ، أخبر أنه متى يكون ذلك فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=14يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال
الزجاج : " يوم " منصوب بقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=12إن لدينا أنكالا وجحيما ) أي
nindex.php?page=treesubj&link=30539_30438ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم ترجف الأرض .
المسألة الثانية : الرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة ، والكثيب القطعة العظيمة من الرمل تجتمع محدودبة ، وجمعه الكثبان ، وفي كيفية الاشتقاق قولان :
أحدهما : أنه من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول .
والثاني : قال
الليث : الكثيب نثر التراب أو الشيء ، يرمى به ، والفعل اللازم انكثب ينكثب انكثابا ، وسمي الكثيب كثيبا ؛ لأن ترابه دقاق ، كأنه مكثوب منثور بعضه على بعض لرخاوته ، وقوله : ( مهيلا ) أي سائلا قد أسيل ، يقال : تراب مهيل ومهيول أي مصبوب ومسيل . الأكثر في اللغة مهيل ، وهو مثل قولك مكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، وذلك أن الياء تحذف منه الضمة فتسكن ، والواو أيضا ساكنة ، فتحذف الواو
[ ص: 161 ] لالتقاء الساكنين ، ذكره
الفراء والزجاج ، وإذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى يفرق تركيب أجزاء الجبال وينسفها نسفا ويجعلها كالعهن المنفوش ، فعند ذلك تصير كالكثيب ، ثم إنه تعالى يحركها على ما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=47ويوم نسير الجبال ) [ الكهف : 47] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=88وهي تمر مر السحاب ) [ النمل : 88 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=20وسيرت الجبال ) [ النبأ : 20] فعند ذلك تصير مهيلا ، فإن قيل : لم لم يقل : وكانت الجبال كثبانا مهيلة ؟ قلنا : لأنها بأسرها تجتمع فتصير كثيبا واحدا مهيلا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=12إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا )
ثُمَّ ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ عَذَابِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=12إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ) أَيْ : إِنَّ لَدَيْنَا فِي الْآخِرَةِ مَا يُضَادُّ تَنَعُّمَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً :
أَوَّلُهَا : قَوْلُهُ : ( أَنْكَالًا ) وَاحِدُهَا نِكْلٌ وَنُكْلٌ ، قَالَ
الْوَاحِدِيُّ : النِّكْلُ الْقَيْدُ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ : النِّكْلُ الْقَيْدُ الثَّقِيلُ .
وَثَانِيهَا : قَوْلُهُ : ( وَجَحِيمًا ) وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى التَّفْسِيرِ .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ) الْغُصَّةُ مَا يُغَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ ، وَذَلِكَ الطَّعَامُ هُوَ الزَّقُّومُ وَالضَّرِيعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) [ الْغَاشِيَةِ : 6] قَالُوا : إِنَّهُ شَوْكٌ كَالْعَوْسَجِ يَأْخُذُ بِالْحَلْقِ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ .
وَرَابِعُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وَعَذَابًا أَلِيمًا ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْعُقُوبَةِ الرُّوحَانِيَّةِ ، أَمَّا الْأَنْكَالُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ النَّفْسِ فِي قَيْدِ التَّعَلُّقَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ ، فَإِنَّهَا فِي الدُّنْيَا لَمَّا اكْتَسَبَتْ مَلَكَةَ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ ، فَبَعْدَ الْبَدَنِ يَشْتَدُّ الْحَنِينُ ، مَعَ أَنَّ آلَاتِ الْكَسْبِ قَدْ بَطَلَتْ فَصَارَتْ تِلْكَ كَالْأَنْكَالِ وَالْقُيُودِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنَ التَّخَلُّصِ إِلَى عَالَمِ الرُّوحِ وَالصَّفَاءِ ، ثُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْ تِلْكَ الْقُيُودِ الرُّوحَانِيَّةِ نِيرَانٌ رُوحَانِيَّةٌ ، فَإِنَّ شَدَّةَ مَيْلِهَا إِلَى الْأَحْوَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَعَدَمَ تَمَكُّنِهَا مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا - يُوجِبُ حُرْقَةً شَدِيدَةً رُوحَانِيَّةً كَمَنْ تَشْتَدُّ رَغْبَتُهُ فِي وِجْدَانِ شَيْءٍ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَجِدُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ عَلَيْهِ ، فَذَاكَ هُوَ الْجَحِيمُ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَجَرَّعُ غُصَّةَ الْحِرْمَانِ وَأَلَمَ الْفِرَاقِ ، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ ) ، ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ تَجَلِّي نُورِ اللَّهِ وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الْمُقَدَّسِينَ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=13وَعَذَابًا أَلِيمًا ) ، وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ : ( وَعَذَابًا ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَكْمَلُ ، وَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَقُولُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ مَا ذَكَرْتُهُ فَقَطْ ، بَلْ أَقُولُ : إِنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ ، وَحُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الرُّوحَانِيَّةِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْجُسْمَانِيَّةِ حَقِيقَةً ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الرُّوحَانِيَّةِ مَجَازًا مُتَعَارَفًا مَشْهُورًا .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْعَذَابَ ، أَخْبَرَ أَنَّهُ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=14يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
الزَّجَّاجُ : " يَوْمَ " مَنْصُوبٌ بِقَوْلِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=12إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ) أَيْ
nindex.php?page=treesubj&link=30539_30438نُنَكِّلُ بِالْكَافِرِينَ وَنُعَذِّبُهُمْ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الرَّجْفَةُ الزَّلْزَلَةُ وَالزَّعْزَعَةُ الشَّدِيدَةُ ، وَالْكَثِيبُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الرَّمْلِ تَجْتَمِعُ مُحْدَوْدِبَةً ، وَجَمْعُهُ الْكُثْبَانُ ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِاشْتِقَاقِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ كَثَبَ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعَهُ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ .
وَالثَّانِي : قَالَ
اللَّيْثُ : الْكَثِيبُ نَثْرُ التُّرَابِ أَوِ الشَّيْءِ ، يُرْمَى بِهِ ، وَالْفِعْلُ اللَّازِمُ انْكَثَبَ يَنْكَثِبُ انْكِثَابًا ، وَسُمِّيَ الْكَثِيبُ كَثِيبًا ؛ لِأَنَّ تُرَابَهُ دِقَاقٌ ، كَأَنَّهُ مَكْثُوبٌ مَنْثُورٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لِرَخَاوَتِهِ ، وَقَوْلُهُ : ( مَهِيلًا ) أَيْ سَائِلًا قَدْ أُسِيلُ ، يُقَالُ : تُرَابٌ مَهِيلٌ وَمَهْيُولٌ أَيْ مَصْبُوبٌ وَمَسِيلٌ . الْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مَهِيلٌ ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ مَكِيلٌ وَمَكْيُولٌ ، وَمَدِينٌ وَمَدْيُونٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَاءَ تُحْذَفُ مِنْهُ الضَّمَّةُ فَتَسْكُنُ ، وَالْوَاوُ أَيْضًا سَاكِنَةٌ ، فَتُحْذَفُ الْوَاوُ
[ ص: 161 ] لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ، ذَكَرَهُ
الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : إِنَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ تَرْكِيبَ أَجْزَاءِ الْجِبَالِ وَيَنْسِفُهَا نَسْفًا وَيَجْعَلُهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ كَالْكَثِيبِ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُحَرِّكُهَا عَلَى مَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=47وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ) [ الْكَهْفِ : 47] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=88وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ) [ النَّمْلِ : 88 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=20وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ ) [ النَّبَأِ : 20] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ مَهِيلًا ، فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَقُلْ : وَكَانَتِ الْجِبَالُ كُثْبَانًا مَهِيلَةً ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا تَجْتَمِعُ فَتَصِيرُ كَثِيبًا وَاحِدًا مَهِيلًا .