[ ص: 233 ] [ سورة المرسلات ]
وهي خمسون آية ؛ مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات عرفا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3والناشرات نشرا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فالفارقات فرقا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=6عذرا أو نذرا )
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29048_31758_29747_33062والمرسلات عرفا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3والناشرات نشرا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فالفارقات فرقا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=6عذرا أو نذرا ) ؛ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الكلمات الخمس إما أن يكون المراد منها جنسا واحدا أو أجناسا مختلفة .
أما الاحتمال الأول فذكروا فيه وجوها :
الأول : أن المراد منها بأسرها الملائكة ، فالمرسلات هم الملائكة الذين أرسلهم الله ، إما بإيصال النعمة إلى قوم ، أو لإيصال النقمة إلى آخرين .
وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1عرفا ) فيه وجوه :
أحدها : متتابعة كشعر العرف ، يقال : جاءوا عرفا واحدا ، وهم عليه كعرف الضبع ؛ إذا تألبوا عليه .
والثاني : أن يكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكرة ؛ فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة ، فهذا المعنى فيهم ظاهر ، وإن كانوا لأجل العذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفا للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم .
والثالث : أن يكون مصدرا ؛ كأنه قيل : والمرسلات إرسالا ، أي متتابعة . وانتصاب " عرفا " على الوجه الأول على الحال ، وعلى الثاني لكونه مفعولا ، أي : أرسلت للإحسان والمعروف ، وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا ) فيه وجهان :
الأول : يعني أن
nindex.php?page=treesubj&link=29747_33062الله تعالى لما أرسل أولئك الملائكة فهم عصفوا في طيرانهم كما تعصف الرياح .
والثاني : أن هؤلاء الملائكة يعصفون بروح الكافر ، يقال : عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه ، يقال : ناقة عصوف ، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة ، وعصفت الحرب بالقوم ، أي : ذهبت بهم ، قال الشاعر :
في فيلق شهباء ملمومة تعصف بالمقبل والمدبر
[ ص: 234 ] وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3والناشرات نشرا ) معناه أنهم
nindex.php?page=treesubj&link=29747_33062نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض ، أو نشروا الشرائع في الأرض ، أو نشروا الرحمة أو العذاب ، أو المراد الملائكة الذين ينشرون الكتب يوم الحساب ، وهي الكتب التي فيها أعمال بني
آدم ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=13ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) [ الإسراء : 13 ] وبالجملة فقد نشروا الشيء الذي أمروا بإيصاله إلى أهل الأرض ونشره فيهم ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فالفارقات فرقا ) معناه أنهم
nindex.php?page=treesubj&link=29747_33062يفرقون بين الحق والباطل . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا ) معناه أنهم يلقون الذكر إلى الأنبياء ، ثم المراد من الذكر يحتمل أن يكون مطلق العلم والحكمة ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ) [ النحل : 2 ] ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن خاصة ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=25أؤلقي الذكر عليه من بيننا ) [ القمر : 25 ] ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=86وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ) [ القصص : 86 ] وهذا الملقي وإن كان هو
جبريل عليه السلام وحده ، إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم .
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به ، وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه :
أحدها : شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50ويفعلون ما يؤمرون ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=27لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) [ الأنبياء : 27 ] .
وثانيها : أنهم أقسام : فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء ، ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم ؛ طائفة منهم بالنهار ، وطائفة منهم بالليل ، ومنهم من يرسل لقبض أرواح بني آدم ، ومنهم من يرسل بالوحي من سماء إلى أخرى ، إلى أن ينزل بذلك الوحي ملك السماء إلى الأرض ، ومنهم الملائكة الذين ينزلون كل يوم من البيت المعمور إلى
الكعبة على ما روي ذلك في الأخبار ، فهذا مما ينتظمه قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات عرفا ) ، ثم ما فيها من سرعة السير ، وقطع المسافات الكثيرة في المدة اليسيرة ، كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=4تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) [ المعارج : 4 ] ثم ما فيها من نشر أجنحتهم العظيمة عند الطيران ، ونشر العلم والحكمة والنبوة والهداية والإرشاد والوحي والتنزيل ، وإظهار الفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال ذلك الوحي والتنزيل ، وإلقاء الذكر في القلب واللسان بسبب ذلك الوحي . وبالجملة
nindex.php?page=treesubj&link=29747فالملائكة هم الوسائط بين الله تعالى وبين عباده في الفوز بجميع السعادات العاجلة والآجلة ، والخيرات الجسمانية والروحانية ، فلذلك أقسم الله بهم .
القول الثاني : أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح ، أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفا ، أي متتابعة كشعر العرف ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57يرسل الرياح ) [ الأعراف : 57 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22وأرسلنا الرياح ) [ الحجر : 22 ] ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة ، نشرت السحاب في الجو ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) [ الأعراف : 57 ] ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=48الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء ) [ الروم : 48 ] ويجوز أيضا أن يقال : الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات ؛ وذلك لأنها تلقح فيبرز النبات بذلك ، على ما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22وأرسلنا الرياح لواقح ) [ الحجر : 22 ] فبهذا الطريق تكون الرياح ناشرة للنبات ، وفي كون الرياح فارقة وجوه :
أحدها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=31758_31761الرياح تفرق بعض أجزاء السحاب عن بعض .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=31843_33679الله تعالى خرب بعض القرى بتسليط الرياح عليها ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=6وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر ) [ الحاقة : 6 ] ، وذلك سبب لظهور الفرق بين أولياء الله وأعداء الله .
وثالثها : أن عند حدوث الرياح المختلفة وترتيب الآثار العجيبة عليها من تموج السحاب وتخريب الديار تصير الخلق مضطرين إلى الرجوع إلى الله
[ ص: 235 ] والتضرع على باب رحمته ، فيحصل الفرق بين المقر والمنكر والموحد والملحد . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا ) معناه أن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع وتهدم الصخور والجبال وترفع الأمواج - تمسك بذكر الله والتجأ إلى إعانة الله ، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب ، ولا شك أن هذه الإضافة تكون على سبيل المجاز من حيث إن الذكر حصل عند حدوث هذه .
القول الثالث : من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن ، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات ) المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان
جبريل عليه السلام إلى
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1عرفا ) أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير ، وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا ) فالمراد أن دولة الإسلام والقرآن كانت ضعيفة في الأول ، ثم عظمت وقهرت سائر الملل والأديان ، فكأن دولة القرآن عصفت بسائر الدول والملل والأديان وقهرتها ، وجعلتها باطلة دائرة . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3والناشرات نشرا ) المراد أن آيات القرآن نشرت آثار الحكمة والهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فالفارقات فرقا ) فذلك ظاهر ؛ لأن آيات القرآن هي التي تفرق بين الحق والباطل ، ولذلك سمى الله تعالى القرآن فرقانا ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا ) فالأمر فيه ظاهر ؛ لأن القرآن ذكر ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=1ص والقرآن ذي الذكر ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وإنه لذكر لك ولقومك ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=50وهذا ذكر مبارك ) ، و (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=29تذكرة ) كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=48وإنه لتذكرة للمتقين ) [ الحاقة : 48 ] ، وذكرى كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90ذكرى للعالمين ) [ الأنعام : 90 ] ، فظهر أنه يمكن تفسير هذه الكلمات الخمسة بالقرآن ، وهذا وإن لم يذكره أحد فإنه محتمل .
القول الرابع : يمكن حملها أيضا على بعثة الأنبياء عليهم السلام (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات عرفا ) هم الأشخاص الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كل خير ومعروف ، فإنه لا شك أنهم أرسلوا بلا إله إلا الله ، وهو مفتاح كل خير ومعروف (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا ) معناه أن أمر كل رسول يكون في أول الأمر حقيرا ضعيفا ، ثم يشتد ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3والناشرات نشرا ) المراد منه انتشار دينهم ومذهبهم ومقالتهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فالفارقات فرقا ) المراد أنهم يفرقون بين الحق والباطل والتوحيد والإلحاد (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا ) المراد أنهم يدعون الخلق إلى ذكر الله ، ويأمرونهم به ويحثونهم عليه .
القول الخامس : أن يكون المراد أن الرجل قد يكون مشتغلا بمصالح الدنيا مستغرقا في طلب لذاتها وراحاتها ، ففي أثناء ذلك يرد في قلبه داعية الإعراض عن الدنيا والرغبة في خدمة المولى ، فتلك الدواعي هي المرسلات عرفا ، ثم هذه المرسلات لها أثران :
أحدهما : إزالة حب ما سوى الله تعالى عن القلب ، وهو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا ) .
والثاني : ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا الله ، ولا يبصر إلا الله ، ولا ينظر إلا الله ، فذلك هو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3والناشرات نشرا ) ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال الله فيراه موجودا ، ويرى كل ما سواه معدوما ، فذلك قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فالفارقات فرقا ) ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته ، ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره ، فذلك قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا ) .
واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة وإن كانت غير مذكورة إلا أنها محتملة جدا .
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن لا يكون المراد من الكلمات الخمس شيئا واحدا ففيه وجوه :
الأول : ما ذكره
الزجاج واختيار القاضي ، وهو أن الثلاثة الأول هي الرياح ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات عرفا ) هي الرياح التي تتصل على
[ ص: 236 ] العرف المعتاد ، " والعاصفات " ما يشتد منه ، " والناشرات " ما ينشر السحاب . أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فالفارقات فرقا ) فهم الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، بما يتحملونه من القرآن والوحي ، وكذلك قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فالملقيات ذكرا ) أنها الملائكة المتحملة للذكر الملقية ذلك إلى الرسل . فإن قيل : وما
nindex.php?page=treesubj&link=34077المجانسة بين الرياح وبين الملائكة حتى يجمع بينهما في القسم ؟
قلنا : الملائكة روحانيون ، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح .
القول الثاني : أن الاثنين الأولين هما الرياح ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات عرفا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا ) هما الرياح ، والثلاثة الباقية الملائكة ؛ لأنها تنشر الوحي والدين ، ثم لذلك الوحي أثران :
أحدهما : حصول الفرق بين المحق والمبطل .
والثاني : ظهور ذكر الله في القلوب والألسنة ، وهذا القول ما رأيته لأحد ، ولكنه ظاهر الاحتمال أيضا ، والذي يؤكده أنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات عرفا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا ) عطف الثاني على الأول بحرف الفاء ، ثم ذكر الواو فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3والناشرات نشرا ) وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء ، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة .
القول الثالث : يمكن أن يقال : المراد بالأولين الملائكة ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1والمرسلات عرفا ) ملائكة الرحمة ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فالعاصفات عصفا ) ملائكة العذاب ، والثلاثة الباقية آيات القرآن ؛ لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح ، وتفرق بين الحق والباطل ، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة ، وهذا القول أيضا ما رأيته لأحد ، وهو محتمل ، ومن وقف على ما ذكرناه أمكنه أن يذكر فيه وجوها ، والله أعلم .
المسألة الثانية : قال
القفال : الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم ، والواو في بعض - مبني على الأصل ، وهو أن عند أهل اللغة
nindex.php?page=treesubj&link=34077الفاء تقتضي الوصل والتعلق ، فإذا قيل : قام زيد فذهب ، فالمعنى أنه قام ليذهب ، فكان قيامه سببا لذهابه ومتصلا به ، وإذا قيل : قام وذهب ، فهما خبران كل واحد منهما قائم بنفسه لا يتعلق بالآخر . ثم إن
القفال لما مهد هذا الأصل فرع الكلام عليه في هذه الآية بوجوه لا يميل قلبي إليها ، وأنا أفرع على هذا الأصل فأقول : أما من جعل الأولين صفتين لشيء والثلاثة الأخيرة صفات لشيء واحد ، فالإشكال عنه زائل ، وأما من جعل الكل صفات لشيء واحد ، فنقول : إن حملناها على الملائكة ، فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعا ، وذلك الطيران هو العصف ، فالعصف مرتب على الإرسال فلا جرم ذكر الفاء ، أما النشر فلا يترتب على الإرسال ، فإن الملائكة أول ما يبلغون الوحي إلى الرسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهورا منتشرا ، بل الخلق يؤذون الأنبياء في أول الأمر وينسبونهم إلى الكذب والسحر والجنون ، فلا جرم لم يذكر الفاء التي تفيد التعقيب ، بل ذكر الواو ، بل إذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذكر الحق على الألسنة ، فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء ، فكأنه والله أعلم قيل : يا
محمد ، إني أرسلت الملك إليك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وفاتحة كل خير ، ولكن لا تطمع في أن ننشر ذلك الأمر في الحال ، ولكن لا بد من الصبر وتحمل المشقة ، ثم إذا جاء وقت النصرة أجعل دينك ظاهرا منتشرا في شرق العالم وغربه ، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق ، فتصير الأديان الباطلة ضعيفة ساقطة ، ودينك هو الدين الحق ظاهرا غالبا ، وهنالك يظهر ذلك الله على الألسنة ، وفي المحاريب وعلى المنابر ، ويصير العالم مملوءا من ذكر الله ، فهذا إذا حملنا هذه الكلمات الخمس على الملائكة ، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر ما شابهه في الرياح وسائر الوجوه ؛ والله أعلم .
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=6عذرا أو نذرا ) ؛ ففيه مسألتان :
[ ص: 237 ] المسألة الأولى : فيهما قراءتان : التخفيف ، وهو قراءة
أبي عمرو وعاصم من رواية
حفص ، والباقون قرءوا بالتثقيل ، أما التخفيف فلا نزاع في كونه مصدرا ، والمعنى إعذارا وإنذارا ، وأما التثقيل فزعم
أبو عبيدة أنه جمع وليس بمصدر ، وأما
الأخفش والزجاج فزعما أنه مصدر ، والتثقيل والتخفيف لغتان ، وقرر
أبو علي قول
الأخفش والزجاج ، وقال : العذر والعذير والنذر والنذير مثل النكر والنكير ، ثم قال
أبو علي : ويجوز في قراءة من ثقل أن يكون " عذرا " جمع عاذر كشرف وشارف ، وكذلك النذر يجوز أن يكون جمع نذير ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=56هذا نذير من النذر الأولى ) [ النجم : 56 ] .
المسألة الثانية : في النصب ثلاثة أوجه ، أما على تقدير كونه مصدرا فوجهان :
أحدهما : أن يكون مفعولا على البدل من قوله : " ذكرا " .
والثاني : أن يكون مفعولا له ، والمعنى : والملقيات ذكرا للإعذار والإنذار ، وأما على تقدير كونه جمعا ، فنصب على الحال من الإلقاء ، والتقدير :
nindex.php?page=treesubj&link=29747فالملقيات ذكرا حال كونهم عاذرين ومنذرين .
[ ص: 233 ] [ سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ ]
وَهِيَ خَمْسُونَ آيَةً ؛ مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=6عُذْرًا أَوْ نُذْرًا )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=29048_31758_29747_33062وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=6عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) ؛ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً .
أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا بِأَسْرِهَا الْمَلَائِكَةُ ، فَالْمُرْسَلَاتُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ ، إِمَّا بِإِيصَالِ النِّعْمَةِ إِلَى قَوْمٍ ، أَوْ لِإِيصَالِ النِّقْمَةِ إِلَى آخَرِينَ .
وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1عُرْفًا ) فِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : مُتَتَابِعَةٌ كَشَعْرِ الْعُرْفِ ، يُقَالُ : جَاءُوا عُرْفًا وَاحِدًا ، وَهُمْ عَلَيْهِ كَعُرْفِ الضَّبُعِ ؛ إِذَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ النَّكِرَةِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ إِنْ كَانُوا بُعِثُوا لِلرَّحْمَةِ ، فَهَذَا الْمَعْنَى فِيهِمْ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانُوا لِأَجْلِ الْعَذَابِ فَذَلِكَ الْعَذَابُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِلْكُفَّارِ فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْهُمْ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ : وَالْمُرْسَلَاتِ إِرْسَالًا ، أَيْ مُتَتَابِعَةً . وَانْتِصَابُ " عُرْفًا " عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَالِ ، وَعَلَى الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا ، أَيْ : أُرْسِلَتْ لِلْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ ، وَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) فِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : يَعْنِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29747_33062اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ فَهُمْ عَصَفُوا فِي طَيَرَانِهِمْ كَمَا تَعْصِفُ الرِّيَاحُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ يَعْصِفُونَ بِرُوحِ الْكَافِرِ ، يُقَالُ : عَصَفَ بِالشَّيْءِ إِذَا أَبَادَهُ وَأَهْلَكَهُ ، يُقَالُ : نَاقَةٌ عَصُوفٌ ، أَيْ تَعْصِفُ بِرَاكِبِهَا فَتَمْضِي كَأَنَّهَا رِيحٌ فِي السُّرْعَةِ ، وَعَصَفَتِ الْحَرْبُ بِالْقَوْمِ ، أَيْ : ذَهَبَتْ بِهِمْ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
فِي فَيْلَقٍ شَهْبَاءُ مَلْمُومَةٌ تَعْصِفُ بِالْمُقْبِلِ وَالْمُدْبِرِ
[ ص: 234 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ
nindex.php?page=treesubj&link=29747_33062نَشَرُوا أَجْنِحَتَهُمْ عِنْدَ انْحِطَاطِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ ، أَوْ نَشَرُوا الشَّرَائِعَ فِي الْأَرْضِ ، أَوْ نَشَرُوا الرَّحْمَةَ أَوِ الْعَذَابَ ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الْكُتُبَ يَوْمَ الْحِسَابِ ، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي فِيهَا أَعْمَالُ بَنِي
آدَمَ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=13وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 13 ] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ نَشَرُوا الشَّيْءَ الَّذِي أُمِرُوا بِإِيصَالِهِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَنَشْرِهِ فِيهِمْ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ
nindex.php?page=treesubj&link=29747_33062يَفْرِقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) [ النَّحْلِ : 2 ] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْقُرْآنَ خَاصَّةً ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=25أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا ) [ الْقَمَرِ : 25 ] ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=86وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ) [ الْقَصَصِ : 86 ] وَهَذَا الْمُلْقِي وَإِنْ كَانَ هُوَ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ ، إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْوَاحِدُ بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَسَمِ التَّنْبِيهُ عَلَى جَلَالَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ ، وَشَرَفُ الْمَلَائِكَةِ وَعُلُوُّ رُتْبَتِهِمْ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : شِدَّةُ مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=27لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 27 ] .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُمْ أَقْسَامٌ : فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِلُزُومِ بَنِي آدَمَ لِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ ؛ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالنَّهَارِ ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِاللَّيْلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ بِالْوَحْيِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى أُخْرَى ، إِلَى أَنْ يَنْزِلَ بِذَلِكَ الْوَحْيِ مَلَكُ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ، وَمِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إِلَى
الْكَعْبَةِ عَلَى مَا رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ ، فَهَذَا مِمَّا يَنْتَظِمُهُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ) ، ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ سُرْعَةِ السَّيْرِ ، وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ ، كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=4تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) [ الْمَعَارِجِ : 4 ] ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ نَشْرِ أَجْنِحَتِهِمُ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ الطَّيَرَانِ ، وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ ، وَإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِسَبَبِ إِنْزَالِ ذَلِكَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ ، وَإِلْقَاءِ الذِّكْرِ فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَحْيِ . وَبِالْجُمْلَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=29747فَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي الْفَوْزِ بِجَمِيعِ السَّعَادَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ ، وَالْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ ، فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمْ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ بِأَسْرِهَا الرِّيَاحُ ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِرِيَاحِ عَذَابٍ أَرْسَلَهَا عُرْفًا ، أَيْ مُتَتَابِعَةً كَشَعْرِ الْعُرْفِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57يُرْسِلُ الرِّيَاحَ ) [ الْأَعْرَافِ : 57 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ ) [ الْحِجْرِ : 22 ] ثُمَّ إِنَّهَا تَشْتَدُّ حَتَّى تَصِيرَ عَوَاصِفَ وَرِيَاحَ رَحْمَةٍ ، نَشَرَتِ السَّحَابَ فِي الْجَوِّ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) [ الْأَعْرَافِ : 57 ] ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=48اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ ) [ الرُّومِ : 48 ] وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ : الرِّيَاحُ تُعِينُ النَّبَاتَ وَالزَّرْعَ وَالشَّجَرَ عَلَى النُّشُورِ وَالْإِنْبَاتِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ فَيَبْرُزُ النَّبَاتُ بِذَلِكَ ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) [ الْحِجْرِ : 22 ] فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَكُونُ الرِّيَاحُ نَاشِرَةً لِلنَّبَاتِ ، وَفِي كَوْنِ الرِّيَاحِ فَارِقَةً وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31758_31761الرِّيَاحَ تُفَرِّقُ بَعْضَ أَجْزَاءِ السَّحَابِ عَنْ بَعْضٍ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31843_33679اللَّهَ تَعَالَى خَرَّبَ بَعْضَ الْقُرَى بِتَسْلِيطِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=6وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ) [ الْحَاقَّةِ : 6 ] ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ عِنْدَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ الْمُخْتَلِفَةِ وَتَرْتِيبِ الْآثَارِ الْعَجِيبَةِ عَلَيْهَا مِنْ تَمَوُّجِ السَّحَابِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ تَصِيرُ الْخَلْقُ مُضْطَرِّينَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ
[ ص: 235 ] وَالتَّضَرُّعِ عَلَى بَابِ رَحْمَتِهِ ، فَيَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُنْكِرِ وَالْمُوَحِّدِ وَالْمُلْحِدِ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا شَاهَدَ هُبُوبَ الرِّيَاحِ الَّتِي تَقْلِعُ الْقِلَاعَ وَتَهْدِمُ الصُّخُورَ وَالْجِبَالَ وَتَرْفَعُ الْأَمْوَاجَ - تَمَسَّكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْتَجَأَ إِلَى إِعَانَةِ اللَّهِ ، فَصَارَتْ تِلْكَ الرِّيَاحُ كَأَنَّهَا أَلْقَتِ الذِّكْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْعُبُودِيَّةَ فِي الْقَلْبِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الذِّكْرَ حَصَلَ عِنْدَ حُدُوثِ هَذِهِ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ عَلَى الْقُرْآنِ ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ جَمِيعِهَا عَلَى الْقُرْآنِ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ ) الْمُرَادُ مِنْهَا الْآيَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ الْمُرْسَلَةُ عَلَى لِسَانِ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1عُرْفًا ) أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِكُلِّ عُرْفٍ وَخَيْرٍ ، وَكَيْفَ لَا وَهِيَ الْهَادِيَةُ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ وَالْمُوصِلَةُ إِلَى مَجَامِعِ الْخَيْرَاتِ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) فَالْمُرَادُ أَنَّ دَوْلَةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ كَانَتْ ضَعِيفَةً فِي الْأَوَّلِ ، ثُمَّ عَظُمَتْ وَقَهَرَتْ سَائِرَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ ، فَكَأَنَّ دَوْلَةَ الْقُرْآنِ عَصَفَتْ بِسَائِرِ الدُّوَلِ وَالْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَقَهَرَتْهَا ، وَجَعَلَتْهَا بَاطِلَةً دَائِرَةً . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) الْمُرَادُ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَشَرَتْ آثَارَ الْحِكْمَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي قُلُوبِ الْعَالَمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) فَذَلِكَ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي تَفْرِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فُرْقَانًا ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=1ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=50وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ ) ، وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=29تَذْكِرَةٌ ) كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=48وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) [ الْحَاقَّةِ : 48 ] ، وَذِكْرَى كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) [ الْأَنْعَامِ : 90 ] ، فَظَهَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ بِالْقُرْآنِ ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ .
الْقَوْلُ الرَّابِعُ : يُمْكِنُ حَمْلُهَا أَيْضًا عَلَى بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ) هُمُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا بِالْوَحْيِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْرَ كُلِّ رَسُولٍ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَقِيرًا ضَعِيفًا ، ثُمَّ يَشْتَدُّ وَيَعْظُمُ وَيَصِيرُ فِي الْقُوَّةِ كَعَصْفِ الرِّيَاحِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) الْمُرَادُ مِنْهُ انْتِشَارُ دِينِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ وَمَقَالَتِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَفْرِقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِلْحَادِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهِ وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَيْهِ .
الْقَوْلُ الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا مُسْتَغْرِقًا فِي طَلَبِ لَذَّاتِهَا وَرَاحَاتِهَا ، فَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَرِدُ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمَوْلَى ، فَتِلْكَ الدَّوَاعِي هِيَ الْمُرْسَلَاتُ عُرْفًا ، ثُمَّ هَذِهِ الْمُرْسَلَاتُ لَهَا أَثَرَانِ :
أَحَدُهُمَا : إِزَالَةُ حُبِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقَلْبِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) .
وَالثَّانِي : ظُهُورُ أَثَرِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِلَّا اللَّهَ ، وَلَا يُبْصِرَ إِلَّا اللَّهَ ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَّا اللَّهَ ، فَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لَهُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ فَيَرَاهُ مَوْجُودًا ، وَيَرَى كُلَّ مَا سِوَاهُ مَعْدُومًا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) ثُمَّ يَصِيرُ الْعَبْدُ كَالْمُشْتَهِرِ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ إِلَّا ذِكْرُهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَذْكُورَةٍ إِلَّا أَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ جِدًّا .
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ شَيْئًا وَاحِدًا فَفِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : مَا ذَكَرَهُ
الزَّجَّاجُ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي ، وَهُوَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ هِيَ الرِّيَاحُ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ) هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَتَّصِلُ عَلَى
[ ص: 236 ] الْعُرْفِ الْمُعْتَادِ ، " وَالْعَاصِفَاتِ " مَا يَشْتَدُّ مِنْهُ ، " وَالنَّاشِرَاتِ " مَا يَنْشُرُ السَّحَابَ . أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=4فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) فَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ ، بِمَا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=5فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُتَحَمِّلَةُ لِلذِّكْرِ الْمُلْقِيَةُ ذَلِكَ إِلَى الرُّسُلِ . فَإِنْ قِيلَ : وَمَا
nindex.php?page=treesubj&link=34077الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الرِّيَاحِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسَمِ ؟
قُلْنَا : الْمَلَائِكَةُ رُوحَانِيُّونَ ، فَهُمْ بِسَبَبِ لَطَافَتِهِمْ وَسُرْعَةِ حَرَكَاتِهِمْ كَالرِّيَاحِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمَا الرِّيَاحُ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) هُمَا الرِّيَاحُ ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ الْمَلَائِكَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْوَحْيَ وَالدِّينَ ، ثُمَّ لِذَلِكَ الْوَحْيِ أَثَرَانِ :
أَحَدُهُمَا : حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ .
وَالثَّانِي : ظُهُورُ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرُ الِاحْتِمَالِ أَيْضًا ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاوَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=3وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) وَعَطَفَ الِاثْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلَانِ مُمْتَازَيْنِ عَنِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ بِالْأَوَّلَيْنِ الْمَلَائِكَةُ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ) مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=2فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ آيَاتُ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْحَقَّ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَتُلْقِي الذِّكْرَ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ وُجُوهًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ
الْقَفَّالُ : الْوَجْهُ فِي دُخُولِ الْفَاءِ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ بِهِ الْقَسَمُ ، وَالْوَاوِ فِي بَعْضٍ - مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=34077الْفَاءُ تَقْتَضِي الْوَصْلَ وَالتَّعَلُّقَ ، فَإِذَا قِيلَ : قَامَ زَيْدٌ فَذَهَبَ ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَامَ لِيَذْهَبَ ، فَكَانَ قِيَامُهُ سَبَبًا لِذَهَابِهِ وَمُتَّصِلًا بِهِ ، وَإِذَا قِيلَ : قَامَ وَذَهَبَ ، فَهُمَا خَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ . ثُمَّ إِنَّ
الْقَفَّالَ لَمَّا مَهَّدَ هَذَا الْأَصْلَ فَرَّعَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِوُجُوهٍ لَا يَمِيلُ قَلْبِي إِلَيْهَا ، وَأَنَا أُفَرِّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَأَقُولُ : أَمَّا مَنْ جَعَلَ الْأَوَّلَيْنِ صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَالثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَالْإِشْكَالُ عَنْهُ زَائِلٌ ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْكُلَّ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَنَقُولُ : إِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، فَالْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ طَارَتْ سَرِيعًا ، وَذَلِكَ الطَّيَرَانُ هُوَ الْعَصْفُ ، فَالْعَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْفَاءَ ، أَمَّا النَّشْرُ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرْسَالِ ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلَ مَا يُبَلِّغُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ لَا يَصِيرُ فِي الْحَالِ ذَلِكَ الدِّينُ مَشْهُورًا مُنْتَشِرًا ، بَلِ الْخَلْقُ يُؤْذُونَ الْأَنْبِيَاءَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَيَنْسُبُونَهُمْ إِلَى الْكَذِبِ وَالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرِ الْفَاءَ الَّتِي تُفِيدُ التَّعْقِيبَ ، بَلْ ذَكَرَ الْوَاوَ ، بَلْ إِذَا حَصَلَ النَّشْرُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَظُهُورُ ذِكْرِ الْحَقِّ عَلَى الْأَلْسِنَةِ ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، فَكَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قِيلَ : يَا
مُحَمَّدُ ، إِنِّي أَرْسَلْتُ الْمَلَكَ إِلَيْكَ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ كُلِّ سَعَادَةٍ وَفَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ ، وَلَكِنْ لَا تَطْمَعْ فِي أَنْ نَنْشُرَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فِي الْحَالِ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ النُّصْرَةِ أَجْعَلُ دِينَكَ ظَاهِرًا مُنْتَشِرًا فِي شَرْقِ الْعَالَمِ وَغَرْبِهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ ، فَتَصِيرُ الْأَدْيَانُ الْبَاطِلَةُ ضَعِيفَةً سَاقِطَةً ، وَدِينُكَ هُوَ الدِّينَ الْحَقَّ ظَاهِرًا غَالِبًا ، وَهُنَالِكَ يُظْهِرُ ذَلِكَ اللَّهُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ ، وَفِي الْمَحَارِيبِ وَعَلَى الْمَنَابِرِ ، وَيَصِيرُ الْعَالَمُ مَمْلُوءًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، فَهَذَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا الْوَجْهَ أَمْكَنَهُ ذِكْرُ مَا شَابَهَهُ فِي الرِّيَاحِ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=6عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) ؛ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
[ ص: 237 ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيهِمَا قِرَاءَتَانِ : التَّخْفِيفُ ، وَهُوَ قِرَاءَةُ
أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ
حَفْصٍ ، وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا بِالتَّثْقِيلِ ، أَمَّا التَّخْفِيفُ فَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ مَصْدَرًا ، وَالْمَعْنَى إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا ، وَأَمَّا التَّثْقِيلُ فَزَعَمَ
أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ ، وَأَمَّا
الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ فَزَعَمَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ ، وَالتَّثْقِيلُ وَالتَّخْفِيفُ لُغَتَانِ ، وَقَرَّرَ
أَبُو عَلِيٍّ قَوْلَ
الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ ، وَقَالَ : الْعُذُرُ وَالْعَذِيرُ وَالنُّذُرُ وَالنَّذِيرُ مِثْلُ النُّكُرِ وَالنَّكِيرِ ، ثُمَّ قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ : وَيَجُوزُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ ثَقَّلَ أَنْ يَكُونَ " عُذُرًا " جَمْعَ عَاذِرٍ كَشُرُفٍ وَشَارِفٍ ، وَكَذَلِكَ النُّذُرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=56هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ) [ النَّجْمِ : 56 ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي النَّصْبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا فَوَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ : " ذِكْرًا " .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ ، وَالْمَعْنَى : وَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ جَمْعًا ، فَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِلْقَاءِ ، وَالتَّقْدِيرُ :
nindex.php?page=treesubj&link=29747فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا حَالَ كَوْنِهِمْ عَاذِرِينَ وَمُنْذِرِينَ .