[ ص: 84 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7كلا إن كتاب الفجار لفي سجين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وما أدراك ما سجين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كتاب مرقوم nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10ويل يومئذ للمكذبين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=11الذين يكذبون بيوم الدين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12وما يكذب به إلا كل معتد أثيم nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=16ثم إنهم لصالو الجحيم nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=17ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7كلا إن كتاب الفجار لفي سجين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وما أدراك ما سجين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كتاب مرقوم nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10ويل يومئذ للمكذبين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=11الذين يكذبون بيوم الدين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12وما يكذب به إلا كل معتد أثيم nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=16ثم إنهم لصالو الجحيم nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=17ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون )
واعلم أنه سبحانه لما بين عظم هذا الذنب أتبعه بذكر لواحقه وأحكامه فأولها : قوله : ( كلا ) والمفسرون ذكروا فيه وجوها .
الأول : أنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ما هم عليه من التطفيف والغفلة ، عن ذكر البعث والحساب فليرتدعوا ، وتمام الكلام هاهنا الثاني : قال
أبو حاتم : " كلا " ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7إن كتاب الفجار لفي سجين ) وهو قول
الحسن .
النوع الثاني : أنه تعالى وصف كتاب الفجار بالخسة والحقارة على سبيل الاستخفاف بهم ، وهاهنا سؤالات .
السؤال الأول : السجين اسم علم لشيء معين أو اسم مشتق عن معنى ؟ قلنا فيه قولان :
الأول : وهو قول جمهور المفسرين : أنه اسم علم على شيء معين ، ثم اختلفوا فيه ، فالأكثرون على أنه الأرض السابعة السفلى ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في رواية
عطاء وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد والضحاك وابن زيد ، وروى
البراء أنه عليه السلام قال : "
سجين أسفل سبع أرضين " قال
عطاء الخراساني : وفيها إبليس وذريته ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة أنه عليه السلام قال : "
سجين جب في جهنم " وقال
الكلبي nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد : سجين صخرة تحت الأرض السابعة .
القول الثاني : أنه مشتق وسمي سجينا فعيلا من السجن ، وهو الحبس والتضييق كما يقال : فسيق من الفسق ، وهو قول
أبي عبيدة nindex.php?page=showalam&ids=15153والمبرد والزجاج ، قال
الواحدي : وهذا ضعيف والدليل على أن سجينا ليس مما كانت العرب تعرفه قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وما أدراك ما سجين ) أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وقومك . ولا أقول هذا ضعيف ، فلعله إنما ذكر ذلك تعظيما لأمر سجين ، كما في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=17وما أدراك ما يوم الدين ) قال صاحب " الكشاف " : والصحيح أن السجين فعيل مأخوذ من السجن ، ثم إنه هاهنا اسم علم منقول من وصف كحاتم ، وهو منصرف ، لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف ، إذا عرفت هذا ، فنقول قد ذكرنا أن الله تعالى أجرى أمورا مع عباده على ما تعارفوه من التعامل فيما بينهم وبين عظمائهم . فالجنة موصوفة بالعلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين ، والسجين موصوف بالتسفل والظلمة والضيق وحضور الشياطين
[ ص: 85 ] الملعونين ، ولا شك أن العلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين ، كل ذلك من صفات الكمال والعزة ، وأضدادها من صفات النقص والذلة ، فلما أريد وصف الكفرة وكتابهم بالذلة والحقارة ، قيل : إنه في موضع التسفل والظلمة والضيق ، وحضور الشياطين ، ولما وصف كتاب الأبرار بالعزة قيل : إنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=18لفي عليين ) . و(
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=21يشهده المقربون ) [ المطففين : 17 ] .
السؤال الثاني : قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7لفي سجين ) ثم فسر سجينا بـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كتاب مرقوم ) فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه ؟ أجاب
القفال : فقال قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كتاب مرقوم ) ليس تفسيرا لسجين ، بل التقدير : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ، وإن كتاب الفجار كتاب مرقوم ، فيكون هذا وصفا لكتاب الفجار بوصفين .
أحدهما : أنه في سجين .
والثاني : أنه مرقوم ، ووقع قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وما أدراك ما سجين ) فيما بين الوصفين معترضا ، والله أعلم .
والأولى أن يقال : وأي استبعاد في كون أحد الكتابين في الآخر ، إما بأن يوضع كتاب الفجار في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إليه في تفصيل أحوال الأشقياء ، أو بأن ينقل ما في كتاب الفجار إلى ذلك الكتاب المسمى بالسجين ، وفيه وجه ثالث : وهو أن يكون المراد من الكتاب ، الكتابة فيكون في المعنى : كتابة الفجار في سجين ، أي كتابة أعمالهم في سجين ، ثم وصف السجين بأنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كتاب مرقوم ) فيه جميع أعمال الفجار .
السؤال الثالث : ما معنى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كتاب مرقوم ) ؟ قلنا فيه وجوه :
أحدها : مرقوم أي مكتوبة أعمالهم فيه .
وثانيها : قال
قتادة : رقم لهم بسوء أي كتب لهم بإيجاب النار .
وثالثها : قال
القفال : يحتمل أن يكون المراد أنه جعل ذلك الكتاب مرقوما ، كما يرقم التاجر ثوبه علامة لقيمته ، فكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=30356كتاب الفاجر جعل مرقوما برقم دال على شقاوته .
ورابعها : المرقوم : هاهنا المختوم ، قال
الواحدي : وهو صحيح لأن الختم علامة ، فيجوز أن يسمى المرقوم مختوما .
وخامسها : أن المعنى كتاب مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينمحي ، أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10ويل يومئذ للمكذبين ) ففيه وجهان .
أحدهما : أنه متصل بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=6يوم يقوم الناس ) أي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=6يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ويل لمن كذب بأخبار الله .
والثاني : أن قوله : ( مرقوم ) معناه رقم برقم يدل على الشقاوة يوم القيامة ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10ويل يومئذ للمكذبين ) في ذلك اليوم من ذلك الكتاب ، ثم إنه تعالى أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12وما يكذب به إلا كل معتد أثيم nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) ومعناه أنه لا يكذب بيوم الدين إلا من كان موصوفا بهذه الصفات الثلاثة .
فأولها : كونه معتديا ، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحق .
وثانيها : الأثيم وهو مبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي . وأقول الإنسان له قوتان قوة نظرية وكمالها في أن يعرف الحق لذاته ، وقوة عملية وكمالها في أن يعرف الخير لأجل العمل به ، وضد الأول أن يصف الله تعالى بما لا يجوز وصفه به ، فإن كل من منع من
nindex.php?page=treesubj&link=30336إمكان البعث والقيامة إنما منع إما لأنه لم يعلم
nindex.php?page=treesubj&link=28781تعلق علم الله بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات ، أو لأنه لم يعلم تعلق قدرة الله بجميع الممكنات . فهذا الاعتداء ضد القوة العملية ، هو الاشتغال بالشهوة والغضب وصاحبه هو الأثيم ، وذلك لأن المشتغل بالشهوة والغضب قلما يتفرغ للعبادة والطاعة ، وربما صار ذلك مانعا له عن الإيمان بالقيامة .
وأما الصفة الثالثة : للمكذبين بيوم الدين فهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) والمراد منه الذين ينكرون النبوة ، والمعنى إذا تلي عليه القرآن قال أساطير الأولين ، وفيه وجهان أحدهما : أكاذيب
[ ص: 86 ] الأولين .
والثاني : أخبار الأولين وأنه عنهم أخذ أي يقدح في
nindex.php?page=treesubj&link=28425كون القرآن من عند الله بهذا الطريق ، وهاهنا بحث آخر : وهو أن هذه الصفات الثلاثة هل المراد منها شخص معين أو لا ؟ فيه قولان .
الأول : وهو قول
الكلبي : أن المراد منه
الوليد بن المغيرة ، وقال آخرون : إنه
النضر بن الحارث ، واحتج من قال : إنه
الوليد بأنه تعالى قال في سورة ن : (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=10ولا تطع كل حلاف مهين ) إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12معتد أثيم ) إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) [ القلم : 15 ] فقيل : إنه
الوليد بن المغيرة ، وعلى هذا التقدير يكون المعنى : وما يكذب بيوم الدين من
قريش أو من قومك إلا كل معتد أثيم ، وهذا هو الشخص المعين .
والقول الثاني : أنه عام في حق جميع الموصوفين بهذه الصفات ، أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) فالمعنى ليس الأمر كما يقوله من أن ذلك أساطير الأولين ، بل أفعالهم الماضية صارت سببا لحصول الرين في قلوبهم ، ولأهل اللغة في تفسير لفظة الرين وجوه ، ولأهل التفسير وجوه أخر ، أما أهل اللغة فقال
أبو عبيدة : ران على قلوبهم غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران ، والموت يرين على الميت فيذهب به ، قال
الليث : ران النعاس والخمر في الرأس إذا رسخ فيه ، وهو يرن رينا وريونا ، ومن هذا حديث
عمر في
أسيفع جهينة لما ركبه الدين " أصبح قد رين به " قال
أبو زيد : يقال : رين بالرجل يران به رينا إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه . قال
أبو معاذ النحوي :
nindex.php?page=treesubj&link=29494الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين ، والإقفال أشد من الطبع ، وهو أن يقفل على القلب ، قال
الزجاج : ران على قلوبهم بمعنى غطى على قلوبهم ، يقال : ران على قلبه الذنب يرين رينا أي غشيه ، والرين كالصدأ يغشى القلب ومثله العين ، أما أهل التفسير ، فلهم وجوه : قال
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد : هو الذنب على الذنب ، حتى تحيط الذنوب بالقلب ، وتغشاه فيموت القلب ، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013926إياكم والمحقرات من الذنوب ، فإن الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيما ضخمة " وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد القلب كالكف ، فإذا أذنب الذنب انقبض ، وإذا أذنب ذنبا آخر انقبض ثم يطبع عليه وهو الرين ، وقال آخرون :
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30481_29556كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله ، وروي هذا مرفوعا في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، قلت : لا شك أن تكرر الأفعال سبب لحصول ملكة نفسانية ، فإن من أراد تعلم الكتابة فكلما كان إتيانه بعمل الكتابة أكثر كان اقتداره على عمل الكتابة أتم ، إلى أن يصير بحيث يقدر على الإتيان بالكتابة من غير روية ولا فكرة ، فهذه الهيئة النفسانية ، لما تولدت من تلك الأعمال الكثيرة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الهيئة النفسانية ، إذا عرفت هذا فنقول : إن الإنسان إذا واظب على الإتيان ببعض أنواع الذنوب ، حصلت في قلبه ملكة نفسانية على الإتيان بذلك الذنب ، ولا معنى للذنب إلا ما يشغلك بغير الله ، وكل ما يشغلك بغير الله فهو ظلمة ، فإذن الذنوب كلها ظلمات وسواد ، ولكل واحد من الأعمال السالفة التي أورث مجموعها حصول تلك الملكة أثر في حصولها ، فذلك هو المراد من قولهم : كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب ، ولما كانت مراتب الملكات في الشدة والضعف مختلفة ، لا جرم كانت مراتب هذا السواد والظلمة مختلفة ، فبعضها يكون رينا وبعضها طبعا وبعضها إقفالا ، قال القاضي ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع ، بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالا بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع ، فاستمروا وصعب الأمر عليهم ، ولذلك بين أن علة الرين كسبهم ، ومعلوم أن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة ، وأقول قد بينا أن صدور الفعل حال استواء الداعي
[ ص: 87 ] إلى الفعل ، والداعي إلى الترك محال لامتناع ترجيح الممكن من غير مرجح ، فبأن يكون ممتنعا حال المرجوحية كان أولى ، ولما سلم القاضي أنهم صاروا بسبب الأفعال السالفة راجحا ، فوجب أن يكون الإقلاع في هذه الحالة ممتنعا ، وتمام الكلام قد تقدم مرارا في هذا الكتاب .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فاعلم أنهم ذكروا في ( كلا ) وجوها :
أحدها : قال صاحب " الكشاف " : ( كلا ) ردع عن الكسب الرائن عن قلوبهم .
وثانيها : قال
القفال : إن الله تعالى حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم أنه كان يقول إن كانت الآخرة حقا ، فإن الله تعالى يعطيه مالا وولدا ، ثم إنه تعالى كذبه في هذه المقالة فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=78أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) [ مريم : 78 ] قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) [ فصلت : 50 ] ولما كان هذا مما قد تردد ذكره في القرآن ترك الله ذكره هاهنا وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي ليس الأمر كما يقولون : من أن لهم في الآخرة حسنى بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون .
وثانيها : أن يكون ذلك تكريرا وتكون " كلا " هذه هي المذكورة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كلا بل ران ) أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فقد احتج الأصحاب على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28725المؤمنين يرونه سبحانه قالوا : ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة .
وفيه تقرير آخر وهو أنه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد والتهديد للكفار ، وما يكون وعيدا وتهديدا للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمن ، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمن أجابت
المعتزلة عن هذا من وجوه :
أحدها : قال
الجبائي : المراد أنهم عن رحمة ربهم محجوبون أي ممنوعون ، كما يقال في الفرائض : الإخوة يحجبون الأم على الثلث ، ومن ذلك يقال : لمن يمنع عن الدخول هو حاجب ، لأنه يمنع من رؤيته .
وثانيها : قال
أبو مسلم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15لمحجوبون ) أي غير مقربين ، والحجاب الرد وهو ضد القبول ، والمعنى هؤلاء
nindex.php?page=treesubj&link=28760_30539المنكرون للبعث غير مقبولين عند الله وهو المراد من قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=77ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ) [ آل عمران - 77 ] .
وثالثها : قال القاضي : الحجاب ليس عبارة عن عدم الرؤية ، فإنه قد يقال : حجب فلان عن الأمير ، وإن كان قد رآه من البعد ، وإذا لم يكن الحجاب عبارة عن عدم الرؤية سقط الاستدلال ، بل يجب أن يحمل على صيرورته ممنوعا عن وجدان رحمته تعالى .
ورابعها : قال صاحب " الكشاف " : كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للمكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا المهانون عندهم .
والجواب : لا شك أن من يمنع من رؤية شيء يقال : إنه حجب عنه ، وأيضا من منع من الدخول على الأمير يقال : إنه حجب عنه ، وأيضا يقال الأم حجبت عن الثلث بسبب الإخوة ، وإذا وجدنا هذه الاستعمالات وجب جعل اللفظ حقيقة في مفهوم مشترك بين هذه المواضع دفعا للاشتراك في اللفظ ، وذلك هو المنع . ففي الصورة الأولى حصل المنع من الرؤية ، وفي الثاني حصل المنع من الوصول إلى قربه ، وفي الثالثة : حصل المنع من استحقاق الثلث ، فيصير تقدير الآية : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لممنوعون ، والمنع إنما يتحقق بالنسبة إلى ما يثبت للعبد بالنسبة إلى الله تعالى ، وهو إما العلم ، وإما الرؤية ، ولا يمكن حمله على العلم ، لأنه ثابت بالاتفاق للكفار ، فوجب
[ ص: 88 ] حمله على الرؤية . أما صرفه إلى الرحمة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل ، وكذا ما قاله صاحب " الكشاف " : ترك للظاهر من غير دليل ، ثم الذي يؤكد ما ذكرناه من الدليل أقوال المفسرين .
قال
مقاتل : معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب ، لا يرون ربهم ، والمؤمنون يرون ربهم ، وقال
الكلبي : يقول إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون ، والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه ، وسئل
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس عن هذه الآية ، فقال : لما حجب أعداءه فلم يروه لا بد وأن يتجلى لأوليائه حتى يروه ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا ، أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=16ثم إنهم لصالو الجحيم ) فالمعنى لما صاروا محجوبين في عرصة القيامة إما عن رؤية الله على قولنا ، أو عن رحمة الله وكرامته على قول
المعتزلة ، فعند ذلك يؤمر بهم إلى النار ثم إذا دخلوا النار ، وبخوا بتكذيبهم بالبعث والجزاء ، فقيل لهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=17هذا الذي كنتم به تكذبون ) في الدنيا ، والآن قد عاينتموه فذوقوه .
[ ص: 84 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كِتَابٌ مَرْقُومٌ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=11الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=16ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=17ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كِتَابٌ مَرْقُومٌ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=11الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=16ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=17ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ عِظَمَ هَذَا الذَّنْبِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ لَوَاحِقِهِ وَأَحْكَامِهِ فَأَوَّلُهَا : قَوْلُهُ : ( كَلَّا ) وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا .
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْغَفْلَةِ ، عَنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَلْيَرْتَدِعُوا ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ هَاهُنَا الثَّانِي : قَالَ
أَبُو حَاتِمٍ : " كَلَّا " ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى حَقًّا (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كِتَابَ الْفُجَّارِ بِالْخِسَّةِ وَالْحَقَارَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ .
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : السِّجِّينُ اسْمُ عَلَمٍ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ عَنْ مَعْنًى ؟ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ : أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى ، وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ
عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ nindex.php?page=showalam&ids=16879وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ ، وَرَوَى
الْبَرَاءُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : "
سِجِّينٌ أَسْفَلُ سَبْعِ أَرَضِينَ " قَالَ
عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ : وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ ، وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : "
سِجِّينٌ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ " وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=16879وَمُجَاهِدٌ : سِجِّينٌ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَسُمِّيَ سِجِّينًا فِعِّيلًا مِنَ السِّجْنِ ، وَهُوَ الْحَبْسُ وَالتَّضْيِيقُ كَمَا يُقَالُ : فِسِّيقٌ مِنَ الْفِسْقِ ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي عُبَيْدَةَ nindex.php?page=showalam&ids=15153وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ ، قَالَ
الْوَاحِدِيُّ : وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سِجِّينًا لَيْسَ مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ) أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَقَوْمُكَ . وَلَا أَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ ، فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ سِجِّينٍ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=17وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ) قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّجِّينَ فِعِّيلٌ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّجْنِ ، ثُمَّ إِنَّهُ هَاهُنَا اسْمُ عَلَمٍ مَنْقُولٌ مِنْ وَصْفٍ كَحَاتِمٍ ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْرِيفُ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَنَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى أُمُورًا مَعَ عِبَادِهِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنَ التَّعَامُلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُظَمَائِهِمْ . فَالْجَنَّةُ مَوْصُوفَةٌ بِالْعُلُوِّ وَالصَّفَاءِ وَالْفُسْحَةِ وَحُضُورِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، وَالسِّجِّينُ مَوْصُوفٌ بِالتَّسَفُّلِ وَالظُّلْمَةِ وَالضِّيقِ وَحُضُورِ الشَّيَاطِينِ
[ ص: 85 ] الْمَلْعُونِينَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالصَّفَاءَ وَالْفُسْحَةَ وَحُضُورَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزَّةِ ، وَأَضْدَادُهَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالذِّلَّةِ ، فَلَمَّا أُرِيدَ وَصْفُ الْكَفَرَةِ وَكِتَابِهِمْ بِالذِّلَّةِ وَالْحَقَارَةِ ، قِيلَ : إِنَّهُ فِي مَوْضِعِ التَّسَفُّلِ وَالظُّلْمَةِ وَالضِّيقِ ، وَحُضُورِ الشَّيَاطِينِ ، وَلَمَّا وَصَفَ كِتَابَ الْأَبْرَارِ بِالْعِزَّةِ قِيلَ : إِنَّهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=18لَفِي عِلِّيِّينَ ) . وَ(
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=21يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) [ الْمُطَفِّفِينَ : 17 ] .
السُّؤَالُ الثَّانِي : قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِأَنَّهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=7لَفِي سِجِّينٍ ) ثُمَّ فَسَّرَ سِجِّينًا بـِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كِتَابٌ مَرْقُومٌ ) فَكَأَنَّهُ قِيلَ : إِنْ كِتَابَهُمْ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ فَمَا مَعْنَاهُ ؟ أَجَابَ
الْقَفَّالُ : فَقَالَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كِتَابٌ مَرْقُومٌ ) لَيْسَ تَفْسِيرًا لِسِجِّينٍ ، بَلِ التَّقْدِيرُ : كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ، وَإِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ، فَيَكُونُ هَذَا وَصْفًا لِكِتَابِ الْفُجَّارِ بِوَصْفَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ فِي سِجِّينٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَرْقُومٌ ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=8وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ) فِيمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مُعْتَرِضًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : وَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي كَوْنِ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْآخَرِ ، إِمَّا بِأَنْ يُوضَعَ كِتَابُ الْفُجَّارِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ فِي تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ ، أَوْ بِأَنْ يُنْقَلَ مَا فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِالسِّجِّينِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ ، الْكِتَابَةَ فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى : كِتَابَةُ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ ، أَيْ كِتَابَةُ أَعْمَالِهِمْ فِي سِجِّينٍ ، ثُمَّ وُصِفَ السِّجِّينُ بِأَنَّهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كِتَابٌ مَرْقُومٌ ) فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : مَا مَعْنَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=9كِتَابٌ مَرْقُومٌ ) ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : مَرْقُومٌ أَيْ مَكْتُوبَةٌ أَعْمَالُهُمْ فِيهِ .
وَثَانِيهَا : قَالَ
قَتَادَةُ : رُقِمَ لَهُمْ بِسُوءٍ أَيْ كُتِبَ لَهُمْ بِإِيجَابِ النَّارِ .
وَثَالِثُهَا : قَالَ
الْقَفَّالُ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَرْقُومًا ، كَمَا يَرْقُمُ التَّاجِرُ ثَوْبَهُ عَلَامَةً لِقِيمَتِهِ ، فَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=30356كِتَابُ الْفَاجِرِ جُعِلَ مَرْقُومًا بِرَقْمٍ دَالٍّ عَلَى شَقَاوَتِهِ .
وَرَابِعُهَا : الْمَرْقُومُ : هَاهُنَا الْمَخْتُومُ ، قَالَ
الْوَاحِدِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَامَةٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْمَرْقُومُ مَخْتُومًا .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ الْمَعْنَى كِتَابٌ مُثْبَتٌ عَلَيْهِمْ كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ لَا يَنْمَحِي ، أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) فَفِيهِ وَجْهَانِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=6يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ) أَيْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=6يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) وَيْلٌ لِمَنْ كَذَّبَ بِأَخْبَارِ اللَّهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : ( مَرْقُومٌ ) مَعْنَاهُ رُقِمَ بِرَقْمٍ يَدُلُّ عَلَى الشَّقَاوَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=10وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ صِفَةِ مَنْ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ .
فَأَوَّلُهَا : كَوْنُهُ مُعْتَدِيًا ، وَالِاعْتِدَاءُ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنِ الْمَنْهَجِ الْحَقِّ .
وَثَانِيهَا : الْأَثِيمُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي . وَأَقُولُ الْإِنْسَانَ لَهُ قُوَّتَانِ قُوَّةٌ نَظَرِيَّةٌ وَكَمَالُهَا فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ ، وَقُوَّةٌ عَمَلِيَّةٌ وَكَمَالُهَا فِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَضِدُّ الْأَوَّلِ أَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30336إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ إِنَّمَا مَنَعَ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ
nindex.php?page=treesubj&link=28781تَعَلُّقَ عِلْمِ اللَّهِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلُّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ . فَهَذَا الِاعْتِدَاءُ ضِدُّ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ ، هُوَ الِاشْتِغَالُ بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَصَاحِبُهُ هُوَ الْأَثِيمُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ قَلَّمَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ ، وَرُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقِيَامَةِ .
وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ : لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ فَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ ، وَالْمَعْنَى إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : أَكَاذِيبُ
[ ص: 86 ] الْأَوَّلِينَ .
وَالثَّانِي : أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُ عَنْهُمْ أُخِذَ أَيْ يَقْدَحُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28425كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ أَوْ لَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
الْأَوَّلُ : وَهُوَ قَوْلُ
الْكَلْبِيِّ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّهُ
النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ
الْوَلِيدُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ ن : (
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=10وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ) إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=12مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=13إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) [ الْقَلَمِ : 15 ] فَقِيلَ : إِنَّهُ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى : وَمَا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ مِنْ
قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، وَهَذَا هُوَ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) فَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، بَلْ أَفْعَالُهُمُ الْمَاضِيَةُ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الرَّيْنِ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ الرَّيْنِ وُجُوهٌ ، وَلِأَهْلِ التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أُخَرُ ، أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ غَلَبَ عَلَيْهَا وَالْخَمْرُ تَرِينُ عَلَى عَقْلِ السَّكْرَانِ ، وَالْمَوْتُ يَرِينُ عَلَى الْمَيِّتِ فَيَذْهَبُ بِهِ ، قَالَ
اللَّيْثُ : رَانَ النُّعَاسُ وَالْخَمْرُ فِي الرَّأْسِ إِذَا رَسَخَ فِيهِ ، وَهُوَ يَرِنُ رَيْنًا وَرُيُونًا ، وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ
عُمَرَ فِي
أُسَيْفِعِ جُهَيْنَةَ لَمَّا رَكِبَهُ الدِّينُ " أَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ " قَالَ
أَبُو زَيْدٍ : يُقَالُ : رِينَ بِالرَّجُلِ يُرَانُ بِهِ رَيْنًا إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ . قَالَ
أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ :
nindex.php?page=treesubj&link=29494الرَّيْنُ أَنْ يَسْوَدَّ الْقَلْبُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالطَّبْعُ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الرَّيْنِ ، وَالْإِقْفَالُ أَشَدُّ مِنَ الطَّبْعِ ، وَهُوَ أَنْ يُقْفَلَ عَلَى الْقَلْبِ ، قَالَ
الزَّجَّاجُ : رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِمَعْنَى غَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ ، يُقَالُ : رَانَ عَلَى قَلْبِهِ الذَّنْبُ يَرِينُ رَيْنًا أَيْ غَشِيَهُ ، وَالرَّيْنُ كَالصَّدَأِ يَغْشَى الْقَلْبَ وَمِثْلُهُ الْعَيْنُ ، أَمَّا أَهْلُ التَّفْسِيرِ ، فَلَهُمْ وُجُوهٌ : قَالَ
الْحَسَنُ nindex.php?page=showalam&ids=16879وَمُجَاهِدٌ : هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ ، حَتَّى تُحِيطَ الذُّنُوبُ بِالْقَلْبِ ، وَتَغْشَاهُ فَيَمُوتُ الْقَلْبُ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013926إِيَّاكُمْ وَالْمُحَقَّرَاتُ مِنَ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّ الذَّنْبَ عَلَى الذَّنْبِ يُوقِدُ عَلَى صَاحِبِهِ جَحِيمًا ضَخْمَةً " وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٍ الْقَلْبُ كَالْكَفِّ ، فَإِذَا أَذْنَبَ الذَّنْبَ انْقَبَضَ ، وَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ انْقَبَضَ ثُمَّ يُطْبَعُ عَلَيْهِ وَهُوَ الرَّيْنُ ، وَقَالَ آخَرُونَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30481_29556كُلَّمَا أَذْنَبَ الْإِنْسَانُ حَصَلَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ ، قُلْتُ : لَا شَكَّ أَنَّ تَكَرُّرَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ تَعَلُّمَ الْكِتَابَةِ فَكُلَّمَا كَانَ إِتْيَانُهُ بِعَمَلِ الْكِتَابَةِ أَكْثَرَ كَانَ اقْتِدَارُهُ عَلَى عَمَلِ الْكِتَابَةِ أَتَمَّ ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرَةٍ ، فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ النَّفْسَانِيَّةُ ، لَمَّا تَوَلَّدَتْ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْكَثِيرَةِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ النَّفْسَانِيَّةِ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ ، حَصَلَتْ فِي قَلْبِهِ مَلَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الذَّنْبِ ، وَلَا مَعْنَى لِلذَّنْبِ إِلَّا مَا يَشْغَلُكَ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَكُلُّ مَا يَشْغَلُكَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ ظُلْمَةٌ ، فَإِذَنِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا ظُلُمَاتٌ وَسَوَادٌ ، وَلُكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ الَّتِي أَوْرَثَ مَجْمُوعُهَا حُصُولَ تِلْكَ الْمَلَكَةِ أَثَرٌ فِي حُصُولِهَا ، فَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ : كُلَّمَا أَذْنَبَ الْإِنْسَانُ حَصَلَتْ فِي قَلْبِهِ نَكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ ، وَلَمَّا كَانَتْ مَرَاتِبُ الْمَلَكَاتِ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ مُخْتَلِفَةً ، لَا جَرَمَ كَانَتْ مَرَاتِبُ هَذَا السَّوَادِ وَالظُّلْمَةِ مُخْتَلِفَةً ، فَبَعْضُهَا يَكُونُ رَيْنًا وَبَعْضُهَا طَبْعًا وَبَعْضُهَا إِقْفَالًا ، قَالَ الْقَاضِي لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْنِ أَنَّ قَلْبَهُمْ قَدْ تَغَيَّرَ وَحَصَلَ فِيهِ مَنْعٌ ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ صَارُوا لِإِيقَاعِ الذَّنْبِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُتَجَرِّئِينَ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى تَرْكِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الْإِقْلَاعِ ، فَاسْتَمَرُّوا وَصَعُبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ عِلَّةَ الرَّيْنِ كَسْبُهُمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِكْثَارَهُمْ مِنَ اكْتِسَابِ الذُّنُوبِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْلَاعِ وَالتَّوْبَةِ ، وَأَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِي
[ ص: 87 ] إِلَى الْفِعْلِ ، وَالدَّاعِي إِلَى التَّرْكِ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ تَرْجِيحِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ، فَبِأَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا حَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ كَانَ أَوْلَى ، وَلَمَّا سَلَّمَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ صَارُوا بِسَبَبِ الْأَفْعَالِ السَّالِفَةِ رَاجِحًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْلَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُمْتَنِعًا ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي ( كَلَّا ) وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : ( كَلَّا ) رَدْعٌ عَنِ الْكَسْبِ الرَّائِنِ عَنْ قُلُوبِهِمْ .
وَثَانِيهَا : قَالَ
الْقَفَّالُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ عَنْ هَذَا الْمُعْتَدِي الْأَثِيمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ حَقًّا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ مَالًا وَوَلَدًا ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=78أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) [ مَرْيَمَ : 78 ] قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ) [ فُصِّلَتْ : 50 ] وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ تَرَدَّدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ تَرَكَ اللَّهُ ذِكْرَهُ هَاهُنَا وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ : مِنْ أَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حُسْنَى بَلْ هُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ .
وَثَانِيهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا وَتَكُونُ " كَلَّا " هَذِهِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=14كَلَّا بَلْ رَانَ ) أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) فَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28725الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ قَالُوا : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ .
وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْحِجَابَ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكُفَّارِ ، وَمَا يَكُونُ وَعِيدًا وَتَهْدِيدًا لِلْكُفَّارِ لَا يَجُوزُ حُصُولُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْحِجَابُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَجَابَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : قَالَ
الْجُبَّائِيُّ : الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ مَحْجُوبُونَ أَيْ مَمْنُوعُونَ ، كَمَا يُقَالُ فِي الْفَرَائِضِ : الْإِخْوَةُ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَلَى الثُّلُثِ ، وَمِنْ ذَلِكَ يُقَالُ : لِمَنْ يَمْنَعُ عَنِ الدُّخُولِ هُوَ حَاجِبٌ ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ .
وَثَانِيهَا : قَالَ
أَبُو مُسْلِمٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=15لَمَحْجُوبُونَ ) أَيْ غَيْرُ مُقَرَّبِينَ ، وَالْحِجَابُ الرَّدُّ وَهُوَ ضِدُّ الْقَبُولِ ، وَالْمَعْنَى هَؤُلَاءِ
nindex.php?page=treesubj&link=28760_30539الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ غَيْرُ مَقْبُولِينَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=77وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ) [ آلِ عِمْرَانَ - 77 ] .
وَثَالِثُهَا : قَالَ الْقَاضِي : الْحِجَابُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : حُجِبَ فُلَانٌ عَنِ الْأَمِيرِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ مِنَ الْبُعْدِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحِجَابُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مَمْنُوعًا عَنْ وُجْدَانِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى .
وَرَابِعُهَا : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : كَوْنُهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ عَلَى الْمُلُوكِ إِلَّا لِلْمُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُمْ إِلَّا الْمُهَانُونَ عِنْدَهُمْ .
وَالْجَوَابُ : لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يُمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ يُقَالُ : إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ ، وَأَيْضًا مَنْ مُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَمِيرِ يُقَالُ : إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ ، وَأَيْضًا يُقَالُ الْأُمُّ حُجِبَتْ عَنِ الثُّلُثِ بِسَبَبِ الْإِخْوَةِ ، وَإِذَا وَجَدْنَا هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَفْهُومٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَنْعُ . فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ ، وَفِي الثَّانِي حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى قُرْبِهِ ، وَفِي الثَّالِثَةِ : حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَمْنُوعُونَ ، وَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ إِمَّا الْعِلْمُ ، وَإِمَّا الرُّؤْيَةُ ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ لِلْكُفَّارِ ، فَوَجَبَ
[ ص: 88 ] حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ . أَمَّا صَرْفُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَكَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ .
قَالَ
مُقَاتِلٌ : مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ ، لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ ، وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ : يَقُولُ إِنَّهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ ، وَالْمُؤْمِنِ لَا يُحْجَبُ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ ، وَسُئِلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ : لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَرَوْهُ ، وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ لَمَّا حَجَبَ قَوْمًا بِالسُّخْطِ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضَا ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=16ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ) فَالْمَعْنَى لَمَّا صَارُوا مَحْجُوبِينَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ إِمَّا عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِنَا ، أَوْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ عَلَى قَوْلِ
الْمُعْتَزِلَةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ ثُمَّ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ ، وُبِّخُوا بِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، فَقِيلَ لَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=17هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) فِي الدُّنْيَا ، وَالْآنَ قَدْ عَايَنْتُمُوهُ فَذُوقُوهُ .