ثم إنه سبحانه وتعالى لما شرفه في هذه السور من هذه الوجوه العظيمة ، قال بعدها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) أي : إنا أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة المذكورة في السور المتقدمة التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها ، فاشتغل أنت بعبادة هذا الرب ، وبإرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم ، أما عبادة الرب فإما بالنفس ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فصل لربك ) وإما بالمال ، وهو قوله : ( وانحر ) وأما إرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم في دينهم ودنياهم ، فهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1ياأيها الكافرون nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لا أعبد ما تعبدون ) [ الكافرون : 2 ] فثبت أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور ، وأما أنها كالأصل لما بعدها ، فهو أنه تعالى يأمره بعد هذه السورة بأن
[ ص: 113 ] يكفر جميع أهل الدنيا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1ياأيها الكافرون nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لا أعبد ما تعبدون ) ومعلوم أن
nindex.php?page=treesubj&link=18310_32020_32025_7920عسف الناس على مذاهبهم وأديانهم أشد من عسفهم على أرواحهم وأموالهم ، وذلك أنهم يبذلون أموالهم وأرواحهم في نصرة أديانهم ، فلا جرم كان الطعن في مذاهب الناس يثير من العداوة والغضب ما لا يثير سائر المطاعن ، فلما أمره بأن يكفر جميع أهل الدنيا ، ويبطل أديانهم لزم أن يصير جميع أهل الدنيا في غاية العداوة له ، وذلك مما يحترف عنه كل أحد من الخلق فلا يكاد يقدم عليه ، وانظر إلى
موسى عليه السلام كيف كان يخاف من فرعون وعسكره ، وأما ههنا فإن
محمدا عليه السلام لما كان مبعوثا إلى جميع أهل الدنيا ، كان كل واحد من الخلق ، كفرعون بالنسبة إليه ، فدبر تعالى في إزالة هذا الخوف الشديد تدبيرا لطيفا ، وهو أنه قدم على تلك السورة ، هذه السورة فإن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) يزيل عنه ذلك الخوف من وجوه :
أحدها : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) أي الخير الكثير في الدنيا والدين ، فيكون ذلك وعدا من الله إياه بالنصرة والحفظ ، وهو كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=64ياأيها النبي حسبك الله ) [ الأنفال : 64 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=40إلا تنصروه فقد نصره الله ) [ التوبة : 40 ]
nindex.php?page=treesubj&link=32025_32024ومن كان الله تعالى ضامنا لحفظه ، فإنه لا يخشى أحدا .
وثانيها : أنه تعالى لما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة ، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان
بمكة ، والخلف في كلام الله تعالى محال ، فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات ، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه ، ولا يقهرونه ، ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة .
وثالثها : أنه عليه السلام لما كفرهم وزيف أديانهم ودعاهم إلى الإيمان اجتمعوا عنده ، وقالوا : إن كنت تفعل هذا طلبا للمال فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس ، وإن كان مطلوبك الزوجة نزوجك أكرم نسائنا ، وإن كان مطلوبك الرياسة فنحن نجعلك رئيسا على أنفسنا ، فقال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) أي لما أعطاك خالق السماوات والأرض خيرات الدنيا والآخرة ، فلا تغتر بمالهم ومراعاتهم .
ورابعها : أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة ، فهذا يقوم مقام قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164وكلم الله موسى تكليما ) [ النساء : 164 ] بل هذا أشرف ؛ لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى ، بل يفيد قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس ، فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس ، فقدم هذه السورة على سورة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل ياأيها الكافرون ) [ الكافرون : 1 ] حتى يمكنه الاشتغال بذلك التكليف الشاق والإقدام على تكفير جميع العالم ، وإظهار البراءة عن معبودهم فلما امتثلت أمري ، فانظر كيف أنجزت لك الوعد ، وأعطيتك كثرة الأتباع والأشياع ، إن أهل الدنيا يدخلون في دين الله أفواجا ، ثم إنه لما تم أمر الدعوة وإظهار الشريعة ، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن ؛ وذلك لأن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورا على الدنيا ، أو يكون طالبا للآخرة ، أما
nindex.php?page=treesubj&link=29497_29468طالب الدنيا فليس له إلا الخسار والذل والهوان ، ثم يكون مصيره إلى النار ، وهو المراد من سورة تبت ، وأما طالب الآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات ، وقد ثبت في العلوم العقلية أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين : منهم من عرف الصانع ، ثم توسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته ، وهذا هو الطريق الأشرف الأعلى ، ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور .
[ ص: 114 ] ثم إنه سبحانه ختم كتابه الكريم بتلك الطريق التي هي أشرف الطريقين ، فبدأ بذكر صفات الله وشرح جلاله ، وهو سورة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد ) [ الإخلاص : 1 ] ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في سورة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قل أعوذ برب الفلق ) [ الفلق : 1 ] ثم ختم الأمر بذكر مراتب النفس الإنسانية ، وعند ذلك ختم الكتاب ، وهذه الجملة إنما يتضح تفصيلها عند تفسير هذه السورة على التفصيل ، فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة المودعة في كتابه الكريم .
الفائدة الثانية في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) هي أن كلمة : ( إنا ) تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم .
أما الأول : فقد دل على أن الإله واحد ، فلا يمكن حمله على الجمع ، إلا إذا أريد أن هذه العطية مما سعى في تحصيلها الملائكة
وجبريل وميكائيل والأنبياء المتقدمون ، حين سأل
إبراهيم إرسالك ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) [ البقرة : 129 ] وقال
موسى : رب اجعلني من أمة
أحمد . وهو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=44وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ) [ القصص : 44 ] وبشر بك المسيح في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) [ الصف : 6 ] .
وأما الثاني : وهو أن يكون ذلك محمولا على التعظيم ، ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السماوات والأرض والموهوب منه ، هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك ) والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر ، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة ، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب ، فيا لها من نعمة ما أعظمها ، وما أجلها ، ويا له من تشريف ما أعلاه .
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا شَرَّفَهُ فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَظِيمَةِ ، قَالَ بَعْدَهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) أَيْ : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ هَذِهِ الْمَنَاقِبَ الْمُتَكَاثِرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي السُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِعِبَادَةِ هَذَا الرَّبِّ ، وَبِإِرْشَادِ عِبَادِهِ إِلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ ، أَمَّا عِبَادَةُ الرَّبِّ فَإِمَّا بِالنَّفْسِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=2فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) وَإِمَّا بِالْمَالِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَانْحَرْ ) وَأَمَّا إِرْشَادُ عِبَادِهِ إِلَى مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، فَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) [ الْكَافِرُونَ : 2 ] فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّورِ ، وَأَمَّا أَنَّهَا كَالْأَصْلِ لِمَا بَعْدَهَا ، فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنْ
[ ص: 113 ] يُكَفِّرَ جَمِيعَ أَهْلِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=2لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) وَمَعْلُومٌ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18310_32020_32025_7920عَسْفَ النَّاسِ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ أَشَدُّ مِنْ عَسْفِهِمْ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي نُصْرَةِ أَدْيَانِهِمْ ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الطَّعْنُ فِي مَذَاهِبِ النَّاسِ يُثِيرُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْغَضَبِ مَا لَا يُثِيرُ سَائِرُ الْمَطَاعِنِ ، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يُكَفِّرَ جَمِيعَ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَيُبْطِلَ أَدْيَانَهُمْ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ جَمِيعُ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لَهُ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَرِفُ عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فَلَا يَكَادُ يُقْدِمُ عَلَيْهِ ، وَانْظُرْ إِلَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ كَانَ يَخَافُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَسْكَرِهِ ، وَأَمَّا هَهُنَا فَإِنَّ
مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الدُّنْيَا ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ ، كَفِرْعَوْنَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ، فَدَبَّرَ تَعَالَى فِي إِزَالَةِ هَذَا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ تَدْبِيرًا لَطِيفًا ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ عَلَى تِلْكَ السُّورَةِ ، هَذِهِ السُّورَةَ فَإِنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) يُزِيلُ عَنْهُ ذَلِكَ الْخَوْفَ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) أَيِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=64يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ) [ الْأَنْفَالِ : 64 ] وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) [ الْمَائِدَةِ : 67 ] وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=40إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ) [ التَّوْبَةِ : 40 ]
nindex.php?page=treesubj&link=32025_32024وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ضَامِنًا لِحِفْظِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْشَى أَحَدًا .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مَا كَانَتْ وَاصِلَةً إِلَيْهِ حِينَ كَانَ
بِمَكَّةَ ، وَالْخُلْفُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ ، فَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِبْقَاؤُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا إِلَى حَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْخَيْرَاتُ ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْبِشَارَةِ لَهُ وَالْوَعْدِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْتُلُونَهُ ، وَلَا يَقْهَرُونَهُ ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَكْرُهُمْ بَلْ يَصِيرُ أَمْرُهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الِازْدِيَادِ وَالْقُوَّةِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَفَّرَهُمْ وَزَيَّفَ أَدْيَانَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ ، وَقَالُوا : إِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ هَذَا طَلَبًا لِلْمَالِ فَنُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ مَا تَصِيرُ بِهِ أَغْنَى النَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُكَ الزَّوْجَةَ نُزَوِّجُكَ أَكْرَمَ نِسَائِنَا ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُكَ الرِّيَاسَةَ فَنَحْنُ نَجْعَلُكَ رَئِيسًا عَلَى أَنْفُسِنَا ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) أَيْ لَمَّا أَعْطَاكَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَالِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَهُ لَا بِوَاسِطَةٍ ، فَهَذَا يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) [ النِّسَاءِ : 164 ] بَلْ هَذَا أَشْرَفُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إِذَا شَافَهَ عَبْدَهُ بِالْتِزَامِ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ ذَلِكَ أَعْلَى مِمَّا إِذَا شَافَهَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى ، بَلْ يُفِيدُ قُوَّةً فِي الْقَلْبِ وَيُزِيلُ الْجُبْنَ عَنِ النَّفْسِ ، فَثَبَتَ أَنَّ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) مِمَّا يُزِيلُ الْخَوْفَ عَنِ الْقَلْبِ وَالْجُبْنَ عَنِ النَّفْسِ ، فَقَدَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى سُورَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) [ الْكَافِرُونَ : 1 ] حَتَّى يُمْكِنَهُ الِاشْتِغَالُ بِذَلِكَ التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ وَالْإِقْدَامِ عَلَى تَكْفِيرِ جَمِيعِ الْعَالَمِ ، وَإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنْ مَعْبُودِهِمْ فَلَمَّا امْتَثَلْتَ أَمْرِي ، فَانْظُرْ كَيْفَ أَنْجَزْتُ لَكَ الْوَعْدَ ، وَأَعْطَيْتُكَ كَثْرَةَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَشْيَاعِ ، إِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا تَمَّ أَمْرُ الدَّعْوَةِ وَإِظْهَارِ الشَّرِيعَةِ ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّالِبَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مَقْصُورًا عَلَى الدُّنْيَا ، أَوْ يَكُونَ طَالِبًا لِلْآخِرَةِ ، أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29497_29468طَالِبُ الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخَسَارُ وَالذُّلُّ وَالْهَوَانُ ، ثُمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ سُورَةِ تَبَّتْ ، وَأَمَّا طَالِبُ الْآخِرَةِ فَأَعْظَمُ أَحْوَالِهِ أَنْ تَصِيرَ نَفْسُهُ كَالْمِرْآةِ الَّتِي تَنْتَقِشُ فِيهَا صُوَرُ الْمَوْجُودَاتِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ طَرِيقَ الْخَلْقِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ عَلَى وَجْهَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ الصَّانِعَ ، ثُمَّ تَوَسَّلَ بِمَعْرِفَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْأَشْرَفُ الْأَعْلَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ وَهُوَ طَرِيقُ الْجُمْهُورِ .
[ ص: 114 ] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَتَمَ كِتَابَهُ الْكَرِيمَ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الطَّرِيقَيْنِ ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ وَشَرْحِ جَلَالِهِ ، وَهُوَ سُورَةُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) [ الْإِخْلَاصِ : 1 ] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَرَاتِبِ مَخْلُوقَاتِهِ فِي سُورَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) [ الْفَلَقِ : 1 ] ثُمَّ خَتَمَ الْأَمْرَ بِذِكْرِ مَرَاتِبِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ خَتَمَ الْكِتَابَ ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِنَّمَا يَتَّضِحُ تَفْصِيلُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَرْشَدَ الْعُقُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الشَّرِيفَةِ الْمُودَعَةِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) هِيَ أَنَّ كَلِمَةَ : ( إِنَّا ) تَارَةً يُرَادُ بِهَا الْجَمْعُ وَتَارَةً يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ مِمَّا سَعَى فِي تَحْصِيلِهَا الْمَلَائِكَةُ
وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ ، حِينَ سَأَلَ
إِبْرَاهِيمُ إِرْسَالَكَ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 129 ] وَقَالَ
مُوسَى : رَبِّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ
أَحْمَدَ . وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=44وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ) [ الْقَصَصِ : 44 ] وَبَشَّرَ بِكَ الْمَسِيحُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=6وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) [ الصَّفِّ : 6 ] .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى التَّعْظِيمِ ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظَمَةِ الْعَطِيَّةِ لِأَنَّ الْوَاهِبَ هُوَ جَبَّارُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَوْهُوبَ مِنْهُ ، هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَافِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ) وَالْهِبَةُ هِيَ الشَّيْءُ الْمُسَمَّى بِالْكَوْثَرِ ، وَهُوَ مَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَثْرَةِ ، وَلَمَّا أَشْعَرَ اللَّفْظُ بِعِظَمِ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ مِنْهُ وَالْمَوْهُوبِ ، فَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ مَا أَعْظَمَهَا ، وَمَا أَجَلَّهَا ، وَيَا لَهُ مِنْ تَشْرِيفٍ مَا أَعْلَاهُ .