المسألة الثانية : الشنآن هو البغض ، والشانئ هو المبغض ، وأما البتر فهو في اللغة استئصال القطع يقال : بترته أبتره بترا وبتر أي صار أبتر وهو مقطوع الذنب ، ويقال : للذي لا عقب له أبتر ، ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له ، وكذلك لمن انقطع عنه الخير .
ثم إن الكفار لما وصفوه بذلك بين تعالى أن الموصوف بهذه الصفة هو ذلك المبغض على سبيل الحصر فيه ، فإنك إذا قلت : زيد هو العالم يفيد أنه لا عالم غيره ، إذا عرفت هذا
nindex.php?page=treesubj&link=29281_30614فقول الكفار فيه عليه الصلاة والسلام : إنه أبتر لا شك أنهم - لعنهم الله - أرادوا به أنه انقطع الخير عنه .
ثم ذلك إما أن يحمل على خير معين ، أو على جميع الخيرات .
أما الأول : فيحتمل وجوها :
أحدها : قال
السدي : كانت
قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده بتر ، فلما مات ابنه
القاسم وعبد الله بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا : بتر فليس له من يقوم مقامه ، ثم إنه تعالى بين أن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة ، فإنا نرى أن نسل أولئك الكفرة قد انقطع ، ونسله عليه الصلاة والسلام كل يوم يزداد وينمو وهكذا يكون إلى قيام القيامة .
وثانيها : قال
الحسن : عنوا بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه ، والله تعالى بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك ، فإنهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين ، وصارت رايات الإسلام عالية ، وأهل الشرق والغرب لها متواضعة .
وثالثها : زعموا أنه أبتر ؛ لأنه ليس له ناصر ومعين ، وقد كذبوا ؛ لأن الله تعالى هو مولاه ،
وجبريل وصالح المؤمنين ، وأما الكفرة فلم يبق لهم ناصر ولا حبيب .
ورابعها : الأبتر هو الحقير الذليل ، روي
أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ، ثم إنه وصف رسول الله بهذا الوصف ، ثم قال : قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا ، فلما وصلوا إلى دار nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة وتوافقوا على ذلك أخرجت nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة بساطا ، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه ، وبقي النبي عليه الصلاة والسلام واقفا [ ص: 125 ] كالجبل ، ثم بعد ذلك رماه النبي صلى الله عليه وسلم على أقبح وجه ، فلما رجع أخذه باليد اليسرى ؛ لأن اليسرى للاستنجاء ، فكان نجسا فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره ، فذكر بعض القصاص أن المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إن شانئك هو الأبتر ) هذه الواقعة .
وخامسها : أن الكفرة لما وصفوه بهذا الوصف ، قيل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إن شانئك هو الأبتر ) أي الذي قالوه فيك كلام فاسد يضمحل ويفنى ، وأما المدح الذي ذكرناه فيك ، فإنه باق على وجه الدهر .
وسادسها : أن رجلا قام إلى
الحسن بن علي عليهما السلام ، وقال : سودت وجوه المؤمنين بأن تركت الإمامة
لمعاوية ، فقال : لا تؤذني يرحمك الله ، فإن رسول الله رأى
بني أمية في المنام يصعدون منبره رجلا فرجلا فساءه ذلك ، فأنزل الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] فكان ملك
بني أمية كذلك ، ثم انقطعوا وصاروا مبتورين .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الشَّنَآنُ هُوَ الْبُغْضُ ، وَالشَّانِئُ هُوَ الْمُبْغِضُ ، وَأَمَّا الْبَتْرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْتِئْصَالُ الْقَطْعِ يُقَالُ : بَتَرْتُهُ أَبْتُرُهُ بَتْرًا وَبُتِرَ أَيْ صَارَ أَبْتَرَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ ، وَيُقَالُ : لِلَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ أَبْتَرُ ، وَمِنْهُ الْحِمَارُ الْأَبْتَرُ الَّذِي لَا ذَنَبَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لِمَنِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْخَيْرُ .
ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا وَصَفُوهُ بِذَلِكَ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ ذَلِكَ الْمُبَغِضُ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ فِيهِ ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا عَالِمَ غَيْرُهُ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29281_30614فَقَوْلُ الْكُفَّارِ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إِنَّهُ أَبْتَرُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ انْقَطَعَ الْخَيْرُ عَنْهُ .
ثُمَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خَيْرٍ مُعَيَّنٍ ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : قَالَ
السُّدِّيُّ : كَانَتْ
قُرَيْشٌ يَقُولُونَ لِمَنْ مَاتَ الذُّكُورُ مِنْ أَوْلَادِهِ بُتِرَ ، فَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ
الْقَاسِمُ وَعَبْدُ اللَّهِ بِمَكَّةَ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْمَدِينَةِ قَالُوا : بُتِرَ فَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ عَدُوَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَإِنَّا نَرَى أَنَّ نَسْلَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ قَدِ انْقَطَعَ ، وَنَسْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ وَيَنْمُو وَهَكَذَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ .
وَثَانِيهَا : قَالَ
الْحَسَنُ : عَنَوْا بِكَوْنِهِ أَبْتَرَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنِ الْمَقْصُودِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ خَصْمَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ صَارُوا مُدْبِرِينَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ ، وَصَارَتْ رَايَاتُ الْإِسْلَامِ عَالِيَةً ، وَأَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ لَهَا مُتَوَاضِعَةٌ .
وَثَالِثُهَا : زَعَمُوا أَنَّهُ أَبْتَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَاصِرٌ وَمُعِينٌ ، وَقَدْ كَذَّبُوا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُ ،
وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَمَّا الْكَفَرَةُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ نَاصِرٌ وَلَا حَبِيبٌ .
وَرَابِعُهَا : الْأَبْتَرُ هُوَ الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ ، رُوِيَ
أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اتَّخَذَ ضِيَافَةً لِقَوْمٍ ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ بِهَذَا الْوَصْفِ ، ثُمَّ قَالَ : قُومُوا حَتَّى نَذْهَبَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأُصَارِعَهُ وَأَجْعَلَهُ ذَلِيلًا حَقِيرًا ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى دَارِ nindex.php?page=showalam&ids=10640خَدِيجَةَ وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ أَخْرَجَتْ nindex.php?page=showalam&ids=10640خَدِيجَةُ بِسَاطًا ، فَلَمَّا تَصَارَعَا جَعَلَ أَبُو جَهْلٍ يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَصْرَعَهُ ، وَبَقِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاقِفًا [ ص: 125 ] كَالْجَبَلِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَقْبَحِ وَجْهٍ ، فَلَمَّا رَجَعَ أَخَذَهُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى ؛ لِأَنَّ الْيُسْرَى لِلِاسْتِنْجَاءِ ، فَكَانَ نَجِسًا فَصَرَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ مَرَّةً أُخْرَى وَوَضَعَ قَدَمَهُ عَلَى صَدْرِهِ ، فَذَكَرَ بَعْضُ الْقُصَّاصِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) هَذِهِ الْوَاقِعَةُ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ الْكَفَرَةَ لَمَّا وَصَفُوهُ بِهَذَا الْوَصْفِ ، قِيلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=3إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) أَيِ الَّذِي قَالُوهُ فِيكَ كَلَامٌ فَاسِدٌ يَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى ، وَأَمَّا الْمَدْحُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيكَ ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ .
وَسَادِسُهَا : أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَى
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَقَالَ : سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَرَكْتَ الْإِمَامَةَ
لِمُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ : لَا تُؤْذِنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى
بَنِي أُمَيَّةَ فِي الْمَنَامِ يَصْعَدُونَ مِنْبَرَهُ رَجُلًا فَرَجُلًا فَسَاءَهُ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) [ الْقَدْرِ : 1 ] فَكَانَ مُلْكُ
بَنِي أُمَيَّةَ كَذَلِكَ ، ثُمَّ انْقَطَعُوا وَصَارُوا مَبْتُورِينَ .