( الشرح ) هذا الحديث أتى به المصنف مرسلا لأن لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهذه القصة لم يذكر في هذه الرواية أنه سمعها من غيره ، وهو تابعي ، فثبت أنه وقع هنا مرسلا محمد بن يحيى بن حبان وحبان بفتح الحاء بلا خلاف بين أهل العلم من المحدثين وغيرهم وقد تصحفه المتفقهون ونحوهم وهو بالباء الموحدة وهي الغبن والخديعة ، وهذا الحديث قد روي بألفاظ منها حديث قال : { ابن عمر } رواه ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من بايعت فقل : لا خلابة البخاري وعن ومسلم قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثني محمد بن إسحاق عن نافع قال : { ابن عمر : فكأني الآن أسمعه إذا ابتاع يقول : لا خلابة ابن عمر } ، قال سمعت رجلا من الأنصار يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يغبن في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بايعت فقل : لا خلابة ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال ، فإن رضيت فأمسك ، وإن سخطت فاردد قال : فحدثت بهذا الحديث { ابن إسحاق قال : كان جدي محمد بن يحيى بن حبان منقذ بن عمرو ، وكان رجلا قد أصيب في رأسه وكسرت لسانه ونقصت عقله وكان يغبن في البيع ، وكان لا يدع التجارة فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إذا ابتعت فقل : لا خلابة ثم أنت في كل [ ص: 225 ] بيع تبتاعه بالخيار ثلاث ليال ، إن رضيت فأمسك ، وإن سخطت فاردد فبقي حتى أدرك زمن عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة ، فكبر في زمان عثمان فكان إذا اشترى شيئا فرجع به فقالوا له : لم تشتري أنت ؟ فيقول : قد جعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ابتعت بالخيار ثلاثا ، فيقولون : أردده فإنك قد غبنت ، أو قال : غششت فيرجع إلى بيعه فيقول : خذ سلعتك وأردد دراهمي ، فيقول : لا أفعل قد رضيت فذهبت حتى يمر به الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار فيما تبتاع ثلاثا ، فيرد عليه دراهمه ويأخذ سلعته } هذا الحديث حسن رواه بهذا اللفظ بإسناد حسن ، وكذلك رواه البيهقي بإسناد حسن . وكذا رواه ابن ماجه في تاريخه في ترجمة البخاري منقذ بن عمرو بإسناد صحيح إلى محمد بن إسحاق المذكور في إسناده هو صاحب المغازي والأكثرون وثقوه وإنما عابوا عليه التدليس وقد قال في روايته : حدثني ومحمد بن إسحاق ، والمدلس إذا قال : حدثني أو أخبرني أو سمعت ونحوها من الألفاظ المصرحة بالسماع احتج به عند الجماهير ، وهو مذهب نافع البخاري وسائر المحدثين ، وجمهور من يعتد به وإنما يتركون من حديث المدلس ما قال فيه : عن ، وقد سبقت هذه المسألة مقررة مرات ، ولكن القطعة التي ذكرها ومسلم عن محمد بن إسحاق مرسلة ، لأن محمد بن يحيى بن حبان محمد بن يحيى لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر من سمعها منه ، ولكن مثل هذا المرسل يحتج به لأنه يقول : إن المرسل إذا اعتضد بمرسل آخر ، أو بمسند ، أو بقول بعض الصحابة ، أو بفتيا عوام أهل العلم احتج به وهذا المرسل قد وجد فيه ذلك ، لأن الأمة مجمعة على جواز شرط الخيار ثلاثة أيام ، والله أعلم . الشافعي
( وأما ) ما وقع في الوسيط وبعض كتب الفقه في هذا الحديث [ ص: 226 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " واشترط الخيار ثلاثة أيام " فمنكر لا يعرف بهذا اللفظ في كتب الحديث . واعلم أن أقوى ما يحتج به في ثبوت خيار الشرط الإجماع ، وقد نقلوا فيه الإجماع وهو كاف ، والحديث المذكور يحتج به لكن في دلالته باللفظ الذي ذكرناه نظر والله أعلم .
أما الأحكام ففيها مسائل : ( إحداها ) يصح بالإجماع إذا كانت مدته معلومة . شرط الخيار في البيع
( الثانية ) لا يجوز عندنا أكثر من ثلاثة أيام للحديث المذكور ، ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من ذلك غالبا ، وكان مقتضى الدليل منع شرط الخيار ، لما فيه من العذر ، وإنما جوز للحاجة فيقتصر فيه على ما تدعو إليه الحاجة غالبا ، وهو ثلاثة أيام ، هذا هو المشهور في المذهب وتظاهرت عليه نصوص - رحمه الله - ، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق ، وفيه وجه أنه يجوز أكثر من ثلاثة أيام إذا كانت مدة معلومة ، وهو قول الشافعي ، قاله في الإشراف ، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ابن المنذر } والله أعلم . قال أصحابنا : فإن زاد على ثلاثة أيام ولو لحظة بطل البيع . المؤمنون على شروطهم
( الثالثة ) كما ذكره المصنف ، ويجوز لأحدهما ثلاثة وللآخر يومان [ ص: 227 ] أو يوم ، ونحو ذلك ، بحيث يكون معلوما ، وهذا كله لا خلاف فيه ، لكن لو يجوز شرط الخيار ثلاثة أيام ويجوز دونها إذا كان معلوما فوجهان ، حكاهما صاحب البيان ( أصحهما ) يبطل البيع ( والثاني ) يصح ويباع عند الإشراف على الفساد ، ويقام ثمنه مقامه ، وهذا غلط ظاهر ، قال أصحابنا : ويشترط أن تكون المدة متصلة بالعقد ، فلو كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد فباعه بشرط الخيار ثلاثة أيام بطل العقد لمنافاته لمقتضاه . شرطا خيار ثلاثة أيام أو دونها من آخر الشهر أو من الغد أو متى شاء أو شرطا خيار الغد دون اليوم
( قال أصحابنا ) : ويشترط كون المدة معلومة ، فإن كقوله : بعض يوم ، أو إلى أن يجيء زيد أو غير ذلك ، بطل البيع بلا خلاف عندنا ، ولو شرطا الخيار مطلقا ولم يقدراه بشيء أو قدراه بمدة مجهولة جاز بلا خلاف ، ولو شرطاه إلى طلوعها فقد قال شرطاه إلى وقت طلوع الشمس من الغد في كتابيه التعليق والمجرد : قال القاضي أبو الطيب أبو عبد الله الزبيري في كتاب الفصول : لا يصح البيع لأن طلوع الشمس قد لا يحصل لحصول غيم في السماء ، قال : فلو قال : إلى غروب الشمس أو إلى وقت الغروب صح لأن الغروب لا يستعمل إلا في سقوط قرص الشمس هذا كلام الزبيري وسكت عليه ، وحكاه أيضا عنه القاضي أبو الطيب المتولي وسكت عليه .
( فأما ) شرطهما إلى وقت الطلوع وإلى الغروب أو وقت الغروب فيصح باتفاق الأصحاب كما قاله الزبيري ، وأما إذا شرطاه إلى الطلوع فقد خالفه غيره وقال بالصحة لأن الغيم إنما يمنع من إشراق الشمس واتصال الشعاع لا من نفس الطلوع ، وهذا هو الصحيح والله أعلم .
( أما ) إذا ، فيصح البيع بلا خلاف ولا يدخل الزمن الآخر في الشرط بلا خلاف عندنا ، وحكى تبايعا نهارا بشرط الخيار إلى الليل أو ليلا بشرط الخيار إلى النهار في تعليقه عن القاضي أبو الطيب أنه [ ص: 228 ] قال : يدخل ، لأن لفظة ( إلى ) قد تستعمل بمعنى ( مع ) كقوله تعالى : { أبي حنيفة ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } دليلنا أن أصل ( إلى ) الغاية فهذا حقيقتها ، فلا تحمل على غيره عند الإطلاق ، وأما استعمالها بمعنى ( مع ) في بعض المواطن ففيه جوابان ( أحدهما ) أنها مؤولة ، ففي الآية المذكورة تقديره " مضافة إلى أموالكم " ( والثاني ) أنها استعملت بمعنى ( مع ) مجازا فلا يصير إلى المجاز في غيرها بغير قرينة ، ولأنهم وافقونا على أنه لو باع بثمن مؤجل إلى رمضان لا يدخل رمضان في الأجل والله أعلم .
( الرابعة ) إذا سقط ، لما ذكره شرطا الخيار ثلاثة أيام أو غيرها ثم أسقطاه قبل انقضاء المدة المصنف ، وكذا لو أسقط أحدهما خياره سقط وبقي خيار الآخر . ولو أسقطا اليوم الأول سقط الجميع ، ولو أسقطا الثالث لم يسقط ما قبله ، قال القاضي حسين والبغوي والمتولي : فلو قال : أسقطت الخيار في اليوم الثاني بشرط أنه يبقى في الثالث سقط خياره في اليومين جميعا ، لأنه كما لا يجوز أن يشترط خيارا متراخيا عن العقد ، لا يجوز أن يستبقي خيارا متراخيا ، وإنما يجوز أن يستبقي اليومين تغليبا للإسقاط ، لأن الأصل لزوم العقد وإنما جوزنا الشرط لأنه رخصة ، فإذا عرض له ذلك حكم بلزوم العقد ، والله أعلم .
( الخامسة ) ، قال أصحابنا : جملة القول فيه أنه مع خيار المجلس متلازمان غالبا ، لكن خيار المجلس أسرع وأولى ثبوتا من خيار الشرط ، فقد ينفكان لهذا ، فإذا أردت التفصيل فراجع ما سبق في خيار المجلس ، وهما متفقان في صور الوفاق والخلاف إلا في أشياء : ( أحدها ) أن البيوع التي يشترط فيها التقابض في المجلس كالصرف [ ص: 229 ] وبيع الطعام بالطعام أو القبض في أحد العوضين كالسلم لا يجوز شرط الخيار فيها بلا خلاف ، مع أن خيار المجلس يثبت فيها ، ودليل المسألة مذكور في الكتاب ، وقد أهمل فيما يثبت فيه خيار الشرط من العقود المصنف ذكر السلم هنا ، ولكنه ذكره في كتاب السلم .
( الثاني ) أن بلا خلاف وكذا لا يثبت في الحوالة ، وفي خيار المجلس فيهما خلاف سبق . خيار الشرط لا يثبت في الشفعة
( الثالث ) أنه إذا كان لا يثبت فيها خيار الشرط بلا خلاف ، وفي خيار المجلس خلاف ضعيف سبق . رجع في سلعة باعها ثم حجر على المشتري بالفلس
( الرابع ) في الهبة بشرط ، وفي الإجارة طريق قاطع بأنه لا يثبت خيار الشرط مع جريان الخلاف في ثبوته في خيار المجلس .
( وأما ) فسيأتي في كتاب الصداق إن شاء الله تعالى إيضاحه وتفصيله ، ومختصره أن الأصح صحة النكاح ، وفساد المسمى ، ووجوب مهر المثل ، وأنه لا يثبت الخيار ، والله تعالى أعلم . شرط الخيار في الصداق
[ ص: 232 ]