[3] الواقعية
الواقعية هـي النظر إلى المشكلة من الوجهة الواقعية، وتقابلها المثالية، وهي التي تضع الحلول المثالية التي تكون في كثير من الأحيان بعيدة عن إمكانية التطبيق في الواقع.
ويشترط في المناهج الاجتماعية عامة أن تكون واقعية؛ لأن المناهج التي تنظر نظرة مثالية إلى الحياة تجد صعوبة كبيرة في قبول الناس لها. ومع ذلك فإننا نلاحظ عند بحثنا في واقعية الإسلام في مجال التنمية الاقتصادية، أن هـذه الواقعية هـي مثالية؛ لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل أنموذج يمكن أن تصل إليه البشرية في نظامها الاقتصادي، وعلى هـذا نستطيع أن نقول: بأن واقعية الإسلام مثالية، وأن مثالية الإسلام [ ص: 67 ] واقعية؛ لأن الإسلام - وهو من عند الله خالق الإنسان - لا يمكن أن يقرر مبادئ مثالية بعيدة عن التصور الإنساني للحياة وإمكانية التطبيق كما فعل بعض الفلاسفة الأقدمين، حينما وضعوا تصورات مثالية وبعيدة عن الواقع، فكانت آراءهم مجال تفكه العلماء الواقعيين.
وتتضح هـذه الواقعية في مجال التنمية الاقتصادية في أن الإسلام نظر إلى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تظهر في المجتمع الإسلامي نظرة واقعية ووضع لها الحلول الواقعية. ومن الأمثلة التي تظهر لنا فيها واقعية الإسلام ومثاليته في الوقت نفسه، الكيفية التي عالج بها مشكلة الفقر، فمن الناحية الواقعية نجد أن الإسلام فرض نظام الزكاة كحل لمشكلة الفقر، وذلك حين كانت النظم والشرائع الأخرى تعتمد على فكرة الإحسان الفردي الذي يقدم للفقراء مساعدة لهم، ويدفعه الغني عن رضاه، منحة منه وتفضلا، ولكن هـذه الفكرة لم تستطع أن تعالج هـذه المشكلة؛ لأنها تقوم على الاختيار، وحب فعل الخير، والقلة من الناس هـي التي تندفع إلى فعل الخير، حبا في الخير. من هـنا فقد تفاقمت المشكلة وانتشر الفقر في كل مكان. ولما جاء الإسلام عالج المشكلة بطريقة أكثر واقعية حين أصبح للفقراء حق معلوم في أموال الأغنياء، تتولى الدولة مسئولية إجبار الأغنياء على دفعه عند الامتناع، وتعمل على توزيعه بين الفقراء. ولما امتنع بعض الناس عن دفع هـذا الحق لأصحابه تدخلت الدولة لإجبارهم على دفعه، فحاربتهم بالسيف واعتبرتهم مرتدين. [ ص: 68 ]
وتبدو لنا مثالية الإسلام في علاجه لهذه المشكلة حين نظر إلى المجتمع الإسلامي بوصفه وحدة متماسكة متعاونة، تقوم على المحبة والإخاء والتعاون ليكون المجتمع الإسلامي مجتمعا مثاليا، ولذلك عمل على تطهير النفس البشرية من الشح والبخل، وزرع فيها المشاعر النبيلة التي تجعل الناس يتحسسون آلام الآخرين ويلمسون حاجتهم، فيتنازلون عن حصة من أموالهم لخدمة هـؤلاء الناس، ولتصرف هـذه الأموال في مصالحهم، وفيما يعود عليهم بالخير والنفع. ونجد هـذا واضحا في نظام الوقف والوصية. وقد وصل المجتمع الإسلامي في بعض مراحل التاريخ الإسلامي إلى المستوى الذي لم يوجد فيه فقير ليأخذ أموال الزكاة؛ لأنه لم يعد هـناك حاجة؛ لأن المجتمع إذا خلا من الفقراء فهو لا يخلو من العجزة والمصابين واليتامى والأرامل، ولكن لأن مبادئ المحبة والأخوة والتكافل بين أفراد المجتمع الإسلامي قد بلغت ذلك المستوى المثالي الذي لم يعد فيه الفقير والمحتاج يحتاج إلى الزكاة المفروضة.
هذه أمثلة عن واقعية الإسلام في مجال التنمية الاقتصادية، هـذه الواقعية التي تمتزج بالمثالية في الكثير من جوانبها.