التعامل مع غير المسلمين: نماذج قرآنية
وهنا نقدم نماذج، من آيات القرآن الكريم، محكمة وحاكمة، في المعاملة، الحسنة، العادلة:
1- يقول تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة: 8) .
فهذه الآية، تقرر أسس التعامل مع غير المسلمين، أنها البر، والقسط إليهم، بكل ما يقتضيه معنى البر من الخير، والقسط من عدل، وفاصلة الآية: ( إن الله يحب المقسطين ) ، تدعو كل مسلم، أن يسارع في تنفيذ ما يحبه الله.
ولا شك في أن هذا التعامل، يقود إلى السلام الحقيقي، وقد أحسن صاحب الظلال، في تعليقه على هذه الآية، حيث يقول: إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله، إخوة متعارفين، متحابين، وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا، إلا عدوان أعدائه عليه، وعلى أهله, فأما إذا سالموهم، فليس الإسلام براغب في الخصومة، ولا متطوع بها كذلك، وحتى هو في حالة الخصومة، يستبقي أسباب الولوج في النفوس، بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة، انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه، بأن الخير أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم، الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.
ويمضي التعليق في الظلال، يبين أن الأصل في العلاقات، هو العدل، والسلام، فيقول: [ ص: 160 ]
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين، هي أعدل القواعد، التي تتفق مع طبيعة هذا الدين، ووجهته، ونظره إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد المتعاون في تصميمه اللدني، وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف، وتنويع.. وهو أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا، هو الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي، وضرورة رده، أو خون الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء، أو الوقوف بالقوة، في وجه حرية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء، وفيما عدا هذا، فهي السلم، والمودة، والبر، والعدل للناس أجمعين [1] 2- يقول تعالى: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) (النساء: 105) ، فقد جاءت هذه الآية تأكيدا عمليا لما يأمر به القرآن، من الحكم بين الناس بالعدل، دون تفرقة بينهم، بأي سبب من الأسباب.
وهنا تبين الآية، أن الله تعالى قد أنزل كتابه القرآن الكريم، بالحق، على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ليحكم بين الناس، بما هداه إليه الله تعالى.. والآية تدعوه صلى الله عليه وسلم ألا يكون محاميا، ولا مدافعا، عن الخائنين للأمانات، ممن يلوون ألسنتهم بالكذب، حتى يقضي لهم بظاهر شهاداتهم. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في الحديث التالي: روى الإمام أحمد في مسنده، ( عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت: جاء رجلان من الأنصار ، يختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موارث بينهما، قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها انتظاما في عنقه يوم القيامة .. فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إذا قلتما، فاذهبا، فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه )[2] [ ص: 161 ]
وفي أسباب النزول، إشارة إلى أن بعض الأنصار ، رمى أحد اليهود بغير حق، بتهمة ظالمه، فجاءت هذه الآية وما بعدها، في براءته.. آيات تتلى أبد الدهر، تؤصل للعدالة، وتؤكدها بين الناس كلهم، دون تفرقة، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو القبائل، أو الشعوب. يقول تعالى: ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) (المائدة: 5) .
يقول صاحب الظلال، في بيان معاني هذه الآية [3] : وهنا نطلع على صفحات السماحة الإسلامية، في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي (في دار الإسلام) ، وتربطهم به روابط الذمة، والعهد، من أهل الكتاب، أن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع مجفوين، معزولين، أو منبوذين، إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة، والخلطة، فيجعل طعامهم حلا للمسلمين، وطعام المسلمين حلا لهم كذلك، ليتم التزاور، والتضايف، والمؤاكلة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة، والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم- وهنا المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين.. ويقرن ذكرهن، بذكر الحرائر العفيفات، من المسلمات، وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام، من بين سائر أتباع الديانات والنحل .
وواضح أن الإسلام، لم يبح زواج المسلمات بغير المسلمين، والسبب الظاهر في ذلك، [ ص: 162 ] هو أن القوامة في الزواج للرجال، والمسلم مؤتمن على رعاية حقوق زوجته الكتابية، لا يكرهها في الدين، ولا يمنعها من الكنيسة، بل يوصلها، ولا يمنعها ما هو مباح لها في دينها.
وفوق كل هذا، فهو مؤمن بأنبياء الله جميعا، لا يفرق بين أحد من رسله، بينما غير المسلم، يكفر بالرسالة الخاتمة، ويخشى من فتنه المسلمة عن دينها.
وهذه المعاملة الحسنة، وخلق البر، والقسط، أصل ثابت مستقر، في توجيهات القرآن، والسنة، والتطبيق العملي في العهد النبوي، والخلافة الراشدة، وما اتصل بها من معاملات في العصور الإسلامية، وليست سياسة عارضة، أو مؤقتة.
ومثالا على هذه المعاملة الحسنة، وخلق البر والقسط، مع غير المسلمين، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود غلاما يهوديا مريضا، حتى إن والده لم يملك تقديرا لهذا الجميل، والصنيع الحسن، من الزيارة النبوية، إلا أن يشجع ولده على قبول الدعوة النبوية، واعتناق الإسلام [4] يوقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ودرعه مرهونة عند يهودي، وفي ذلك أعظم الدلالة على حسن التعامل .. وفعل ذلك مع وجود مسلمين أثرياء، في صحابته، الذين يفدونه بأرواحهم، وأموالهم [5] وقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود من القبائل، والأمصار، ويحسن وفادتهم، وهكذا صنع حين زاره وفد نصارى نجران، وكان بمسجده في المدينة المنورة، مما هو معروف خبره في السيرة النبوية، وتاريخ الدعوة الإسلامية [6] ، وسيظل هذا الهدي النبوي العظيم، هو نبراسنا في معاملاتنا المعاصرة، بإذن الله. [ ص: 163 ]