الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية

مصطفى محمد حميداتو

الفصل الثالث: مجالات ومميزات مدرسة ابن باديس التربوية

المبحث الأول : الوسائل المادية للتربية عند ابن باديس

تمويل التعليم

عرفنا في ما تقدم أن السلطات الاستعمارية ضيقت على التعليم العربي والإسلامي تضييقا شديدا، بمصادرتها للأوقاف الإسلامية التي كانت تمول هـذا القطاع، وعليه فإن تمويل المشاريع التعليمية في تلك الفترة كان ذاتيا، يؤمنه الأهالي.

ولمعرفة طبقات الممولين، نأخذ مثالا على ذلك حالة التعليم الحر في مدينة قسنطينة لسنة 1934م، على أساس أن هـذه المدينة تعد النواة الرئيسة لتلك المشاريع.

ومن خلال ما كتبته الصحافة الإصلاحية، يتبين أن طبقات الممولين تتشكل من العناصر الرئيسة التالية:

1 - التجار: منهم من يكفل لطلبة العلم المأوى والغذاء، وهم [ ص: 157 ] أصحاب الأملاك وأصحاب المطاعم والمخابز، وتغطي مساهماتهم حوالي 17% من إجمالي دخل صندوق الطلبة.

2 - الفلاحون: الذين يساهمون بكميات من محاصيل غاباتهم وحقولهم مثل التمور وغيرها، وتمثل مساهماتهم حوالي 11% من دخل صندوق الطلبة.

3 - عامة الأهالي: يساهم الميسورون منهم حسب ما تسمح به ظروفهم المادية.. ويمثل ما يقدمه الأهالي لتمويل التعليم حوالي 61% من إجمالي المساهمات [1] .

4 - مشروع سبل الخيرات: الذي أسس سنة 999هـ - 1590م، وهو من قبيل المشاريع الخيرية العامة، كإصلاح الطرقات، وتشييد المساجد والمعاهد، وشراء الكتب لإيقافها على طلبة العلم [2] .

هـذا باختصار نموذج عن تمويل مشاريع التربيـة والتعليـم في عهـد ابن باديس.

ويلاحظ أن استقلالية التعليم العربي الحر في عصر ابن باديس، أكسبته قبولا وتعاطفا لدى الأهالي، الذين دفعوا بأفلاذ أكبادهم إلى تلك المدارس، لإدراكهم أنها أنسب مكان لتنشئة أبنائهم التنشئة الإسلامية الصحيحة. [ ص: 158 ]

المطلب الأول: المدارس والمعاهد

إن من أهم عوامل تمايز وتفاضل الأمم والشعوب، مدى اهتمامها بالتربية والتعليم، وحظها من ذلك، ونجاحها في إيصال العلم إلى العقول، وتوجيهها التوجيه النافع المثمر.

وتعتبر المؤسسات التعليمية على اختلاف مراحلها وأشكالها، ذات تأثير بالغ في بناء الفرد والمجتمع، فمن خلالها يتشرب المبادئ والقيم التي يؤمن بها، والسلوك والأخلاق التي يتعامل بها. ولعظم الدور الذي تقوم به هـذه المؤسسات، أولاها الإمام عبد الحميد بن باديس عناية خاصة، سواء في وسائلها المادية أو المعنوية.

لقد سعت فرنسا جاهدة على أن تكون فرصة التعليم الوحيدة المتاحة للجزائريين، تنحصر في الالتحاق بالمدارس الحكومية، وأن تضيق بشدة على ما تبقى من المدارس العربية الحرة، حتى تصير اللغة الفرنسية لغـة التعليـم والثقافـة، ولغة الآباء والأمهات. هـذا كله جعـل ابن باديس ورفاقه يهتمون كثيرا بالمدرسة، باعتبارها الأداة الملائمة والفعالة لانتشال الأمة من وهدة الجهل والتبعية.

ومن المدارس والمعاهد التي أسسها ابن باديس أو ساهم في نشاطها، نذكر ما يلي: [ ص: 159 ]

- مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة [3] : ، التي كانت بمثابة النواة الرئيسة للمشروع التربوي في منطقة الشرق الجزائري.. أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس وجماعة من الفضلاء المتصلين به، من بينهم السيدان: العربي وعمر بن غسولة، وكان محل هـذه المدرسة فوق مسجد (سيدي بومعزة) ، ثم نقلت إلى مبنى الجمعية الخيرية بقسنطينة [4] ، التي تأسست في 1917 [5] ، ثم أصبحت في سنة 1930 مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وقد أولاها ابن باديس عناية خاصة، في اختيار معلميها، ورعاية طلبتها، وتقديم مختلف ألوان العون المادي والمعنوي لهم.

- دار الحديث: افتتحها الشيخ عبد الحميد بن باديس بمدينة (تلمسان) ، في خريف سنة 1356هـ- 1937م.. وتعتبر دار الحديث من أكبر المدارس التابعة للجمعية في الغرب الجزائري، وكان فتحها تحديا لسياسة المستعمر، التي تحول دون فتح المدارس الحرة، وتدريس العلماء بها [6] .

- المدرسة الموفقية: في مدينة (سانطارنو) قرب (سكيكدة) ، أسسها الشاب الأديب السيد محمد بن الموفق، للتعليم والتهذيب، [ ص: 160 ] بتأييد فضلاء البلد، وقد زارها الشيخ ابن باديس في صيف 1348هـ- 1929م، وألقى فيها دروسا في التفسير، ولزوم التعليم، ورفع الأمية [7] .

- مدرسة الإخاء: أسست في سنة 1921م، بمدينة (بسكرة) ، التي تبعد حوالي ثلاثمائة ميلا جنوب الجزائر العاصمة.

وكانت تسميتها بمدرسة الإخاء تعبيرا عن روح الأخوة والتضامن، في مواجهة المخاطر المحدقة بالأمة في تلك الآونة، وانتصب للتدريس بها جماعة من علماء البلدة [8] .

إن المدارس التي ساهم ابن باديس في إنشائها كثيرة، يضيق المقام بسردها، وقد اكتفينا بما اشتهر منها.

وكانت دروس ابن باديس في المدارس التي زارها، تتمحور في دعوة الناس للرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والأخذ بأسباب الحياة.

يقول ابن باديس عن ذلك: (ما كنت أدعوهم في جميع مجالسي إلا لتوحيد الله، والتفقه في الدين، والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، ورفع الأمية، والجد في أسباب الحياة من فلاحة وتجارة وصناعة، وإلى اعتبار الأخوة الإسلامية فوق كل مذهب وطريقة وجنس وبلد، وإلى حسن المعاملة، والبعد عن الظلم والخيانة مع المسلم وغير المسلم) [9] . [ ص: 161 ]

المطلب الثاني: المساجد والزوايا

كان للمسجد في صدر الإسلام وظائف جليلة، لم تفارقه إلا حين فرط المسلمون في رسالته الحضارية. فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منطلقا للغزوات والسرايا وتبليغ دعوة الحق إلى الأمم، وإخراج البشر من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الديان.

وكان المسجد مركزا تربويا يربى فيه الناس على فضائل الأخلاق، وكريم الشمائل، ومعرفة حقوقهم وواجباتهم في المجتمع المسلم. وبقي المسجد على هـذه الحال إلى أن ضعفت الأمة وتفرقت، وطغت عليها الأغراض الدنيوية، فانقلبت بعض حلقاته إلى موارد للرزق، ومعاقل للتعصب المذهبي والطائفي والشخصي.

يقول ابن باديس حول الرسالة الرائدة للمسجد في مجال التعليم: (المسجد والتعليم صنوان في الإسلام، من يوم ظهر الإسلام، فما بنى النبي صلى الله عليه وسلم يوم استقر في دار الإسلام بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه، ويجلس لتعليم أصحابه، فارتبط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة، كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة) [10] .

وإذا كان التعليم في المدارس والكتاتيب من نصيب الصبيان والشباب فإن للعامة نصيبا وافرا من التعليم في المساجد. [ ص: 162 ]

ويبرز الشيخ ابن باديس الدور الإيجابي الذي تؤديه المساجد في تعليم وتثقيف العامة، فيقول: (إذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم، فإن العامة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظ وافر، وتتكون منها طبقة مثقفة الفكر، صحيحة العقيدة، بصيرة بالدين، فتكمل هـي في نفوسها، ولا تهمل -وقد عرفت العلم وذاقت حلاوته- تعليم أبنائها، وهكذا ينتشر التعليم في الأمة، ويكثر طلابه من أبنائها... أما إذا خلت المساجد من الدروس، كما هـو حالنا اليوم -في الغالب [11] .

- فإن العامة تعمى عن العلم والدين، وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه... وتمسي والدين فيها غريب) [12] .

والمتتبع لتاريخ أسلافنا -رحمهم الله- يدرك الأهمية التي أعطيت لهذا النوع من التعليم، فقد بذلوا الأموال وحبسوا الأحباس، لضمان استمرار المسجد في تأدية رسالته التعليمية والتربوية.

وما انتهى المسلمون اليوم إلى ما هـم عليه من انحراف في عقائدهم وسلوكهم، وجمود في فكرهم، إنما سببه هـو انعدام التعليم الديني في المساجد، التي أصبحت مؤسسات رسمية خاضعة لتوجيهات الساسة.. ولن يرجى لهم شيء من السعادة الإسلامية، إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني، فأقاموه في مساجدهم كما يقيمون الصلاة وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل من إقامته بمسجده) [13] . [ ص: 163 ]

وحينما بدأ المسجد -على عهد ابن باديس- يقترب من مكانته الطبيعية، أصبح من أعظم المؤثرات التربوية في نفوس العامة والناشئين، وفيه صدع الجزائريون بأنهم ليسوا فرنسيين كما كانت تدعي فرنسا، وأن بلادهم ليست فرنسا ولا يمكن أن تكون كذلك ولو أرادت، وأثبتوا بأنهم أمة لها دينها ولغتها وحضارتها المتميزة.

- أهم المساجد التي كان ينشط بها الشيخ عبد الحميد بن باديس:

1- المسجد الأخضر بقسنطينة

أحد الجوامع الثلاثة الجمعية بعد الاحتلال الفرنسي بقسنطينة، أسسه حسن بك بن حسين سنة 1156هـ - 1743م، للصلاة والتعليم كما هـو منقوش فوق مدخل بيت الصلاة ما نصه: (أمر بتأسيس هـذا المسجد العظيم، وتشييد بنائه للصلاة والتسبيح والتعليم... حسين باي، أدام الله أيامه، وكان تمام بنائه أواخر شهر شعبان سنة ستة وخمسين ومائة وألف) [14] .

وقد اتخذ ابن باديس من المسجد الأخضر مدرسة لتكوين القادة وإعداد النخبة، التي حملت مشعل الإصلاح، وأخذت بيد الأمة تعلمها دينها، وتصحح عقائدها، وتوحد صفوفها ضد المستعمر الغاشم.

2 - الجامع الكبير بقسنطينة

وهو المسجد الذي اتخذه الشيخ ابن باديس لإلقاء دروسه.. فبعد إتمام دراسته بجامع الزيتونة، ابتدأ حلقاته العلمية فيه بدراسة كتاب الشفاء للقاضي عياض، حتى عمد [ ص: 164 ] مفتي قسنطينة السيد ابن الموهوب إلى منعه، فانتقل الشيخ حينها إلى المسجد الأخضر [15] .

3 - الجامع الجديد بباب البحر بالعاصمة

، المجاور للجامع الكبير، أنشئ على حساب خزينة مشروع سبل الخيرات، سنة 1070هـ - 1660م على عهد خليل أغا [16] .

وكان الأستاذ الطيب العقبي يلقي دروسه الدينية بهذا المسجد [17] فترة بقائه ممثلا لجمعية العلماء في العاصمة.

والحقيقة أن المساجد التي تحت رعاية جمعية العلماء، والتي كان يؤمها الشيخ ابن باديس ورفاقـه، كثيرة لا تحصـى، وقـد اكتفينـا بذكـر ما اشتهر منها خشية الإطالة.

ب - الزوايا: جميع زاوية، والزاوية في الأصل هـي ركن البناء أو الدار، حتى أصبحت تطلق على المسجد الصغير أو المصلى.

وضمن دعوته الإصلاحية الشاملة، كان ابن باديس يعرض أفكاره على أصحابها [18] ، ويدعوهم للوقوف إلى جانب حركته. كانت هـذه اللفتة من ابن باديس، موفقة إلى حد كبير، فقد انضم إلى صفوف الجمعية الكثير من شيوخ تلك الزوايا، نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ عبد العزيز [ ص: 165 ] ابن الهاشمي، في واد سوف، الذي أبلى بلاء حسنا في مناصرة الجمعية [19] ، وكانت زاويته معقلا للنشاط الإصلاحي في تلك الفترة.

المطلب الثالث: الصحافة

استعان ابن باديس ورفاقه بأدوات العصر لنشر دعوتهم، فإلى جانب الدروس والمحاضرات والخطب، اتخذوا من الصحافة منبرا آخر لبيان المفاهيم الإسلامية الصحيحة.

وقبل أن نتطرق إلى تفاصيل ذلك، نلقي أولا نظرة حول اتجاهات الصحافة قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل ظهور الصحافة الإصلاحية في الجزائر.

الصحافة قبل ظهور دعوة ابن باديس

يصعب تعيين تاريخ محدد لظهور الصحافة في الجزائر، إلا أن المؤكد أنها رافقت دخول الاستعمار، فقد استعملها الفرنسيون المعتدون لتبليغ القوانين والتشريعات والأوامر الإدارية إلى الشعب الجزائري، كما عنيت تلك الصحافة بإظهار سمعة فرنسا وما لها من الفضل على العرب والمسلمين من جهة، وتشويه رجال المقاومة الإسلامية الذين رفعوا السلاح في وجه الاستعمار من جهة أخرى.

وظلت الصحافة الاستعمارية على هـذا الخط فترة طويلة، إلى أن ظهر بعض الكتاب الجزائريين الذين كتبوا حول الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد كانت في أغلبها ترمي إلى خدمة الوجود الفرنسي في [ ص: 166 ] الجزائر، أكثر مما ترمي إلى إفادة الشعب الجزائري [20] ، ذلك لأن الطابع الفكري العام لما يكتب في تلك الصحافة كان موجها توجيها مباشرا من طرف الاستعمار.. ولا نكاد نصل إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، حتى ظهرت بعض الصحف التي تندد بسياسة اليهود والمستعمرين تجاه الأهالي.

فقد ظهرت صحيفة (الحق) في مدينة (عنابة) سنة 1893م بالفرنسية، ثم في سنة 1894م بالعربية، ثم جريدة المغرب سنة 1903م، وكانت تسعى إلى التأليف بين الأهالي وبين الأمة الفرنسية، وكـان جـل الكتاب في هـذه الصحيفـة جـزائـريين، منهـم الشيـخ عبد القادر المجاوي، والشيخ عبد الحليم بن سماية، وغيرهم من المثقفين الذين عرفوا باتجاههم الإصلاحي.

بعد ذلك ظهرت طلائع الصحافة الإسلامية الإصلاحية، مثل (الفاروق) التي أصدرها الأستاذ عمر بن قدور، و (ذو الفقار) التي أصدرها الأستاذ عمر راسم سنة 1913م.

فاهتمت بالإصلاح الديني والوضع الاجتماعي، وأحوال الشباب، والتعليم واللغة العربية.

هذا باختصار هـو الاتجاه العام للصحافة في تلك الفترة.

بداية نشاط ابن باديس الصحفي:

إن ما جرته الحرب العالمية الأولى من ويلات على الأمة الجزائرية، ساهم في إيجاد يقظة عامة في معظم طبقات الشعب، وظهور نوع من [ ص: 167 ] النضج الفكري والإرادة القوية لتغيير الأوضاع المتردية التي آلت إليها البلاد.

وقد أحس ابن باديس بعد سنوات من الجهد المتواصل في التعليم المسجدي والخطب، بضرورة توسيع دائرة دعوته، لتشمل عددا كبيرا من الشعب، فأقدم على استخدام القلم مع اللسان، مستعينا بأدوات العصر لإبلاغ دعوته، وفي مقدمتها الصحافة التي خصص للجانب التربوي فيها نصيبا وافرا.

شارك ابن باديس في تأسيس جريدة (النجاح) [21] ، التي كانت في بداية أمرها إصلاحية، ثم انحرفت فتركها ليستقل بصحافته.. في ذلك الحين ظهرت بعض الصحف الوطنية والإصلاحية، منها جريدة (الصديق) ، التي رأس تحريرها السيد عمر بن قدور [22] ، ثم أصدر الأمير خالد جريدته (الإقدام) بين (1920-1923م) .

وفي سنة 1925م، شهدت الصحافة الإصلاحية انبعاثا جديدا تحت زعامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فتوحدت الأهواء بعد أن كانت مشتتة، وتضافرت الجهود التي كانت مبعثرة، وتناسقت الأصوات المنادية بالإصلاح الديني والاجتماعي، والرجوع بالأمة إلى منابع الإسلام الأصيلة، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فدبت الحركة من جديد في تلك الشجـرة الكبيـرة، وحركت البراعـم أغصانهـا، فاخضـرت وأورقت [ ص: 168 ] لما سقاها الغيث المنحدر من مقالات رجال الإصلاح من: المنتقد، والشهاب، والإصلاح، والدفاع...

وهكذا اقتحم ابن باديس ميدان الصحافة بنفس العزم والجد الذي عرف به، مفتتحا العدد الأول من جريدة (المنتقد) بقوله: (باسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، والمبدأ الذي نحن عليه عاملون...) [23] وانبرت للكتابة في (المنتقد) أقلام كانت ترسل شواظا من نار على الباطل والمبطلين، ثم عطل (المنتقد) ، فخلفه (الشهاب) (الجريدة) . ثم أسست جريدة (الإصلاح) ببسكرة، فكان اسمها أخف وقعا، وإن كانت مقالاتها أسد مرمى وأشد لذعا [24] .

وكانت مجلة (الشهاب) هـي لسان حال الحركة الإصلاحية، التي قربت بين الأمة وبين قرآنها... وأزالت ما بينهما من جفاء) [25] .

ومنذ أن ظهرت الشهاب سنة 1925م، عمد ابن باديس إلى توسيع دائرة نشاطه التعليمي ليشمل أكبر عدد من الشعب، فخصص افتتاحياتها لنشر مختارات من دروسه التفسيرية والحديثية، تحت عنوان: (مجالس التذكير) . [ ص: 169 ]

الصحافة وسيلة تربية وتعليم

كانت الصحافة الإصلاحية في زمن ابن باديس في طليعة وسائل التربية والتعليم، فقد ساهمت في نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وتبصير العقول، يقول ابن باديس: (وسيكون هـذا الباب من المجلة مجالا لفنون من التذكير، جعلنا الله والمؤمنين من أهل الذكرى، ونفعنا بها دنيا وأخرى) [26] .

ويوضح أنواع ذلك التذكير، فيقول: (ننشر في هـذا الباب من مجلة (الشهاب) ما فيه تبصرة للعقول أو تهذيب للنفوس، من تفسير آية كريمة أو حديث شريف، أو توضيـح لمسألـة في أصـول العقائد أو أصـول الأعمال، معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يرتاب في رسوخ علمهم وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هـديهم، في نمط وسـط بين الاستقصـاء والتقصيـر) [27] . فكـانت الصحـافـة مـن أمضـى الأسلحـة التي حاربت بهـا الحركـة الإصلاحيـة خصومها، ونشـرت بها أفكارها وتعاليمها.

وقد شهدت الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى صراعا مريرا بين رجال الإصلاح من جهة، وأصحاب الطرق الصوفية المنحرفة من جهة أخرى. [ ص: 170 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية