سادسا: التدرج المرحلي في الإعلام الدعوي
التدرج هـو واحد من أبرز المناهج المستخدمة في حقل الإعلام الدعوي وباستعراض الظواهر الطبيعية والإنسانية في هـذا الكون، سنرى أن هـذه سنـة الله فـي خلقـه، فمـا تكونـت الجبال إلا مـن الحصـى، وما ناطحات السحاب إلا لبنات رصت فوق بعضها.. والتدرج سنة كونية، وسنة شرعية أيضا.
ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادرا أن يقول لها: كوني فتكون، ولكنه خلقها في أيام ستة، يعلمها الله، كما خلق الإنسان والحيوان والنبات في مراحل متدرجة، حيث مر الإنسان في خلقه بمراحل متزامنة، كل مرحلة تنبني على ما قبلها وتسلم لما بعدها، حتى أصبح على هـذه الصورة التي خرج بها من رحم أمه إلى هـذه الحياة الواسعة،
[ ص: 181 ] وما النطفة والعلقة والمضغة والعظام إلا دليل قاطع على هـذه السنة الكونية:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12 ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين *
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13ثم جعلناه نطفة في قرار مكين *
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (المؤمنون:12-14) .
ومن هـنا نزل القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم متدرجا،
وفي ذلك يقول عز وجل:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32 ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) (الفرقان:32) .
كما أن التدرج المرحلي قد ارتبط بحياة الإنسان نفسها منذ مولده وحتى وفاته،
وفي ذلك يقول وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=54 ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ) (الروم:54) .
وجاءت سنة التدرج تيسيرا من الله العباده فيما يشرعه لهم، إيجابا أو تحريما، فحين فرض الفرائض على عباده، كالصلاة والصيام والزكاة، فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة.. فالصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر على هـذا العدد، وزيدت في الحضر إلى أربع، وهي الظهر والعصر والعشاء.. والصيام فرض أولا على التخيير، من شاء صام ومن شاء أفطر وفدى، أي أطعم مسكينا عن كل يوم يفطره.. والزكاة فرضت أولا بمكة مطلقة غير
[ ص: 182 ] محددة ولا مقيدة بنصاب ومقادير، بل تركت لضمائر المؤمنين وحاجات الجماعة والأفراد، حتى فرضت الزكاة ذات النصب والمقادير في المدينة
[1] والمحرمات كذلك، لم يأت تحريمها دفعة واحدة، فقد علم الله سبحانه مدى سلطانها على الأنفس، وتغلغلها في الحياة الفردية والاجتماعية، فليس من الحكمة فطام الناس عنها بأمر مباشر يصدر لهم، إنما الحكمة بإعدادهم نفسيا وذهنيا لتقبلها، وأخذهم بقانون التدرج في تحريمها، حتى إذا جاء الأمر الحاسم كانوا مهيئين فعليا ووجدانيا إلى تنفيذه قائلين: سمعنا وأطعنا، ومن أوضح الأمثلة التي تؤكد ذلك هـو تحريم الربا والخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي، حتى نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة،
وفي ختامها:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91 ( فهل أنتم منتهون ) (المائدة:91) .
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هـي التي جعلته يبقي على نظام الرق، الذي كان سائدا في العالم كله عند ظهور الإسلام، ولو تم إلغاؤه مرة واحدة لأدى ذلك إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج
[2] وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج، ينبغي أن تتبع في سياسة الناس إذا أريد إقامة دولة الإسلام في الأرض.. إذا أردنا أن نقيم مجتمعا إسلاميا حقيقيا، فإن ذلك لن يتحقق بين يوم وليلة، ومن ثم فإنه في
[ ص: 183 ] البداية لا بد من الإعداد والتهيئة لذلك، مع الأخذ في الاعتبار سمو الأهداف ومبلغ الإمكانات وكثرة المعوقات، وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية، حيث تركزت مهمته خلال ثلاثة عشر عاما بمكة في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع فيما بعد أن يحمل عبء الدعوة وتكاليف الجهاد، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع وتقنين، بل كانت مرحلة تربية وتكوين، وكان القرآن نفسه فيها يعنى قبل كل شيء، بتصحيح العقيدة وتثبيتها في النفس والحياة، أخلاقا وأعمالا، قبل أن يعنى بالتشريعات والتفصيلات
[3] ولهذا بدأ الإسلام أولا بالدعوة إلى التوحيد وتثبيت العقيدة السليمة، ثم كان التشريع شيئا فشيئا.
وهكذا نرى أنه قد كمل الدين، وتمت النعمة بمنهج التدرج، الذي نزل به، ولو نزل دفعة واحدة لشق الأمر على الخلق وصعب عليهم امتثال أحكامه، وفي هـذا درس بليغ للدعاة ليتدرجوا في مناهجهم، ويكونوا عونا للناس على تطبيقها وامتثالها، وقد تنبه السلف الصالح لهذه الحقيقة حين ساروا على نهج التدرج في مختلف الأمور، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه
[4] وفي هـذا المعنى
( تقول عائشة رضي الله عنها ، واصفة تدرج التشريع ونزول القرآن بقولها: إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنا أبدا. ) (رواه البخاري)
[5] [ ص: 184 ]
وحين أراد الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز أن يعود بالحياة إلى هـدي الخلفاء الأربعة بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، اعترض على ذلك ابنه الشاب التقي عبد الملك وأنكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم، فقال له: مالك يا أبت لا تنفذ الأمور فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، فكان جواب الأب الفقيه المؤمن: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة)
[6] وفي قصص القرآن الكريم نرى سنة التدرج ماثلة في منهج دعوة الرسل، وما قصة نوح عليه السلام عنا ببعيدة، وهو الذي دعـا قومه ألف سنـة إلا خمسين عاما، فما آمن معه إلا قليل، ولكنه صبر واحتمل، ونوع في أساليب دعوته معتذرا إلى الله بقولـه:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=5 ( قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=6فلم يزدهم دعائي إلا فرارا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=7وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=8ثم إني دعوتهم جهارا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=9ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ) (نوح:5-9) .
[ ص: 185 ]
فما بالنا نستعجل استجابة المدعو بعـد أول لقـاء أو أول تعـارف، وما بالنا نحكم على الناس دون أن نخالطهم أو نصبر عليهم ؟
وهكذا بين لنا المولى عز وجل الطريق الصحيح لدعوة الناس إلى عبادته، وهو طريق الحكمة من خلال التدرج بالناس في معرفة التكاليف، والصبر عليهم في أداء الواجبات. ومن الحكمة أن يفهم الداعي ماذا يريد، ويحدد هـدفه، كما يحدد الوسيلة التي تناسب المدعو، وهذا باختصار يعني وضع الشيء في موضعه الصحيح.
والدعوة أولى من غيرها للعمل بالحكمة،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125 ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل:125) .
وللوقت دور هـام في إحراز النجاح، كما للصبر أثره الفعال في شفاء القلوب المريضة.
وفي ضوء ما تقدم نستطيع القول: إنه طالما أن التدرج سنة إلهية، فلقد وجب على الدعاة والإعلاميين اتباعها والعمل بها، حتى لا يقعوا في المحظور وهو العجلة،
وفي ذلك يقول عـز من قائل:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=11 ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) (الإسراء:11) .
فالمرء يتعجل النتائج ويستبطئ إحراز الهدف، وإذا فعل الداعية ذلك فسيكون مثله كمثل الزارع الذي يحصد الثمرة قبل نضجها، فيكون بذلك قد خسر جهدا بذله في زراعتها، وخسر الثمرة التي قطفها قبل أوان نضجها.
[ ص: 186 ]
وبعد: ففي ضوء هـذه الحقائق تتضح الأهداف التي يقوم عليها منهج الإعلام الدعوي، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية
[7] :
1 - أن التعريف الصحيح بالإسلام عقيدة وشريعة، يحقق الخير للجميع إذا التزموا بمعطياته، وتمسكوا بمبادئه.
2 - توضيح القيم الإسلامية البناءة، التي يؤكد عليها الإسلام لتنمية المجتمع والارتقاء بأفراده في كل مكان وكل زمان.
3 - تأكيد المبادئ النبيلة التي يحث عليها الإسلام، لتحقيق العدل والتكافل والتضامن والخير للجميع.
4 - التعريف بأحوال المسلمين، وتذكيرهم بمشاكل إخوانهم، والتحديات التي تواجههم، واقتراح الوسائل المناسبة لمساعدتهم.
5 - إبراز الجوانب الإيجابية في الدول الإسلامية، وعدم الخضوع لسيطرة الإعلام الغربي، لتصحيح الاختلال الكمي والكيفي الذي يمارسه هـذا الإعلام في تناوله لقضايا الأمة.
6 - التعريف بالشخصيات الإسلامية، التي أسهمت في صنع التقدم والتطور في مختلف المجالات.
7 - تفنيد الدعايات الكاذبة، والافتراءات المغرضة، التي يشنها أعداء الإسلام وخصومه، والتي تتم من خلال الأعمال الأدبية والفنية التي تصور المسلمين بشكل لا يتفق مع واقعهم، خدمة للمخططات الصهيونية والإلحادية.
[ ص: 187 ]
8 - تصحيح الصورة الذهنية الخاطئة، التي تكونت عند بعض الشعوب والجماعات عن الإسلام والمسلمين، عن طريق تقديم الواقع الحقيقي للسلوك الإسلامي الصحيح، وشرح أبعاد الفكر الإسلامي بصورة موضوعية.
9 - توعية المسلمين في بلاد العالم المختلفة بدورهم في تصحيح صورة الإسلام في غير ديار الإسلام، والتصدي للدعايات المغرضة، وتصحيح المفاهيم الباطلة التي يحاول أعداء الإسلام الترويج لها.
سادسًا: التدرج المرحلي في الإعلام الدعوي
التدرج هـو واحد من أبرز المناهج المستخدمة في حقل الإعلام الدعوي وباستعراض الظواهر الطبيعية والإنسانية في هـذا الكون، سنرى أن هـذه سنـة الله فـي خَلْقـه، فمـا تكونـت الجبال إلا مـن الحصـى، وما ناطحات السحاب إلا لبنات رصت فوق بعضها.. والتدرج سنة كونية، وسنة شرعية أيضًا.
ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادرًا أن يقول لها: كوني فتكون، ولكنه خلقها في أيامٍ ستة، يعلمها الله، كما خلق الإنسان والحيوان والنبات في مراحل متدرجة، حيث مر الإنسان في خَلقه بمراحل متزامنة، كل مرحلة تنبني على ما قبلها وتسلم لما بعدها، حتى أصبح على هـذه الصورة التي خرج بها من رحم أُمِّه إلى هـذه الحياة الواسعة،
[ ص: 181 ] وما النطفة والعلقة والمضغة والعِظَام إلا دليل قاطع على هـذه السنة الكونية:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=12 ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ *
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=13ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (المؤمنون:12-14) .
ومن هـنا نزل القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم متدرجًا،
وفي ذلك يقول عز وجل:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=32 ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) (الفرقان:32) .
كما أن التدرج المرحلي قد ارتبط بحياة الإنسان نفسها منذ مولده وحتى وفاته،
وفي ذلك يقول وتعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=54 ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةً ضَعْفًا وَشَيْبَةً ) (الروم:54) .
وجاءت سنة التدرج تيسيرًا من الله العباده فيما يشرعه لهم، إيجابًا أو تحريمًا، فحين فرض الفرائض على عباده، كالصلاة والصيام والزكاة، فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة.. فالصلاة فُرضت أول ما فُرضت ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر على هـذا العدد، وزيدت في الحضر إلى أربع، وهي الظهر والعصر والعشاء.. والصيام فُرض أولا على التخيير، من شاء صام ومن شاء أفطر وفدى، أي أطعم مسكينًا عن كل يوم يفطره.. والزكاة فُرضت أولا بمكة مطلقة غير
[ ص: 182 ] محددة ولا مقيدة بنصاب ومقادير، بل تُركت لضمائر المؤمنين وحاجات الجماعة والأفراد، حتى فُرضت الزكاة ذات النصب والمقادير في المدينة
[1] والمحرمات كذلك، لم يأت تحريمها دفعة واحدة، فقد علم الله سبحانه مدى سلطانها على الأنفس، وتغلغلها في الحياة الفردية والاجتماعية، فليس من الحكمة فطام الناس عنها بأمر مباشر يصدر لهم، إنما الحكمة بإعدادهم نفسيًا وذهنيًا لتقبلها، وأخذهم بقانون التدرج في تحريمها، حتى إذا جاء الأمر الحاسم كانوا مهيئين فعليًا ووجدانيًا إلى تنفيذه قائلين: سمعنا وأطعنا، ومن أوضح الأمثلة التي تؤكد ذلك هـو تحريم الربا والخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي، حتى نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة،
وفي ختامها:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91 ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (المائدة:91) .
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هـي التي جعلته يُبقي على نظام الرق، الذي كان سائدًا في العالم كله عند ظهور الإسلام، ولو تم إلغاؤه مرة واحدة لأدى ذلك إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج
[2] وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج، ينبغي أن تتبع في سياسة الناس إذا أريد إقامة دولة الإسلام في الأرض.. إذا أردنا أن نقيم مجتمعًا إسلاميًّا حقيقيًا، فإن ذلك لن يتحقق بين يوم وليلة، ومن ثم فإنه في
[ ص: 183 ] البداية لا بد من الإعداد والتهيئة لذلك، مع الأخذ في الاعتبار سمو الأهداف ومبلغ الإمكانات وكثرة المعوقات، وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية، حيث تركزت مهمته خلال ثلاثة عشر عامًا بمكة في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع فيما بعد أن يحمل عبء الدعوة وتكاليف الجهاد، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع وتقنين، بل كانت مرحلة تربية وتكوين، وكان القرآن نفسه فيها يُعنى قبل كل شيء، بتصحيح العقيدة وتثبيتها في النفس والحياة، أخلاقًا وأعمالا، قبل أن يُعنى بالتشريعات والتفصيلات
[3] ولهذا بدأ الإسلام أولا بالدعوة إلى التوحيد وتثبيت العقيدة السليمة، ثم كان التشريع شيئًا فشيئًا.
وهكذا نرى أنه قد كمل الدين، وتمت النعمة بمنهج التدرج، الذي نزل به، ولو نزل دفعة واحدة لشق الأمر على الخلق وصعب عليهم امتثال أحكامه، وفي هـذا درس بليغ للدعاة ليتدرجوا في مناهجهم، ويكونوا عونًا للناس على تطبيقها وامتثالها، وقد تنبه السلف الصالح لهذه الحقيقة حين ساروا على نهج التدرج في مختلف الأمور، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه
[4] وفي هـذا المعنى
( تقول عائشة رضي الله عنها ، واصفة تدرج التشريع ونزول القرآن بقولها: إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنا أبدًا. ) (رواه البخاري)
[5] [ ص: 184 ]
وحين أراد الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز أن يعود بالحياة إلى هـدي الخلفاء الأربعة بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، اعترض على ذلك ابنه الشاب التقي عبد الملك وأنكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم، فقال له: مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور فوالله ما أُبالي لو أن القدور غَلَت بي وبِك في الحق، فكان جوابُ الأبِ الفقيه المؤمن: لا تعجل يا بُني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فَيَدَعُوه جملة، فيكون من ذا فتنة)
[6] وفي قصص القرآن الكريم نرى سنة التدرج ماثلة في منهج دعوة الرسل، وما قصة نوح عليه السلام عنا ببعيدة، وهو الذي دعـا قومه ألف سنـة إلا خمسين عامًا، فما آمن معه إلا قليل، ولكنه صبر واحتمل، ونوّع في أساليب دعوته معتذرًا إلى الله بقولـه:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=5 ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=6فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=7وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=8ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا *
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=9ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) (نوح:5-9) .
[ ص: 185 ]
فما بالنا نستعجل استجابة المدعو بعـد أول لقـاء أو أول تعـارف، وما بالنا نحكم على الناس دون أن نخالطهم أو نصبر عليهم ؟
وهكذا بيّن لنا المولى عز وجل الطريق الصحيح لدعوة الناس إلى عبادته، وهو طريق الحكمة من خلال التدرج بالناس في معرفة التكاليف، والصبر عليهم في أداء الواجبات. ومن الحكمة أن يفهم الداعي ماذا يريد، ويحدد هـدفه، كما يحدد الوسيلة التي تناسب المدعو، وهذا باختصار يعني وضع الشيء في موضعه الصحيح.
والدعوة أولى من غيرها للعمل بالحكمة،
يقول تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125 ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (النحل:125) .
وللوقت دور هـام في إحراز النجاح، كما للصبر أثره الفعال في شفاء القلوب المريضة.
وفي ضوء ما تقدم نستطيع القول: إنه طالما أن التدرج سنة إلهية، فلقد وجب على الدعاة والإعلاميين اتباعها والعمل بها، حتى لا يقعوا في المحظور وهو العجلة،
وفي ذلك يقول عـز من قائل:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=11 ( وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا ) (الإسراء:11) .
فالمرء يتعجل النتائج ويستبطئ إحراز الهدف، وإذا فعل الداعية ذلك فسيكون مثله كمثل الزارع الذي يحصد الثمرة قبل نضجها، فيكون بذلك قد خسر جهدًا بذله في زراعتها، وخسر الثمرة التي قطفها قبل أوان نضجها.
[ ص: 186 ]
وبعد: ففي ضوء هـذه الحقائق تتضح الأهداف التي يقوم عليها منهج الإعلام الدعوي، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية
[7] :
1 - أن التعريف الصحيح بالإسلام عقيدة وشريعة، يحقق الخير للجميع إذا التزموا بمعطياته، وتمسكوا بمبادئه.
2 - توضيح القيم الإسلامية البناءة، التي يؤكد عليها الإسلام لتنمية المجتمع والارتقاء بأفراده في كل مكان وكل زمان.
3 - تأكيد المبادئ النبيلة التي يحث عليها الإسلام، لتحقيق العدل والتكافل والتضامن والخير للجميع.
4 - التعريف بأحوال المسلمين، وتذكيرهم بمشاكل إخوانهم، والتحديات التي تواجههم، واقتراح الوسائل المناسبة لمساعدتهم.
5 - إبراز الجوانب الإيجابية في الدول الإسلامية، وعدم الخضوع لسيطرة الإعلام الغربي، لتصحيح الاختلال الكمي والكيفي الذي يمارسه هـذا الإعلام في تناوله لقضايا الأمة.
6 - التعريف بالشخصيات الإسلامية، التي أسهمت في صنع التقدم والتطور في مختلف المجالات.
7 - تفنيد الدعايات الكاذبة، والافتراءات المغرضة، التي يشنها أعداء الإسلام وخصومه، والتي تتم من خلال الأعمال الأدبية والفنية التي تصور المسلمين بشكل لا يتفق مع واقعهم، خدمة للمخططات الصهيونية والإلحادية.
[ ص: 187 ]
8 - تصحيح الصورة الذهنية الخاطئة، التي تكونت عند بعض الشعوب والجماعات عن الإسلام والمسلمين، عن طريق تقديم الواقع الحقيقي للسلوك الإسلامي الصحيح، وشرح أبعاد الفكر الإسلامي بصورة موضوعية.
9 - توعية المسلمين في بلاد العالم المختلفة بدورهم في تصحيح صورة الإسلام في غير ديار الإسلام، والتصدي للدعايات المغرضة، وتصحيح المفاهيم الباطلة التي يحاول أعداء الإسلام الترويج لها.