غربة العربية من غربة الدين
كان البدء (بدء النبوة) بتعليم الكلمة :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31 ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ،
والختم (ختم النبوة) بتعليم الكلمة :
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1 ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1) .
( وأخرج الإمام أحمـد من حديث عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، قال: «خرج علينا رسول الله يوما كالمودع فقال : أنا محمد النبي، [ثلاث مرات] ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه... ) [1] .
فالوحي نزل كلمة، فكان بهذه الكلمة مصدرا من مصادر العلم والمعرفة. وحدث
محمد بن رافع والفضل بن سهل الأعرج عن
شبابة بن سوار بن عاصم عن أبيه
( عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز [2] بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها ) [3] .
الإسلام غريب بداية ونهاية، وغربة اللسان من غربة الدين، فمن المعروف أن اللغة العربية انتشرت بانتشار الإسلام وامتداد فتوحاته في
إفريقيا [ ص: 29 ] وآسيا ، وكان لها من القوة والنفوذ ما مكنها من التغلب على لغات الأمصار القديمة. ويرجع تمكنها إلى بنيتها الداخلية ودقة نظامها وقواعدها وغنى معجمها، وإلى آدابها وتراثها الذي يؤسسها، وعلى رأس الثقافة التي تسندها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ببلاغتهما المعجزة، ويرجع تمكنها كذلك إلى قدرتها على التعبير والإبانة عن مختلف جوانب الفكر والوجدان، ومن أسباب تمكنها أيضا صلتها بالإسلام؛ فهي لغة مصادر التشريع ولغة التعبد؛ يقول
الإمام الشافعي : «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي [...] والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء [...] وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها، لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيـرها، ولا يعـلمه إلا من قبله مـنها، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها، وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه، فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به ألا إله إلا الله وأن
محمدا عبده ورسوله، ويتلو كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك [...] فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين، والنصيحة فرض لا ينبغي تركه، وإدراك نافلة لا يدعها إلا من سفه نفسه وترك موضع حظه»
[4] [ ص: 30 ]
ويقول
ابن تيمية رحمه الله: « ومعلوم أن تعلم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسنة المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة الكتاب والسنة والاقتداء بالعرب في خطابها»
[5]
وقد ذكر ابن تيمية: أن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعار الأمم التي بها يتميزون
[6] .
لقد انتشرت اللغة العربية بذاتها وبعامل الدين. وقد ذكر لنا
الشافعي عامل الإسلام في تمكنها، وتتحدث الأخبار عن قدرتها على الانتشار؛ حيث إن اتصالها بالتراث العلمي القديم بدأ منذ القرن الأول في حركة ترجمة لكتب في النجوم والفلك والطب والكيمياء، برعاية
خالد بن يزيد بن معاوية الأموي ، وما زالت العربية في اتصالها بالعلوم إلى أن اتخذت في العصر العباسي وضعا رسميا. هـذا وقد انطلق العلماء المسلمون يتأملون في الظواهر الكونية بعقلية متحررة من الخصومة القديمة بين العقل والدين، التي عرفها التراث العلمي اللاتيني؛ حيث كانت الكنيسة تتدخل لتحرم وتحلل، حتى انتهى المطاف اليوم بالكنيسة والمجتمع الغربي إلى إسقاط وصاية الدين، وكل ذلك لم يعرف في تاريخ المسلمين ولا في دينهم؛ لأنهم نظموا حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية بالدين، فظهروا على الأمم الأخرى.
[ ص: 31 ]
ولا بد من الإشارة هـنا إلى أن العربية لم تعتمد في انتشارها على السلطة الحاكمة، كما تصور بعض الدارسين فيما سموه بسلطان اللغة الغازية، والدليل على ذلك أن العربية ما زالت قائمة فينا على الرغم من خضوع سائر بلاد العرب لحالة الاستعمار سنين عددا. ولولا أن العربية صالحة في ذاتها للاستمرار والمواكبة لانحصرت في نطاق التعبد والأحكام الفقهية، أو في مجال السلطة السياسية...
لقد وصلت إلينا اللغة العربية في تراث الجاهلية مهذبة مصقولة حتى بلغت مستوى عاليا من الدقة، دقة الدلالة وإحكام الصياغة والعبارة، استطاع معه العلماء في عصر التدوين وما بعده أن يستخلصوا من تراث الفصحى قواعد النحو والصرف، والاشتقاق والوضع، وضوابط العروض، وأساليب البيان. وصلت إلينا وقد أهملت الحوشي والغريب والمستثقل، وهذبت صيغها بالإعلال والإبدال والقلب والإدغام والحذف ، وما زالت أسرار العربية محجوبة، وما زال الميدان متسعا لاكتشاف الجديد في دلالات الألفاظ في النصوص المختلفة، وعلى رأسها القرآن الكريم.
ومن المفيد أن يتساءل المرء : كيف تأتى للغة عاشت في بيئة بدوية صحراوية معزولة عن غيرها من اللغات أن تتضمن طاقات هـائلة من التعبير؟ والجواب أنها استطاعت أن تتفوق في التعبير والانتشار والظهور على كثير من اللغات واللهجات؛ لأنها تضمنت الضوابط والقوانين التي مكنتها من التطور والمواكبة، ومن التوليد والتفريع والتعبير في مختلف المجالات والمقامات، إنها قوانين نمو اللغة، وهذه القوانين هـي القياس والاشتقاق والقلب والإبدال والنحت والارتجال ...
[ ص: 32 ]
غُرْبَةُ العربيّة مِنْ غُرْبَةِ الدّين
كانَ البدْءُ (بَدْءُ النُّبُوَّةِ) بِتَعْليمِ الكَلِمَة :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31 ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (البقرة:31) ،
والخَتْمُ (خَتْمُ النُّبُوَّةِ) بِتَعْليمِ الكَلِمة :
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1 ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (العلق:1) .
( وأَخْرَجَ الإِمامُ أَحْمـَدُ من حديثِ عَمْرو بْنِ العاصِ ، رضي الله عنه ، قالَ: «خَرَجَ عَلَيْنا رسولُ الله يوْمًا كالمودِّعِ فقالَ : أنا مُحمَّدٌ النّبِيُّ، [ثلاثَ مرّاتٍ] ولا نبيَّ بعدي، أوتيتُ فواتِحَ الكلِمِ وخَواتِمَه وجوامِعَه... ) [1] .
فالوَحيُ نَزَلَ كَلِمةً، فكانَ بهذه الكلمةِ مَصْدرًا من مَصادِرِ العِلْمِ والمعرِفةِ. وحدّثَ
محمّدُ بنُ رافعٍ والفضلُ بنُ سهلٍ الأعرج عن
شبابةَ بنِ سوار بنِ عاصِمٍ عن أبيه
( عن ابنِ عُمَرَ عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قالَ : « إنّ الإسلامَ بدأَ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأَ، وهو يأْرِزُ [2] بينَ المسجدينِ كما تأرِزُ الحيّةُ في جحرِها ) [3] .
الإسلامُ غريبٌ بدايةً ونهايةً، وغربةُ اللّسانِ من غربةِ الدّينِ، فمن المعروفِ أنّ اللّغةَ العربيّةَ انتشرَت بانتشارِ الإسلامِ وامتِدادِ فتوحاتِه في
إفريقيا [ ص: 29 ] وآسيا ، وكانَ لها من القوّةِ والنّفوذِ ما مكَّنَها من التّغلُّبِ على لُغاتِ الأمصارِ القديمةِ. ويرجعُ تمكُّنُها إلى بنيتِها الدّاخليّةِ ودقّةِ نظامِها وقواعِدِها وغِنى معجمِها، وإلى آدابِها وتُراثِها الذي يؤسِّسُها، وعلى رأسِ الثّقافةِ التي تُسْنِدُها القرآنُ الكريمُ والحديثُ النّبويُّ الشّريفُ ببلاغتِهِما المعجِزةِ، ويرجعُ تمكُّنُها كذلك إلى قدرتِها على التّعبيرِ والإبانةِ عن مختلِفِ جوانِبِ الفكرِ والوجدانِ، ومن أسبابِ تمكُّنها أيضًا صلتُها بالإسلامِ؛ فهي لُغةُ مصادِرِ التّشريعِ ولُغةُ التّعبُّدِ؛ يقولُ
الإمامُ الشّافعيّ : «ولِسانُ العربِ أوسعُ الألسنةِ مذهبًا وأكثرُها ألفاظًا، ولا نعلمُه يُحيطُ بجميعِ علمِه إنسانٌ غير نبيٍّ [...] والعلمُ به عندَ العربِ كالعلمِ بالسّنّةِ عندَ أهلِ الفقهِ، لا نعلمُ رجُلا جَمَعَ السُّنَنَ فلم يَذهبْ منها عليه شيءٌ [...] وهكذا لسانُ العربِ عندَ خاصّتِها وعامّتِها، لا يذهبُ منه شيءٌ عليها ولا يُطلبُ عندَ غيـرِها، ولا يعـلمُه إلاّ مَن قبِلَه مـنها، ولا يشركُها فيه إلاّ مَن اتَّبَعها في تَعلُّمِه منها، ومَن قبِلَه منها فهو من أهلِ لِسانِها، وإنَّما صارَ غيرُهم من غيرِ أهلِه بتركِه، فإذا صارَ إليه صارَ من أهلِه، ومن نطَقَ بقليلٍ منه فهو تَبعٌ للعربِ فيه، فعلى كلِّ مسلِمٍ أن يتعلّمَ من لسانِ العربِ ما بلغَه جهده، حتّى يشهدَ به ألاّ إله إلاّ اللهُ وأنّ
محمّدًا عبدُه ورسولُه، ويَتْلُوَ كتابَ الله، وينطِقَ بالذِّكرِ فيما افتُرِضَ عليه من التّكبيرِ، وأُمِرَ به من التّسبيحِ والتّشهّدِ وغيرِ ذلك [...] فكانَ تنبيه العامّةِ على أنّ القرآنَ نزلَ بلِسانِ العربِ خاصّةً نصيحَةً للمُسْلِمينَ، والنّصيحةُ فرضٌ لا ينبغي تركُه، وإدراكُ نافلةٍ لا يدَعُها إلاّ من سَفِه نفسَه وترَك موضِعَ حظِّه»
[4] [ ص: 30 ]
ويقولُ
ابْنُ تيميةَ رحمه الله: « ومَعلومٌ أنّ تعلُّمَ العربيةِ فرضٌ على الكِفايةِ، وكانَ السّلَفُ يؤدِّبونَ أولادَهم على اللّحنِ، فنحنُ مأمورونَ أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نَحفظَ القانونَ العربيَّ، ونُصلِحَ الألسنةَ المائلةَ عنه، فيحفظ لنا طريقة الكتابِ والسّنّةِ والاقْتِداءِ بالعربِ في خِطابِها»
[5]
وقد ذكرَ ابنُ تيميةَ: أنّ اللسانَ العربيَّ شعارُ الإسلامِ وأهلِه، واللّغات من أعظمِ شعارِ الأممِ التي بها يتميّزونَ
[6] .
لقد انتشرتِ اللّغةُ العربيّةُ بذاتِها وبعاملِ الدّينِ. وقد ذكرَ لنا
الشّافعيُّ عاملَ الإسلامِ في تمكُّنِها، وتتحدَّثُ الأخبارُ عن قدرتِها على الانتشارِ؛ حيثُ إنّ اتّصالَها بالتّراثِ العلميِّ القديمِ بدأَ منذ القرنِ الأوّلِ في حركةِ ترجمةٍ لكُتُبٍ في النّجومِ والفَلَكِ والطّبِّ والكيمياءِ، برِعايةِ
خالِد بْنِ يزيدَ بنِ معاويةَ الأمويِّ ، وما زالتِ العربيةُ في اتّصالِها بالعُلومِ إلى أن اتّخذت في العصرِ العبّاسيِّ وضعًا رسميًّا. هـذا وقد انطلقَ العُلماءُ المسلمونَ يتأمّلون في الظّواهرِ الكونيّةِ بعقليةٍ متحرِّرةٍ من الخُصومةِ القديمةِ بين العقلِ والدّينِ، التي عرَفها التّراثُ العلميُّ اللاّتينيُّ؛ حيثُ كانت الكنيسةُ تتدخّلُ لتُحرِّمَ وتُحلِّلَ، حتّى انتهى المطافُ اليومَ بالكنيسةِ والمجتمعِ الغربيِّ إلى إسقاطِ وصايةِ الدّينِ، وكلُّ ذلك لم يُعْرَفْ في تاريخِ المُسْلِمينَ ولا في دينِهم؛ لأنّهم نظّموا حياتَهم العلميّةَ والاجتماعيّةَ والسّياسيّةَ بالدّينِ، فظهروا على الأممِ الأخرى.
[ ص: 31 ]
ولا بدَّ من الإشارةِ هـنا إلى أنّ العربيّةَ لم تعتمدْ في انتشارِها على السّلطةِ الحاكمةِ، كما تصوّرَ بعضُ الدّارسينَ فيما سمّوه بسلطانِ اللّغةِ الغازِيَةِ، والدّليلُ على ذلكَ أنّ العربيّةَ ما زالتْ قائمةً فينا على الرّغمِ من خضوعِ سائرِ بلادِ العربِ لحالةِ الاستعمارِ سنينَ عددًا. ولولا أنّ العربيّةَ صالحةٌ في ذاتِها للاستمرارِ والمواكبةِ لانحصرت في نطاقِ التّعبُّدِ والأحكامِ الفقهيّةِ، أو في مجالِ السّلطةِ السّياسيّةِ...
لقد وصلت إلينا اللّغةُ العربيّةُ في تُراثِ الجاهليّةِ مهذّبةً مصقولةً حتّى بلغت مستوى عاليًا من الدّقّةِ، دقَّةِ الدّلالةِ وإحكامِ الصّياغةِ والعبارةِ، استطاعَ معه العلماءُ في عصرِ التّدوينِ وما بعدَه أن يستخلِصوا من تُراثِ الفصحى قواعِدَ النّحوِ والصّرفِ، والاشتقاق والوضع، وضوابِطَ العروضِ، وأساليبَ البيانِ. وصلت إلينا وقد أهملتِ الحوشيَّ والغريبَ والمُسْتثقَلَ، وهذّبت صيَغها بالإعلالِ والإبدالِ والقلبِ والإدغامِ والحذفِ ، وما زالت أسرارُ العربيّةِ محجوبةً، وما زالَ الميدانُ متّسِعًا لاكتشافِ الجديدِ في دلالاتِ الألفاظِ في النّصوصِ المختلفةِ، وعلى رأسِها القرآنُ الكريمُ.
ومن المُفيدِ أن يتساءَلَ المرءُ : كيفَ تأتّى لِلُغَةٍ عاشت في بيئةٍ بدويّةٍ صحراويّةٍ معزولةً عن غيرِها من اللّغاتِ أن تتضمّنَ طاقاتٍ هـائلةً من التّعبيرِ؟ والجوابُ أنّها استطاعت أن تتفوّقَ في التّعبيرِ والانتشارِ والظّهورِ على كثيرٍ من اللّغاتِ واللّهجاتِ؛ لأنّها تضمّنت الضّوابطَ والقوانينَ التي مكَّنتْها من التّطوُّرِ والمُواكبةِ، ومن التّوليدِ والتّفريعِ والتّعبيرِ في مختلِفِ المجالاتِ والمقاماتِ، إنّها قوانينُ نموِّ اللّغةِ، وهذه القوانينُ هـي القِياسُ والاشتقاقُ والقلبُ والإبدالُ والنّحتُ والارْتِجالُ ...
[ ص: 32 ]