المطلب الثالث: حقوق الإنسان أمام القضاء في الحديث
إن حقوق الإنسان أمام القاضي في الإسلام تتمثل إجمالا في حقه في العدالة وفي محاكمة عادلة.
أولا:حق العدالة
إن العدل، كما ذكرنا، من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته، وأمر الإسلام بالعدل أمرا عاما شاملا دون تخصيص بنوع دون نوع، لأن العدل نظام الله وشرعه، والناس عباده وخلقه يستوون أبيضهم وأسودهم، ذكرهم وأنثاهم، مسلمهم وغير مسلمهم أمام عدله وحكمه. [ ص: 165 ] والعدل هـو «الحق» وهو نقيض الظلم. وحق المظلوم لا يسقط باستغفار الظالم لا في قتل النفس ولا في سائر مظالم العباد. لهذا، فإن حق الدفاع عن العدالة هـو حق أصيل ينشأ منذ اللحظة التي يواجه فيها الشخص بالاتهام.
إذا كان الأمر كذلك، فمن حق كل فرد أن يتحاكم إلى الشريعة وأن يحاكم إليها، لأن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها [1] .
ومن المبادئ التي جاءت بها الشريعة الإسلامية إقرار المسئولية الفردية، أي أن الجاني مسئول وحده عما يرتكب من جرائم، بمعنى أن العقوبة تنـزل به وحده دون قرابته، ( فعن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه، رضي الله عنهما ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع للناس « ... ألا لا يجني جان إلا على نفسه ) [2] .
ومن حق الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقها من ظلم. ( فعن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك».. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله».. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد».. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار ) [3] . [ ص: 166 ] ومن حق الفرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه وتدفع عنه ما يلحق به من ضرر أو ظلم. ومن أمثلة ذلك قصة الزبير ، رضي الله عنه ، في موضوع سقاية الجار..ذلك ( أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة، التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليهم.. فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: «اسـق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك».. فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك.. فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «يا زبير اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر».. فقال الزبير: والله إني لأحسب هـذه الآية نزلت في ذلك: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ) ) (النساء:65) » [4] .
إن القضاء في الإسلام أمر متوقف على الإيمان: إيمان بأن حكم القاضي هـو الحكم الذي أنزل الله، وإيمان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم القاضي حكم ويحكم بين الناس بالحق، وهذا جزء من نظام الإسلام الذي شمل شئون الحياة كلها. فليس في الإسلام ديني ومدني أو زمني كما هـو عند أصحاب الديانات الأخرى، وإنما يستند كل عمل ظاهره دنيوي أو مدني إلى شعبة من شعب الإيمان. ولهذه الأسباب اعتبر منصب القضاء «منصبا دينيا». [ ص: 167 ] ومن حق الفرد -ومن واجبه- أن يدافع عن حق أي فرد آخر وعن حق الجماعة حسبة. ( فعن زيد بن خالد الجهني، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) [5] ، أي أن يتطوع بها حسبة دون طلب من أحد.
يستفاد من الحديث النبوي أنه لما كان القضاء في الإسلام مرتبطا بالدين فإن هـذا مما يخدم القضاء؛ لأنه يغرس في نفوس أفراد المجتمع الوازع النفسي ويربي الضمير الطاهر النقي الذي يحول بين صاحبه وبين ارتكاب المعاصي، وقد يحملهم هـذا على الاعتراف باقتراف الذنب أمام الحاكم رغبة في التطهير، حتى ولو كان بالقتل. ومما يشهد لهذا ( حديث الغامدية، فقد جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة من غامد من الأزد ، فقالت: يا رسول الله، طهرني.. فقال: «ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه».. فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك.. قال: «وما ذاك»؟ قالت: إنها حبلى من الزنى.. فقال: «آنت»؟ قالت: نعم.. فقال لها: «حتى تضعي ما في بطنك».. قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت.. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية.. فقال: «إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه» فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله.. قال: فرجمها ) [6] . [ ص: 168 ] إن حق الدفاع عن العدالة حق أصيل ينشأ منذ اللحظة التي يواجه فيها الشخص بالاتهام، ويقصد بهذا الحق تمكين الشخص من درء الاتهام عن نفسه، إما بإثبات فساد دليل خصمه أو إقامة الدليل على نقيضه وهو البراءة، وهو الأصل المصاحب للشخص والمستمر مع اتهامه ما لم تثبت إدانته أمام محكمة عادلة إدانة نهائية، ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كل أمتي معافى إلا المجاهرين ) [7] .
ومما ييسر حق الدفاع عن الإنسان في الإسلام احترام القاعدة الإسلامية التي تقرر أن الأصل براءة الذمة. ( فعن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) [8] .
فالاتهام بطبيعته يقتضي الدفاع فهو ضرورة منطقية له، وهو من المسلمات في الشريعة الإسلامية؛ لأنه من لوازم الاتهام. ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه أن أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا ... ) [9] .
هذان الحديثان يشيران إلى أن تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه هـو من الشرع، فلا يجوز لأي سبب حرمان المتهم من هـذا الحق، ولهذا يشترط أن يكون المتهم قادرا على الدفاع عن نفسه، فإن كان عاجزا عن ذلك لم يصح [ ص: 169 ] إدانته، لأن العجز عن الدفاع كالحرمان منه.. ولكن هـل هـناك سبيل إلى النيابة في دفع الحد وجلب الحماية؟ وهل هـذه النيابة أمر تقره الشريعة؟
المحاماة في القضاء
إن المحاماة، أو الوكالة في الخصومة، هـي في حقيقتها مهنة دفاع عن الحق، وبغير مساعدة المحامي قد يغم الأمر على القضاء، وتضيع حقوق الناس. فالمحاماة جائزة في كل القضايا، بل واجبة في الخطير منها، لا على أنها شفاعة، إنما لأنها تساعد القاضي في تبين وجه الحق في كل أطراف الموضوع، وتعينه على رؤية أبعاد القضية، والوقوف على النصوص المتعلقة بها، تأييدا للاتهام أو دفعا له؛ لأن من طبيعة الخصومة أن يكون فيها طرفان، المدعي والمدعى عليه، وقد يكون أحد الطرفين أبلغ عبارة وأعرف بأساليب التقاضي، وقد يكون على باطل، لذا ( قال صلى الله عليه وسلم : « ... ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ... ) [10] .
وقد رأى البعض في هـذا الحديث إشارة إلى جواز استعانة المتقاضي بمن يحسن بسط حجته ومن هـو أثبت منه نفسا وأصفى فكرا ليواجه خصمه ويفند حججه ويعين القاضي على تحقيق رسالته، وهي الكشف عن الحقيقة وإمضاء العدل. ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع ) [11] .
وهكذا، فإنه لا يعاقب أحد على ذنب أو جريمة إلا بعد أن يسمح له بالدفاع عن نفسه مباشرة أو بطريقة المحاماة. [ ص: 170 ]
ثانيا: الحق في محاكمة عادلة
إن المحاكمة العادلة هـي من الضمانات المطلوبة لتحقيق حقوق الإنسان، ولا تتحقق بغير المساواة، التي هـي أساس مهم من أسس القضاء في الإسلام ولا مصداقية للقضاء بدونها..لهذا حفل الحديث النبوي بكثير من الإرشادات والتنبيهات المتعلقة بسير القضاء وإجراءاته، إنصافا للمتقاضين، ومن ذلك:
1- حق التسوية بين الخصوم
إن المساواة مبدأ عام أساس في النظام الإسلامي، وهي تمثل حجر الزاوية لكل حقوق الإنسان وكذلك الضمانة الرئيسة الفعالة ليعيش الإنسان حياته كريما، وهي أساس الكرامة الآدمية والإخاء العام بين كافة البشر.
ولهذا المبدأ تطبيقات عديدة في القضاء، من أهمها:
أ- المساواة بين الخصمين بصرف النظر عن اختلاف مكانة كل منهما
هذه المساواة أصل مهم من أصول الإسلام، فإن الإنسان هـو خليفة الله في الأرض، وقد ساوى الله بين خلفائه : ( يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ... ) [12] .
وتروي السنة الفعلية للنبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من الوقائع التي تؤكد حرصه صلى الله عليه وسلم على المساواة بين المسلمين، بل بينه وبين غيره من المسلمين، من ذلك ( ما رواه عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال كنا في غزوة بدر كل ثلاثة منا على [ ص: 171 ] بعير، كان علي وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان عقبة النبي صلى الله عليه وسلم قالا: اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك.. فيقول: ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما ) [13] .
ب- عـدم تقديم قضية في دورها على قضية أخرى
اعتنى الإسلام بمبدأ مهم في عدم التمييز بين الخصوم، فأوجب على القاضي أن ينظر في القضايا حسب أولوية حضور أطرافها، الأول فالأول.. وإن اشتبه عليه حالهم استعمل القرعة فقدم من خرجت قرعته. «قالت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها : كان رسول الله إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي، فخرجت معه...» [14] . إذن تجوز القرعة حيث تساوت المصالح والحقوق.
فالقاضي لا يجوز له أن يقدم قضية في دورها على قضية أخرى لحسب خصم أو دينه أو جنسه أو لغير ذلك، إلا في حالتين [15] :
الأولى: أن يكون أحد الخصـوم غريبا عن البلد محل دار القضاء حتى لا يقلق ويترك حقه.
والثانية: جواز تقديم القضية التي حضر شهودها؛ لأن تأخيرها قد يلحق ضررا بالشهود. [ ص: 172 ]
ج- لا يقضي القاضي دون سماع الطرفين
فليس للقاضي في الإسلام أن يقضي بناء على سماع أحد الطرفين دون الطرف الآخر، ويجب أن يكون سماعه لأحد الطرفين في حضور الطرف الآخر. وهو ما يقضى أن يكون كل من الخصمين فاهما للغة التي يتكلم بها الطرف الآخر. ( فعن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي ) [16] .
ويقاس على ما ذكر في الحديث وما يمكن استنتاجه منه من المفاهيم التي ينبغي مراعاتها في القضاء ما يأتي:
- وجوب أن يتساوى الخصمان أمام القاضي، فلا يقرب أحدهما ويبعد الآخر، ولا يسمح لأحدهما بالجلوس ويترك الآخر واقفا، ولا يجلس أحدهما على وسادة ويجلس الآخر على الأرض مثلا.
فإذا عدل الحاكم (القاضي) في هـذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة وإذا خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان ذلك عنوان حيفه وظلمه.. وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان: إحداهما طمعه في أن تكون الحكومة (أي الحكم والفصل في القضية) له فيقوى قلبه وجنانه، والثانية أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر حجته [17] .. إذن فلا بد أن تكون معاملة القاضي لكل من الخصمين في المجلس على قدم المساواة. [ ص: 173 ] - عدم جواز قبول القاضي الهدية من أي من الخصوم إذا كان يلحقه بذلك تهمة أو شبهة [18] .
- يجب أن لا يضطلع القاضي بالنظر في أي قضية يكون هـو شخصيا طرفا فيها أو يكون أحد شركائه (في أي عمل أو تجارة أو مصالح) أو أي من أقاربه طرفا فيها، أو حتى تلك القضايا التي يكون أي من الأشخاص الذين بينهم وبين القاضي عداوة أو خلافات شخصية طرفا فيها [19] .
فكل هـذه التحذيرات وتلك التنبيهات والإرشادات تشير إلى ما تطلبه الشريعة من القاضي، وما يجب أن يتحلى به ويسير عليه في هـديه، وهي في جملتها تعتبر من الأسس والمبادئ التي جرى عليها عمل القاضي في عهد الرسول (.. وهي مبادئ تضمن حياد القاضي وعدله، ولكن القاضي يقضي وفقا لما يسمع أو يقدم إليه بالجلسة، وقد يحيد عن العدل متأثرا ببلاغة خصم أو ذلاقة لسان. ولهذا خاطب النبي- دائما وأبدا- ضمائر الخصوم.
2- وجوب التثبت والتحقيق قبـل الحكم:
من حق الإنسان على القضاء ألا يصدر الحكم عليه بغتة قبل سماع دفاعه وتحقيق الأدلة المقامة ضده والتثبت من صحة ما استند إليه، وهو من أوجب الواجبات على القاضي، ولا ينفك عن احترام حق الدفاع واحترام [ ص: 174 ] أصل البراءة : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ) [20] ؛ ( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ) [21] .
هكذا أمرت الشريعة من يمضي أمره على أحد من عباده أن يتثـبت من الأمر قبل أن يمضيه، ثم أمرت ألا يحكم الحاكم (القاضي) وهو غضبان : ( لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ) [22] ، ويقاس على الغضب كل حال يخرج فيها القاضي عن دائرة حسن النظر واستقامة الحال، كالشبع المفرط والعطش البالغ والجوع وما إلى ذلك مما يشغل الفكر [23] ، لأن الغضب يخشى معه من أمرين؛ أحدهما قلة التثبت، والآخر أن الغضب قد يتغير معه العقل ويتقدم به صاحبه على ما لم يكن يتقدم عليه لو لم يغضب، وكما أن العجلة قد تفضي بالإنسان إلى الانزلاق وعدم التثبت.
ومما يشهد لضرورة التثبت والتبين كإجراء قضائي حتى عند الإقرار بالدعوى والاعتراف بارتكاب المعاصي، ما ورد في قصة المعترف بالزنا [24] ( عن أبي هـريرة أنه قـال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت.. فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه.. فقال له: يا رسول الله، إني زنيت.. فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات.. فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبك جنون»؟ قال: لا.. قال: «فهل أحصنت»؟ قال: نعم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اذهبوا به فارجموه ) [ ص: 175 ] وهكذا، يلزم القاضي أن يناقش المقر في إقراره، بل يجوز له أن يلقنه ما يسهل عليه الرجوع عن الإقرار، وخاصة في جرائم الحدود.
ويجب على القاضي كذلك التثبت من عدالة الشهود، فالتثبت في القضاء واستقصاء الأدلة قبل الحكم من شأنه أن ينفي شهادة الزور وكتمان الشهادة، ذلك أن من ضمانات الحق في القضاء الصحيح تجريم شهادة الزور واعتبارها من أكبر الكبائر: ( ألا أخبركم بأكبر الكبائر ؟ قالوا: بلى يا رسول الله.. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور ) [25] .
وهكذا فإن أصول الدين وقواعد الأخلاق وأحكام المعاملات جميعا عملية ممتزجة لا مناص من مراعاتها كلها لإحقاق الحق وإعلاء كلمة العدل.
هذا الامتزاج قد ظهر بوجه خاص في التحري للغاية من البينات لا سيما في صدق الشاهد وعدالته باللجوء إلى حلف اليمين بالله تعالى. وهذا كله يبرز الأسس الروحية لأحكام القضاء والمخاصمات.
ولا ريب في أن مبادئ القضاء والدين والأخلاق تلتقي عادة إذا كانت البينات صحيحة وصادقة، أما إذا لم تكن كذلك، فقد يحكم القضاء بما يخالف الدين والأخلاق.. وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هـذا الخطر الذي يلحق بحكم القضاء المبني على بينة مزورة أو باطلة [26] . [ ص: 176 ] " 3- حق الإنسان في وجود قاض مجتهد مستقـل:
إن الضمانة الأساسية لكافة حقوق الإنسان أمام القضاء تكون في وجوب أن يوجد في كل وقت قاض مجتهد ومستقل يلجأ إليه المتقاضون فيجدون في مجلسه المساواة، وفي قضائه التثبت والاجتهاد، للوصول إلى معرفة الحق والحكم به، لأن ولاية القاضي مقصودها إيصال الحقوق إلى أربابها.
ولذا كان من أوجب الواجبات على الحاكم المسلم حين يختار قضاته أن يختارهم من أفضل الرعية [27] .
إن من أوجب الواجبات على القاضي أن يجتهد في معرفة أسرار التشريع وأحكامه، لا يقلد غيره في تفسير أو تأويل، حيث يشترط في القاضي أهلية الاجتهاد، بالقدرة على استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وأن يكون الموثوق به في عفافه وعقله وصلاحه وفهمه وحذقه لما تستوجبه منه مهنته [28] . [ ص: 177 ]