المبحث الرابع
مصدر الحاكمية وأقسامها
بعد توضيح أهمية فك الارتباط بين مفهوم الحاكمية ومصطلح الألوهية لتحديد الإطار العام للحاكمية في مجال النظر والبحث، وتقرير هـيولة المصطلح، ومحاولة تحديد المداخل المنهجية لبحث مفهوم الحاكمية، نعود إلى الحديث عن مصدر الحاكمية وبيان معناها ودلالاتها كما يقتضيه النظر المبني على ما سبق ذكره من معاني غزيرة دلت عليها النصوص الشرعية.
فالحاكمية تنقسم إلى ثلاثة أقسام مهمة وهي:
- حاكمية الله تعالى، الذي يتحدد من خلالها مبدأ الخلق والإيجاد ومبدأ التأسيس والتشريع؛
- وحاكمية الوحي ، وهو الوجه العملي للحاكمية الإلهية والجانب التطبيقي للإرادة الإلهية، وفيها تظهر مقاصد الخلق ووظيفة المخلوق، كما تعتبر القانون الضابط للعلاقة بينهما؛
- وحاكمية الإنسان، الذي يتحدد من خلالها مبدأ الاستخلاف والاستعمار، حسب ما تقتضيه حاكمية الله. [ ص: 73 ]
أولا: حاكمية الله ( الحاكمية الإلهية )
يمكن تقسيم الحاكمية الإلهية إلى الحاكمية التكوينية والحاكمية التشريعة [1] فبهما يتم المعنى الكامل لمفهوم هـيمنة الخالق على الوجود.
1- الحاكمية التكوينية
وموضوعها العالم والكون، ومعناها هـيمنة الباري على الكون خلقا وقدرا وتقديرا، ويتمثل ذلك في الأمر الإلهي الكوني القدري المعبر عنه «بكن» الإلهية،
قال الله تعالى: ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) (يس:82) ،
ويكون ذلك بإيجاد الأشياء وخلقها وإجراء النواميس والسنن، وكل ذلك مصدره المشيئة الإلهية العامة المطلقة المحيطة بجميع الموجودات.. وينقسم الأمر الإلهي إلى قسمين [2] :
أ- الأمر الإلهي الكوني، الذي يتم به الخلق بإيجاد الشيء من عدمه. [ ص: 74 ] ب - الأمر الإلهي الكوني والعناية الإلهية بالشيء الذي أوجده من عدم، وذلك بتحويله وتغييره وتنظيمه وترتيبه وتقديره ليصبح بماهيات جديدة وخصائص متنوعة [3] .
2- الحاكمية التشريعية
ومعناها أن الله تعالى هـو الحاكم المشرع المنفرد بإنشاء الأوامر والنواهي والأحكام، المختص بمبدأ التحليل والتحريم، الواضع لمبادئ التصورات عن ذاته سبحانه وعن الكون والإنسان والحياة، المنزل للشريعة العامة، الذي رضي الإسلام دينا لكل مكلف، وهذا معنى الانقياد لله تعالى واتباعه تشريعا، فالحاكمية التكوينية تقتضي الانقياد لله تعالى في السنن الكونية، بفهمها والانسجام معها، والحاكمية التشريعية تقتضي طاعة الله تشريعا، والانقياد له في جانب الأحكام، وذلك بجعل مبادئ الإسلام وقوانينه وتشريعاته، وقيمه وآدابه وأخلاقه من جهة، والتصورات عن الله والكون [ ص: 75 ] والإنسان والحياة من جهة أخرى، أساسا للتفكير ومنطلقا للحركة والاستخلاف في هـذه الحياة.
ثانيا: حاكمية الوحي ( الحاكمية الشرعية )
وحاكمية الوحي (الشرع) ، هـي الوجه العملي، والجانب التطبيقي للحاكمية التشريعية، فكون الله تعالى صاحب هـذه الحاكمية ، فإن حاكميته عبر عنها الوحي، والشريعة الإسلامية تعتبر ثمرته، فالحاكمية الشرعية (حاكمية الشرع) معناها سيادة الوحي (القرآن والسنة) على كافة الأحكام والقوانين وهيمنته على الشرائع المختلفة، سواء كانت أرضية أو سماوية، وهي منشئة لغيرها من الأحكام، حاكمة عليها بالاعتبار أو الإلغاء. ومن هـنا يمكن اعتبار الوحي ميثاقا أعلى يتضمن المبادئ العليا للشريعة الإسلامية.
- خصائص الحاكمية الشرعية
1 - التأسيس والإنشاء فالحاكمية الشرعية بوصفها وحيا منشئة للأحكام ابتداء ومؤسسة للشريعة العامة، فقد جاء الوحي ناسخا لجميع الشرائع التي كانت قبله، وأنشأ شريعة محكمة وأرسى مبادئ عامة، وحدد مقاصد وأهدافا، ونص على قواعد كلية، قامت عليها أركان المعاملات وفلسفة الشريعة في الأمة، ثم استحدث عبادات وسلوكات ومعاملات جديدة لم يسبق إليها، وصاغ نظريته العامة في الشريعة الإسلامية المؤسسة على فلسفة العقيدة، وهذا ما جعل الشريعة الإسلامية متميزة عن غيرها في [ ص: 76 ] تركيبها وخصائصها وتصوراتها ومبادئها وأحكامها، وأكسبها صفة المرونة والثبات والتجديد، فلم تكن بذلك وليدة تراكمات لأحكام قانونية وقواعد عرفية مكتسبة من هـنا أو هـناك، كما لم تكن تلفيقا وتجميعا لشرائع حضارية سادت قبلها، بل هـذه الشريعة مصدرها الله تعالى، ومن ثم اكتسبت صفة الحاكمية لاستمدادها من الحاكم الأعلى المنزه عن النقائص، الجامع لأوصاف الكمال والجلال والجمال وهو الله سبحانه وتعالى،
قال الله تعالى: ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (المائدة:50) .
2- المرجعية العليا: صفة الحاكمية للوحي أضفت عليه صفة المرجعية العليا للأصول الشرعية (القرآن والسنة) ، حيث اعتبرا مرجع الأدلة الشرعية ومرجع جميع الأحكام على اختلاف متعلقاتها، فتشمل العقائد والعبادات والتشريعات والأخلاق والآداب، وجميع نواحي ومجالات الحياة، كما يعتبران (القرآن والسنة) مرد كل نزاع أو خلاف في كل نازلة،
ولهذا قال الله تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء: 59) ،
وهذه المرجعية تسمو على القوانين واللوائح والدستور نفسه باعتبار أن الحاكمية الشرعية العليا مصدر كل قانون أو تشريع.
3- السيادة المطلقة: تتميز الحاكمية الشرعية ومن ثم الشريعة الإسلامية بالسمو على سائر القواعد والقوانين، كما يعتبر الوحي ميثاقا أعلى يتضمن المبادئ العليا للشريعة الإسلامية. ويترتب على ذلك ما يلي: [ ص: 77 ] 1 - الحاكم من حيث التشريع هـو الله تعالى.
2 - الوحي مصدر جميع الأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها.
3 - سيادة الشريعة الإسلامية وسموها على ما سواها.
4 - خضوع الدولة بسلطاتها وأجهزتها، ومؤسساتها لقواعد ومبادئ الشريعة الإسلامية العامة.
5- صفة الإلزام في قوانين التشريع الإسلامي.
6- مواطأة الأحكام الاجتهادية للمبادئ العامة للشريعة الإسلامية وموافقة مقاصدها العامة وقواعدها الكلية، مبدأ أساسي يتضمنه معنى السيادة الشرعية.
7- افتقاد القيمة القانونية للقوانين والأحكام التي تعارض المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، وهذا يترتب عليه إهدار القيمة الإلزامية لتلك القوانين والأحكام.
ثالثا: حاكمية العقل ( الحاكمية الإنسانية )
- مفهوم العقل الإنساني
باعتبار أن العقل وسيلة العلم والمعرفة والتأمل والتفكر، فإنه من الأهمية معرفة هـذا الجوهر كطريق لمعرفة خفايا هـذا الكون وسر هـذا الوجود، وقد تعددت الأنظار إلى هـذا العقل من حيث التعريف به وبيان خصائصه؛ ونحن نورد هـنا طائفة من الحدود على سبيل الإشارة والتنبيه، فمن تعريفاته [ ص: 78 ] أنه «ملكة إدراك كلي وضروري، سواء أكان ماهية أو قيمة» [4] ؛ وقيل: «هو ملكة الربط بين الأفكار وفقا لمبادئ كلية» [5] ، وقيل: «هو ما يعين على التجريد واستخلاص المعاني الكلية، وهو وسيلة المعرفة فيدرك الجزئي كما يدرك المعاني العامة» [6] . وليس المراد من إيراد هـذا التعريفات هـو الخوض في ماهية العقل وحقيقته بقدر ما هـو مدخل للحديث عن الترابط العضوي بين معنى العقل وقيمته التي نبه عليها القرآن الكريم، ومجال نظره وحدود بحثه وإعماله.
حاكمية العقل
عودة إلى الحاكمية الإنسانية والتي قد يتحرج بعضهم من هـذا الإطلاق ومن عملية الربط بين الحاكمية والعقل، وقد يكون هـذا راجعا إلى الإسقاطات التاريخية التي ترتد إلى أذهان بعض المفكرين بسبب ما عاشه الفكر الإسلامي في صدره الأول حين ساد الفكر الاعتزالي والذي رفع أصحابه شعار العقل حتى وصفوا بالمذهب الحر، وبعيدا عن تلك المحاكاة والإسقاطات فليس ثمة دليل من القرآن أو السنة أو الإجماع أو القياس على نفي هـذا الإطلاق، كما لم ينقل عن أحد من العلماء المعتبرين في النظر والاجتهاد نفي هـذا الترابط [ ص: 79 ] بين مصطلح الحاكمية والعقل الإنساني، بل من خلال ما تتبعناه للدلالات التي يحملها هـذا المصطلح في لغة العرب وفي الأصول الشرعية تبين لنا مدى غزارة مادة الحاكمية وشمولية إطلاقه حسب السياق والمقام الذي يوظف فيه. بل على العكس ما لاحظناه هـو تداول هـذا الربط منذ البعثة النبوية الأولى، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) [7] إطلاق نبوي للحاكمية على مستوى القدرات الإنسانية، ويؤكد هـذا المعنى نصوص أخرى منها ( عن عائشة رضي الله عنها : «..فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد ، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم. وعن هـشام قال: قال أبي: فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل ) [8] . بل ما نلحظه هـو وجود نوع من الحاكمية العقلية على النص بالاعتبار أو الإلغاء في بعض مجالات النظر الاجتهادي، ونقصد هـنا النص النبوي، ويتضح هـذا في مجال علوم الحديث، حيث إن المحدثين وضعوا جملة من الشروط على صحة اعتبار الحديث منها: عدم مناقضة نص الحديث لصحيح العقل، وإلا حكم عليه بالإلغاء والإبطال، فالعقل هـنا حاكم على النص.
ومن أمثلة ذلك الحديث الصحيح الذي رواه عبد الرزاق " عن عائشة ، رضي الله عنها قالت: كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشرفن للرجال في المساجد فحرم الله عليهم المساجد وسلطت عليهن الحيضة " [9] . [ ص: 80 ] قال أستاذنا محمد أبو الليث الخير آبادي : «هذا كما ترون موقوف على السيدة عائشة رضي الله عنها ، ولكنه في حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه مما لا يقال من قبل الرأي، كذا قال ابن حجر ، لا يستقيم في العقل أن حيضة بني إسرائيل سلطت عليهن عقوبة لا جبلة، والمعروف لدى الجميع أن الحيضة مما كتبه الله على المرأة كما تدل عليه الروايات» [10] .
كما تتضح أيضا حاكمية العقل على النص الشرعي في مجال تفسير النصوص، وتظهر الصورة واضحة في تخصيص العام، حيث ذهب علماء الأصول إلى تعداد جملة من المخصصات المنفصلة، وذكروا منها العقل، أي أن العقل يخصص النص، سواء كان قرآنا أو سنة، يقول جلال الدين المحلي : «ويجوز التخصيص بالحس كما في قوله تعالى في الريح المرسلة على عاد ( تدمر كل شيء ) (الأحقاق:25) أي تهلكه، فإنا ندرك بالحس، أي بالمشاهدة، ما لا تدمير فيه كالسماء، وبالعقل كما في قوله تعالى: ( الله خالق كل شيء ) (الزمر:62) فإنا ندرك بالعقل ضرورة أنه تعالى ليس خالقا لنفسه» [11] .. [ ص: 81 ] ويقول الشوكاني : «وهذا شروع في المخصصات المنفصلة، وقد حصروها في ثلاثة أقسام العقل والحس والدليل السمعي» [12] ؛ وقال في عرض مذهب الجمهور في المسألة: «وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل، فذهب الجمهور إلى التخصيص به وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به» [13] ؛ وتخصيص العقل للنص قد يكون ضرورة وقد يكون نظرا، فأما الأول فمثاله قوله تعالى: ( الله خالق كل شيء ) فنعلم بالضرورة العقلية أنه تعالى ليس خالقا لنفسه، ومثال الثانية قوله تعالى: ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) فنعلم بالنظر العقلي أن الصبي والمجنون غير داخلين في عموم الخطاب [14] . ومعنى التخصيص هـنا: تقديم دلالة العقل وضرورته على مقتضى النص ودلالته، وسبب ذلك كما يوضحه الرازي : «أن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور، والعقل منع من ثبوته في بعض الصور، فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فيلزم من ذلك صدق النقيضين وهو محال أو يرجح النقل على العقل وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فالقدح قدح في أصل النقل، والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا وهو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل» [15] . [ ص: 82 ] ولا نعني بحاكمية العقل على النص هـنا تقديم العقل على النص في كل حال، وتجاوز العقل لمأخذ النقل وإلا بطلت الشريعة كما يقول الشاطبي ، بل نعني بحاكمية العقل أن للعقل سلطانا معتبرا وحاكمية دلت عليها الأصول الشرعية في كثير من نصوص الوحي، والتي في أساسها تدعو إلى التفكر والتعقل، والتأمل، فاستحق العقل هـذه الحاكمية بهذا الاعتبار،
يقول الله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53) ،
فهذه الآية وعد من الله تعالى، وفي الوقت ذاته دفع للعقل نحو التفعيل لكشف هـذا الوعد، وذلك بالاتجاه نحو الكون الفسيح لكشف أسراره وسننه وقوانينه.
وإذا كان العقل هـو تلك القوة الإدراكية المعيارية في الإنسان، التي على أساسها حمل أمانة الخلافة والتي على أساسها خوطب بالوحي ليتحمله فهما وتطبيقا [16] فيمكن إدراك القيمة العظيمة للعقل الإنساني باعتباره محور هـذا [ ص: 83 ] الخطاب الإلهي، تلقيا وفهما وتنزيلا، وهو أساس الوحي ودليله وحاميه وكاشف مقاصده، ولهذا نجد كثيرا من الآيات تحث على النظر العقلي وإعمال الفكر، وربط الأسباب بالمسببات، والانتقال من المقدمات إلى النتائج ومن المعاليم إلى المجاهيل، للوصول إلى الفهم السليم والاستنباط الصحيح،
قال الله تعالى: ( قل هـل يستوي الأعمى والبصير ) (الأنعام:50) ،
وقوله: ( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) (الروم:8) ،
وقد ورد في القرآن الكريم ثمانية عشر نصا قرآنيا في التفكر والدعوة إليه، أما العقل والدعوة إليه وبيان ضرورة الأخذ به وذم المجانبين له فقد بلغت في القرآن الكريم قرابة الخمسين آية [17] .
يقول القرطبي : «والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هـو عمدة التكاليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعث الرسل، وأنزلت الكتب، فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء» [18] . [ ص: 84 ]
- مجال الحاكمية العقلية (النظر العقلي) :
النظر العقلي بإعمال الفكر قصد التوصل إلى مطلوب على ضربين: النظر في الكون المنظور (الاجتهاد الكوني) ، والنظر في الوحي المقروء ( الاجتهاد الشرعي) .
أولا: النظر في الكون المنظور
وفي هـذا المجال للعقل السلطان الكامل والنظر المطلق في الإعمال والتفكير والتأمل، والكشف والاستدلال، وربط المقدمات بالنتائج والكليات بالجزئيات، والوسائل بالمقاصد، ونحو ذلك مما يقتضيه سعة الأفق في النظر الكوني، بتوظيف طاقات الفكر والروح والنفس، لأجل مقصد يتمثل في اكتشاف سنن الله تعالى في الكون والتعرف على النواميس التي تحكم الوجود والمجتمع والنفس،
قال الله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53) .
وعلى الناظر في الكون المنظور قصد قراءته تفكرا وتدبرا للتعرف على قوانينه والنواميس التي تحكمه، أن يستعين بجملة من الوسائل التي تكون له عونا لتحقيق غايته والوصول إلى مراده، وهذه الوسائل هـي:
التعقل، التفكر، التدبر، التأمل، الملاحظة، تصور الاحتمالات والحالات بالافتراض العلمي، استنباط الجزئيات من الكليات وإدراك الكليات من النظر في الجزئيات، قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، [ ص: 85 ] إجراء أعمال التحليل والتركيب والجمع والتفريق، إدراك النسب بين المعاني والمدركات، إدراك الروابط بين المعلولات وعللها العقلية، وبين المسببات وأسبابها المنطقية، وآثار الأشياء ونتائجها المنطقية المستندة إلى العلة العقلية أو السبب المنطقي، إدراك الأحكام العامة من خلال ملاحظة التجارب المتكررة، ولو لم يكن بين السبب والظاهرة ارتباط عقلي.
وبهذا المنهج يمكن للمتأمل في هـذا الكون أن يحقق مقاصد الآيات القرآنية التي دعت إلى النظر في الآفاق. كما يهدف القرآن من وراء دعوة العقلاء إلى النظر في هـذا الكون إلى جملة أهداف منها: اكتشاف علة هـذه المحسوسات، ومعرفة مصدر هـذا الكون، وإدراك آثار القدرة الإلهية في الوجود، واكتشاف سر خلق الإنسان وحقائق الظواهر الكونية، والسر الناظم بين الحقيقة الإنسانية والحقيقة الكونية، ليتهيأ هـذا المخلوق، لمهمة الاستخلاف والعمارة.
ثانيا: النظر في الوحي المقروء
ونعني به النظر الاجتهادي في النصوص الشرعية، وهو على ضربين:
1- الاجتهاد الاستنباطي:
ويسمى كذلك بالاستدلالي، أو القياسي، وهو كما يعرفه الغزالي : بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة [19] . [ ص: 86 ] وعرفه الشوكاني بقوله: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط [20] . ونجد في هـذا النوع من الاجتهاد حضور البعد القياسي، ببذل الوسع والجهد للتوصل إلى استنباط حكم شرعي من النصوص الشرعية أو القواعد الكلية، ومدار هـذا الاجتهاد النص الظني الدلالة، كما أن العملية الاجتهادية عملية عقلية فكرية تروم فهم مراد الشارع المضمر في النص الشرعي معتمدا جملة من الأدوات البحثية والقواعد المنهجية [21] .
2- الاجتهاد التطبيقي:
وهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله [22] . وهذا النوع من الاجتهاد لا ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة [23] . وهذا هـو الاجتهاد الذي يعنى بتنزيل الأحكام الشرعية وإيقاعها، ومدار هـذا الاجتهاد النص القطعي والظني ، كما أن العملية الاجتهادية عملية تطبيقية تتشوف إلى مآلات التنزيل يتم فيها ربط الوحي بالواقع المعاش، وهي مرحلة دقيقة حرجة «ذلك لأن الأحكام التي جاء بها الوحي وعقلها العقل أحكام عامة تضبط ما ينبغي أن تكون عليه أفعال الإنسان بحسب أجناسها.. [ ص: 87 ] وهذه الأفعال الإنسانية الواقعية على درجة كبيرة من التعقيد في أسبابها ودوافعها، وفي تأثرها وتأثيرها، مما يجعل حقائقها تتردد بين الوضوح أحيانا وبين الخفاء أحيانا أخرى، فيظهر بينها التشابه من حيث إنها مختلفة بالحقيقة، كما يظهر بينها الاختلاف من حيث إنها متفقة بالحقيقة» [24] .
النظر العقلي ببعديه الاجتهاديين
مما سبق بيانه نجد أن النظر الاجتهادي يتخذ بعدا تكامليا تتناسق فيه القواعد المنهجية الاجتهادية كأدوات بحثية مع الأدوات التطبيقية كمسالك تنزيلية، فـ «ليس الاجتهاد في التفهم والاستنباط بأولى من الاجتهاد في التطبيق إن لم نقل أن قيمة الاجتهاد عمليا إنما تنحصر فيما يؤتى من ثمرات في تطبيقه تحقق مقاصد التشريع وأهدافه في جميع مناحي الحياة» [25] . ومن تعريفات الاجتهاد ببعديه الاستنباطي والتطبيقي تعريف الدريني حيث يقول: «إنه بذل الجهد العقلي من ملكة راسخة متخصصة لاستنباط الحكم الشرعي العملي من الشريعة، نصا وروحا، والتبصر بما عسى أن يسفر تطبيقه من نتائج على ضوء قواعد أصولية مشتقة من خصائص اللغة وقواعد الشرع أو روحه العامة في التشريع» [26] . وقال في موضع آخر: «الاجتهاد عقل متفهم ذو ملكة مقتدرة متخصصة، ونص تشريعي مقدس يتضمن حكما، ومعنى يستوجبه، أو مقصد يستشرف إليه، وتطبيق على موضوع النص، أو متعلق الحكم، ونتيجة متوخاة من هـذا التطبيق». [ ص: 88 ] وبهذا يجمع بين فهم النص الشرعي وتطبيقه، وقد أشار الشاطبي إلى هـذين البعدين للاجتهاد في كتابه الموافقات عند حديثه عن الاجتهاد [27] .
والنظر في الوحي المقروء قصد استنباط الأحكام الشرعية يتطلب جملة من الشروط تعتبر بمثابة أسس يقوم عليها النظر والاجتهاد، وقد أشار علماؤنا، قديما وحديثا، إلى هـذه الشروط عند حديثهم عن شروط الاجتهاد. وهذه الشروط على اختلافها وتعددها من عصر إلى آخر فإنها تدور على جملة شروط أهمها: العلم بالوحي (القرآن والسنة) وعلومه، العلم بالمقاصد العامة والقواعد الكلية للشريعة الإسلامية، معرفة العلوم السائدة في عصر المجتهد، العلم بالعرف الجاري والواقع المعاش. وهذه الشروط ينبغي توفرها في الناظر في الوحي كي يكون اجتهاده أقرب إلى الصواب والحق، محققا لمقاصد الشريعة العامة.
التكامل المعرفي في الحاكمية العقلية
بإعمال الفكر في الوحي المقروء، وبتمعن العقل في الكون المنظور، يقع التكامل المعرفي الذي به يتم تحقيق الاستخلاف الحضاري المنشود، والوحي المقروء يتمثل في الكتاب المتلو وهو القرآن الكريم، المحدد لغاية الحق من الخلق، المنبه على السنن الحاكمة لهذا الوجود، الموضح للمنهج والشرعة، والحقائق الأساسية. والكون المنظور يتمثل في هـذا الخلق؛ والكون بدأ من الإنسان، وبهما توجد المعرفة الحضارية الكاملة التي تمكن الإنسان من القيام [ ص: 89 ] بمهام الاستخلاف، وأداء مهمة الاستخلاف وأداء حق الأمانة، والقيام بمقتضيات العمران، فالقرآن يقود إلى النظر في الكون، والكون يقود إلى النظر في القرآن، وهذا ما أطلق عليه بعض المفكرين المعاصرين بالجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة الكون، «قراءة تبدو غيبية في إطار الوحي في الكون، وقراءة موضوعية من خلال الكون وعناصره في الوحي، فقراءة الوحي بمثابة تنزل من الكلي إلى الجزئي، وبما تتيحه القدرات البشرية النسبية من الفهم لتنزلات الكلي، وقراءة الكون بمثابة تطلع من الجزئي باتجاه الكلي وفق قدرات البشر النسبية أيضا على فهم الظواهر، فلا يقع الفصام المزعوم بين معطيات الوحي ونتائج المعرفة الموضوعية» [28] .
والمتأمل في العلاقة بين الوحي والعقل يجد أنه ليس هـناك تعارض بين النقل والعقل، وإنما التعارض إشكالية وهمية أثيرت في الفكر الإسلامي إثر جملة من الظروف الموضوعية أحاطت بالفكر الإسلامي اضطر من خلالها العلماء الخوض في هـذا الباب، وأثارته بوصفه إحدى المباحث الجدلية التي شغلت الفكر الإسلامي.. وظهرت فكرة التعارض بين العقل والنقل وتطورت على إثر تأثر الفكر الإسلامي بالفكر اليوناني والفلسفة الإغريقية، وما يحمله هـذا الفكر من نظريات في الوجود والمعرفة مخالفة لما عليه دلالات الوحي والنصوص، فضلا عن الحيثيات الموضوعية الكامنة في ظواهر نصوص الوحي وقدرات النظر العقلي المحدود لدى المجتهدين، فظهرت الاتجاهات [ ص: 90 ] الفكرية على أيدي مجموعة من العلماء تحاول إعادة ترتيب المنظومة الفكرية الإسلامية على أساس من التكامل المعرفي والمنهجي بين دلائل السمع ومناهج العقل، ورفض دعوى الاستناد إلى العقل والتعويل عليه كفاية به وذلك تأثرا بالفكر اليوناني، ويمكن اعتبار أن تطوير آليات النظر والتفكير التي تتحكم في ثنائية العقل والنقل، كانت على أيدي الجويني والغزالي والرازي ، حيث تم تجاوز الشطحات الفلسفية والأطروحات الإغريقية، إلى نظرية متكاملة في المعرفة والوجود بتساند النقل والعقل.
ويمكن تحديد العلاقة بين الوحي والعقل في دوائر ثلاث أشار إليها الإمام الغزالي بقوله: «ما لا يعلم بالضرورة ينقسم إلى ما يعلم بدليل العقل دون الشرع، وإلى ما يعلم بالشرع دون العقل، وإلى ما يعلم بهما» [29] فالنقل والعقل لهما وجود معتبر ولكن لكل منهما دور في تحقيق مقاصد الخالق ومقتضى الخطاب الشرعي ، وقد يتكاملان وقد يستقلان، ولكن لا يتخالفان أبدا، وهذا بيان لهذه الدوائر الثلاث.
1 - دائرة التساند والتكامل
وفي هـذه الدائرة يتساند النقل مع العقل ويتكاملان فلا يرى العقل والنقل أحدهما إلا في مرآة الآخر، فالعلاقة بينهما هـنا علاقة تكاملية وتلازمية، ونجد في نصوص الغزالي رؤية واضحة في مواقع النقل والعقل في المنهجية الإسلامية وفي علاقة النقل والعقل القائمة على التساند [ ص: 91 ] والتكامل والتي نراها تمثل التيار التوفيقي المعتدل والمتزن، حيث تجاوز الأطروحات الفلسفية والصوفية والباطنية في التعامل مع النقل والعقل، ذلك أن الغزالي «قد استوعب في تجربته الثقافية كل المحصول الفكري للمتقدمين من فلاسفة ومتكلمين وأصوليين وصوفية، وعاصر كل الاتجاهات الكلامية والفلسفية والصوفية والباطنية» [30] ، يقول الغزالي : «فقد تناطق قاضي العقل، وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع، وهو الشاهد المزكي المعدل، ... وسعى العقل الذي هـو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة، وحامل الأمانة»[31] .
فالعقل عند الغزالي حاكم لا يعزل ولا يبذل وهو شاهد على الشرع. ويقول: «أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هـذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هـو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، وهو لا مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد» [32] . فالغزالي «قد جعل كلا من العقل والنقل لا يرى أحدها ذاته إلا في مرآة الآخر، إن الوحي لا يخاطب إلا بالعقل، وبانعدام العقل أو غيابه يفقد الوحي معناه، وكذلك العقل عندما ينتهي إلى السؤال الذي لا سؤال قبله، لا يجد النور إلا في الوحي» [33] . [ ص: 92 ] فالعلاقة بين العقل والنقل قائمة على التكامل وانتفاء المعاندة بينهما، ويوضح الإمام الغزالي هـذه العلاقة بقوله: «واطلعوا على طريق التلفيق بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول، وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول» [34] . فالعلاقة بينهما علاقة تكاملية تلازمية، لا تقوم على التنافي والتضاد وإلا كان الشذوذ والتطرف، فهما كالطائر الذي يحلق في السماء لا يستقيم له طيران بجناح، وإن اعتل أحدهما أعوج الطائر.
أما عند تعارض العقل والنقل فـ «ما قضى العقل استحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشتمل السمع على قاطع مخالف للمعقول، وظواهر التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع بل هـو قابل للتأويل» [35] . فالغزالي يجعل لكل من العقل والنقل مجالا، فقد يقتضي النظر إعمال النقل حصرا، وقد يقتضي النظر إعمال العقل حصرا، وقد يقتضي النظر إعمالهما معا. وإن كان الغزالي يقول بتقديم العقل على النقل عند التعارض، ذلك أنه لا يتصور أن يشتمل السمع على نص قاطع مخالف لما عليه موجبات العقول. وتقديم الغزالي للعقل هـنا ليس تحكما في النص بقدر ما هـو إعمال له، وتكييف له ليخرج من الضيق الذي قد يكتنفه، والتعارض الذي يعيشه، وعادة ما يكون هـذا محصورا في جانب [ ص: 93 ] الاعتقادات في باب الصفات الخبرية. «فالعقل سراج ولا بد له من زيت هـو الوحي، والوحي بذاته هـو زيت ذلك السراج، لا بد له من سراج ليضيء به، فكلاهما مفتقر إلى الآخر، وبهذه العبارة الجامعة وهي أن العقل شرع في داخل، والشرع عقل من خارج يختصر الموقف التوفيقي بين النقل والعقل في معادلة دقيقة تبدو لأول وهلة مجرد لعب لفظي، ولكنها عند التأمل تختزل تجربة عالم انصهرت في عقله شريعة العقل، وعقلانية النقل، على نحو جدلي بالمعنى التكاملي والتفاعلي، لا بالمعنى الحجاجي والتعاندي» [36] .
وسبب الإشكال بين النقل والعقل في أساسه يرجع إلى جملة حيثيات يمكن تلخيصها في نقاط مهمة هـي:
1 - حين يكون المنقول مناقضا للسنن الكونية ومبادئ العقول وثمرات التجارب الحسية المتكررة.
2 - حين يكون المنقول مما يفوق مدارك العقول، ولا يخضع لتجربة ولا تدركه بديهة، فهو يشك فيه ويماري في شأنه.
3 - حين يكون المنقول عريا من صفات الإثبات، كأن يكون مجرد ظني أو نحو ذلك، فهو يطالب بدلائل الإثبات فيه.
4 - حين تكون القضايا ونقيضها متكافئين في الأدلة والإثبات فهو يبحث عن الترجيح. [ ص: 94 ] وهذه الحيثيات جميعها تعود بالنسبة لموقف العقل منها إلى أوضاع ثلاثة: وهي:
أ - الوضع الذي يكون عليه خبر النقل مناقضا لنظام العلية.
ب – الوضع الذي يكون عليه النقل ذا مضمون يفوق العقل، ولا يملك دليلا يمنعه من الوقوع.
ج - الوضع الذي يكون عليه النقل قابلا للشك في وسائل الإثبات أو قابلا للقضية ونقيضها على سبيل تكافؤ الأدلة السمعية بالنسبة لهذه أو تلك أو قابلا لأكثر من تأويل.
وهكذا يجادل العقل النقل إما في منهج الإثبات، وإما في طبيعة القضية بعد إثباتها، وإما في تأويلها إذا كانت قضية لغوية أي نصا من النصوص [37] .
2- دائرة اختصاص النقل
يمكن تحديد دائرة اختصاص النقل في أمور هـي:
- أمور العقائد ومسائلها، المتعلقة بالألوهية والنبوات والسمعيات والغيبيات وما وراء الطبيعة ومتعلقاتها على وجه العموم.
- أصول الأحكام والشرائع، ومبادئها وقواعدها ومقاصدها التي تحدد قواعد الاجتماع البشري وضوابط سيره والقيم العليا وأحكام الخير والفضيلة والشر والرذيلة وقواعد السلوك الإنساني الذي يحقق مبدأ الاستخلاف المنشود. [ ص: 95 ]
3 - دائرة اختصاص العقل
أشرنا سابقا إلى دائرة اختصاص العقل عند الحديث عن مجال الحاكمية العقلية ، وحدد مجال الحاكمية العقلية النظر في الكون المنظور والنظر في الوحي المقروء، وفضلا عن ذينك فإن للعقل مجالا آخر قد يستقل بدركه ويختص ببحثه.
- إثبات حدوث العالم ووجوب المحدث، وصفاته وخصائصه، وهذا مما يستقل العقل ببحثه استقلالا، إذ لا تؤسس على النقل، وإنما يأتي النقل مؤكدا وموافقا وشاهدا على ذلك.
- لا خلاف بين المعتزلة وأهل السنة في أن العقل يدرك بذاته دون سابق بيان، فـ « الحسن والقبح قد يراد بهما ملاءمة الطبع ومنافرته، وقد يراد بهما صفة كمال أو نقصان، وهما بهذا المعنى مما يحكم العقل بهما عند الكل» [38] . يقول الرازي : «الحسن والقبح قد يعني بهما كون الشيء ملائما للطبع أو منافرا، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين، وقد يراد بهما كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص، ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين» [39] . وعليه يمكن ملاحظة قسمين محل اتفاق بين الكل، هـما: [ ص: 96 ] 1- ملاءمة الغرض للطبع ومنافرته، فما كان موافقا للعقل فهو حسن، وما كان منافرا فهو قبيح، ومثال ذلك: حلاوة الحلو، ومرارة المر.
2- كون الشيء صفة كمال أو صفة نقصان، فالأول مثل الصدق، والثاني مثل الكذب.
ومحل النزاع بين المعتزلة وغيرهم كون الفعل متعلق المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا، وهما بهذا المعنى عند الأشاعرة شرعيان. [40] أما المعتزلة فمنه ما هـو عقلي عندهم، ومنه ما هـو شرعي.
1- ما يستقل العقل بدركه:
وهو عند المعتزلة على قسمين:
أولا: ما يستقل العقل بدركه ضرورة من غير نظر، كشكر المنعم، ورد الوديعة، والصدق النافع، وقبح الكذب الضار، والظلم، وتكليف ما لا يطاق، وإنقاذ الغرقى والهلكى، حيث اعتبروا أن هـذه من القضايا العقلية الكلية وليست نظرية، وإلا تعذر حصولها للعوام حيث ليس لهم أهلية النظر، فتكون من القضايا العقلية التي تضطر العقول إلى الحكم بها. ومن ناحية أخرى فإن الكفار وغيرهم مع إنكارهم للشرائع وردهم لأحكامها يحكمون بذلك، فعلم أن العقلاء متفقون على حسن هـذه الأمور، وأنها مدركة من جهة العقل لا من جهة الشرع. [ ص: 97 ]
ثانيا: ما يستقل العقل بدركه عن طريق النظر، كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع.
2- ما لا يستقل العقل بدركه:
وهو الشرعي، حيث إن طريق العلم بذلك هـو ورود السمع، ومثاله: حسن صوم آخر يوم من رمضان، وقبح صوم اليوم الذي بعده، فلولا اختصاص كل واحد منهما بما لأجله حسن وقبح، وإلا لامتنع ورود الشرع به. [41] [ ص: 98 ]