الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجوزية [الجزء الثاني]

      الأستاذ الدكتور / مفرح بن سليمان القوسي

      المبحث الثاني: العبودية الخالصة لله تعالى

      لا بد للسالك أن يحقق العبودية التامة لله تعالى بأن تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته وجميع أعماله لله لا شريك له، وأن يفرغ قلبه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله وحده، فإذا حقق ذلك قرب من الله وغمره سبحانه بالرحمة والسعادة وأفاض عليه العلم،

      يقول سبحانه عن موسى وفتاه: ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) (الكهف:65) .

      يقول ابن القيم عن إخلاص العبادة لله: «هو الغاية التي شمر إليها السالكون، وأمها القاصدون، ولحظ إليها العاملون...، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: «من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية». وقال بعض العارفين: «لا طريق أقرب إلى الله من العبودية» [1] .

      ويقول أيضا: لا بد للسالك من «تكميل عبودية الله عز وجل في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله. وكمال عبودية العبد: موافقته لربه في محبته ما أحبه، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه. وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة، فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل. [ ص: 14 ] وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهـود خاص فيها مطـابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له، فإنه بحسب مخالفته له في ذلك يقع الانحراف، ويكون ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم، وهذا الدرب طريق آمن أكثر السالكين في غفلة عنه، وهو أيضا طريق سهل قريب موصل، ولكنه يستدعي رسوخا في العلم ومعرفة تامة به وإقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله. وليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم، ثم لإحسان ظنهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم ولم يتجاوزوها فصارت حجابا لهم، وأي حجاب.

      فمن فتح الله عليه بصيرة قلبه وإيمانه حتى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل فقد أوتي خيرا كثيرا، ولا يخاف عليه إلا من ضعف همته. فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية فذاك السابق حقا، واحد الناس في زمانه، لا يلحق شأوه غباره، فشتان ما بين من يتلقى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضـاع الاصطـلاحية والرسوم أو عن مجرد ذوقه ووجده، إذا استحسن شيئا قال: هذا هو الحق.

      فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب، وفتحه عجب، صاحب قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود ولا مشتت عن وطنه ولا مشرد عن سكنه:

      ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) (النمل:88) » [2] . [ ص: 15 ] ويعقد في كتابه «مدارج السالكين» فصلا في «لزوم إياك نعبد لكل عبد إلى الموت»، يقول فيه: «قال الله تعالى لرسوله: ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) (الحجر:99) ؛

      واليقين هـاهنا: الموت بإجماع أهل التفسير...، فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان: من كان يعبد؟، وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ويلتمسان منه الجواب. وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود، فيسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا» [3] .

      ويبين ابن القيم قيمة «العبودية الخالصة لله»، وقدرها، فيقول: «جميع الرسل إنما دعوا إلى: ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ؛ فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته، من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه: ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (الأعراف:59) ؛

      وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم.

      قال تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (النحل:36) ؛

      وقال: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (الأنبياء:25) ؛ وقـال تعـالى: ( يا أيها الرسل كلوا [ ص: 16 ] من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون:51-52) .

      والله تعالى جعل «العبودية» وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه،

      فقال: ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ) (النساء:172) ؛

      وقال: ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) (الأعراف:206) ...؛

      وقـال تعالـى: ( واذكر عبدنا داود ) (ص:17) ؛

      وقال: ( واذكر عبدنا أيوب ) (ص:41) ؛

      وقال: ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) (ص:45) ؛

      وقال عن سليمان: ( نعم العبد إنه أواب ) (ص:30) ،

      وقال عن المسيح: ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ) (الزخرف:59) ،

      فجعل غايته العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى، ووصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منـزلة بالعبودية في أشرف مقاماته،

      فقال تعالى: ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) (البقرة:23) ؛

      وقال تبارك وتعالى: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ) (الفرقان:1) ؛

      وقال: ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) (الكهف:1) ؛

      فذكره بالعبودية في مقام إنـزال الكتاب عليه، وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله،

      وقال: ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) (الجن:19) ، [ ص: 17 ] فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه،

      وقال: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) (الإسراء:1) ؛

      فذكره بالعبودية في مقام الإسراء...

      وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده،

      فقال تعالى: ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) (الزمر:17-18) ؛

      وجعل الأمن المطلق لهم،

      فقال تعالى: ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ) (الزخرف:68-69) ؛

      وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة، وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به،

      فقال: ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) (الحجر:42) ؛

      وقال: ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) (النحل:99-100) .

      وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين، وهو الإحسان، فقال في حديث جبريل -وقد سأله عن الإحسان-: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) [4] [5] .

      والعبودية المطلوبة هنا: عبودية الطاعة والمحبة، لا عبودية القهر والملك والغلبة. ذلك أن العبودية في نظر ابن القيم نوعان: عبودية عامة، وعبودية خاصة. [ ص: 18 ]

      «فالعبودية العامة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك،

      قال تعالى: ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) (مريم:88-93) ،

      فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.

      والعبودية الخاصة: عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر،

      قال تعالى: ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) (الزخرف:68) ؛

      وقال: ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) (الزمر:17-18) ؛

      وقال: ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) (الفرقان:63) ...

      فالخلق كلهم عبيد ربوبيته. وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته.

      ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء. وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه:

      الأول: إما منكرا،

      كقوله: ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) (مريم:93) . [ ص: 19 ] والثاني: معرفا باللام، كقوله: ( إن الله قد حكم بين العباد ) (غافر:48) .

      الثالث: مقيدا بالإشارة ونحوها، كقوله: ( أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ) (الفرقان:17) .

      الرابع: أن يذكروا في عموم عباده، فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر، كقوله: ( أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) (الزمر:46) .

      الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم، كقوله: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) ( الزمر:53) .

      وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة، لأن أصل معنى اللفظة: الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، إذا كان مذللا بوطء الأقدام.

      وفلان عبده الحب، إذا ذللـه. لكن أولياء الله خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا وانقيادا لأمره ونهيه. وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما» [6] .

      وللعبودية -عند ابن القيم- مراتب بحسب العلم والعمل.

      «أما مراتبها بحسب العلم فمرتبتان:

      إحداهما: العلم بالله.

      والثانية: العلم بدينه. [ ص: 20 ] والعلم بالله سبحانه خمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنـزيهه عما لا يليق به.

      والعلم بدينه مرتبتان:

      إحداهما: دينه الأمري الشرعي، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.

      والثانية: دينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه. وقد دخل في هذا العلم: العلم بملائكته وكتبه ورسله.

      وأما مراتب العبودية بحسب العمل فمرتبتان:

      - مرتبة لأصحاب اليمين.

      - ومرتبة للسابقين المقربين.

      أما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع فعل المباحات وبعض المكروهات، وترك المستحبات.

      وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره.

      وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة. ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات، وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات.

      ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله» [7] . [ ص: 21 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية