الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فقه التنزيل عند الإمام ابن تيمية

الأستاذة / جميلة حسن تلوت

المطلب الثالث: تأصيل اعتبار مآلات الأفعال:

ثبت بالاستقراء أن الشريعة إنما وضعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل، كما ثبت أن الله سبحـانه اعتبر المسببات وبين الغايات المقصـودة من تشريع الأحكام، مما يدل أن المآلات معتبرة لاعتبار الشارع الحكيم لها، يقول الإمام ابن تيمية: "إن الله شرع أسبابا تفعل لتحصيل مقاصـد، كما شرع العبادات من الأقوال والأفعال لابتغاء فضله ورضوانه، وكما شرع عقد البيع لنقل الملك بالعوض، وعقد القرض لإرفاق المقترض، وعقد النكاح للازدواج والألفة بين الزوجين، والخلع لحصول البينونة المتضمنة افتداء المرأة من رق بعلها، وغير ذلك" [1] .

- الأدلة من القرآن الكريم:

وقد جاء في القرآن الكريم تعليل بعض الأحكام بما تؤول إليه مع بيان العاقبة والجزاء، من ذلك قوله سبحانه: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) (البقرة:179).

فكان لهم بهذه المقاصة حياة من الفتن التي توجب هلاكهم [2] ، يقول العز بن عبد السلام: "قتل الجاني مفسدة بتفويت حياته، لكنه جاز لما فيه من حفظ حياة الناس على العموم" [3] . [ ص: 114 ]

فهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة [4] .

قوله تعالى: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) )البقرة:216)

فوجه الاستشهاد أن الله سبحانه "أمر بالجهاد وهو مكروه للنفوس، لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه، بمنـزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية، فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء الكريه" [5] .

كما أنه سبحانه منع الفعـل لما يؤول إليه من الوقـوع في المحظور، مع أن الأصـل في ذلك الفعـل أنه مشروع، من ذلك قولـه تعالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) (الأنعام:108).

وجه الاستشهاد: أن الله سبحانه حرم سب الآلهة مع أنه عبادة، لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا آلهتهم [6] . [ ص: 115 ]

وكذلك قوله عز من قائل: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) (البقرة: 104).

فالله سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا؛ مع قصدهم الصالح، لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا [7] .

ومن ذلك قوله تعالى: ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) (الإسراء:110).

فوجه الاستشهاد أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن أنزل عليه ومن جاء به [8] .

كما جاء في القرآن الكريم منع الفعل المباح إذا قصد به التوصل إلى محظـور، ذلك أن الله سبحـانه إنمـا أباح تعـاطي الأسباب لمن يقصد بها الصلاح [9] ، من ذلك قوله جل جلاله: ( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ) ولا يستثنون ( فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم * فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم [ ص: 116 ] صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * وغدوا على حرد قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضالون ) (القلم:17-26).

فجذاذ النخل عمل مباح في أي وقت شاء صاحبه، ولما قصد أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله عز وجل بإهلاكه [10] .

وكذلك قوله تعالى: ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) (النساء:12)، فالله سبحانه إنما أباح تعاطي الأسباب لمن يقصد بها الصلاح، فأباح الوصية إذا لم يكن فيها ضرار الورثة قصدا أو فعلا [11] .

- الأدلة من السنة النبوية:

المتفحص لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى - وبجلاء- اعتباره لمآلات الأفعال، وهذا طبيعي فهو خير من نزل الأحكام على الواقع.

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها ) [12] ، فحتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها لم يجز ذلك، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان، لأن الطبائع تتغير، فتكون بذلك ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة [13] . [ ص: 117 ]

ومن الأحـاديث الدالـة على اعتبـاره صلى الله عليه وسلم تلك التي منع فيها الفعل لما يؤول إليه من الوقوع في محظور نحو قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه ) [14] . قال الإمام ابن تيمية: "قد يكون نهيه سدا للذريعة، لأن البول ذريعة إلى تنجيسه، فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول" [15] ، وقال: "ولأن فتح هذا الباب يفضي إلى كثرة البول فيغيره" [16] .

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ) [17] .

فمن حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها [18] .

ومن الأحاديث الدالة على اعتباره صلى الله عليه وسلم للمآل، قوله صلوات ربي عليه: ( لا تقطع الأيدي في الغزو ) [19] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحدود بدار الحرب، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار [20] . [ ص: 118 ]

ومن الأحاديث المندرجة ضمن هذا الباب تلك التي ترك فيها الفعل المطلوب لما يؤول إليه، نحو قوله صلى الله عليه وسلم لعمر، رضي الله عنه، لما قال له: يارسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم : ( دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) [21] ، فوجه الاستشهاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام [22] .

فهذه بعض الأحاديث، ولو تم تتبع كل الأحاديث ما كانت الاستطاعة إلى ذلك سبيلا.

التالي السابق


الخدمات العلمية