الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وقد روى الزهري عن عروة عن عائشة { أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لا هدي له بفسخ الحج } وأنهم فسخوه ، ولا يعدل أبو الأسود بالزهري - : روينا من طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث هو ابن سعد - عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر في صفة حجة [ ص: 96 ] النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس { : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة - ويقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله } ; قال الزهري عن عروة : إن عائشة أخبرته ( عن النبي صلى الله عليه وسلم ) في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل ما أخبر به سالم عن أبيه .

                                                                                                                                                                                          ورواه أيضا عن عائشة من لا يذكر معه يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب وهم : القاسم بن محمد بن أبي بكر ; والأسود بن يزيد ، وذكوان مولاها وكان يؤمها ، وعمرة بنت عبد الرحمن ، وكل واحد من هؤلاء أخص بعائشة وأعلم وأضبط وأوثق من يحيى بن عبد الرحمن - : روينا من طريق مسلم حدثني سليمان بن عبيد الله الغيلاني نا أبو عامر عبد الملك بن عمر العقدي نا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه { عن عائشة أم المؤمنين قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث : وفيه فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه الهدي ، فكان الهدي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، وذوي اليسارة ثم أهلوا حين راحوا } .

                                                                                                                                                                                          ويكفي من كل هذا أن هذه الأخبار الثلاثة من طريق أبي الأسود ، ويحيى بن عبد الرحمن إنما هي موقوفة لا مسندة ، ولا حجة في موقوف فكيف إذا روى بضعة وعشرون من التابعين عن خمسة عشر من الصحابة خلاف ذلك ؟ وأسلم الوجوه لحديثي أبي الأسود ، وحديث يحيى بن عبد الرحمن أن يخرج على أن المراد بقولها : إن الذين أهلوا بحج ، أو حج وعمرة لم يحلوا إلى يوم النحر إنما كانوا من كان معه هدي فأهل بهما جميعا أو أضاف العمرة إلى الحج كما روى مالك عن [ ص: 97 ] الزهري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فتخرج حينئذ هذه الأخبار سالمة لأن ما روته الجماعة عنها فيه زيادة لم يذكرها أبو الأسود ، ولا يحيى بن عبد الرحمن لو كان ما رويا مسندا فكيف وليس مسندا ؟ ونحمل حديث أبي الأسود عن عروة في حج أبي بكر ، وعمر ، وسائر من ذكرنا على أنهم كانوا يسوقون الهدي فتتفق الأخبار .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا أيضا بنهي عمر ، وعثمان عن ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا عليهم لا لهم لأنه إن كان نهيهما رضي الله عنهما حجة فقد صح عنهما النهي عن متعة الحج ، وهم يخالفونهما في ذلك - : نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد الصائغ نا سعيد بن منصور نا هشيم ، وحماد بن زيد قال هشيم : أنا خالد هو الحذاء - وقال حماد : عن أيوب السختياني ثم اتفق أيوب ، وخالد كلاهما عن أبي قلابة قال : قال عمر بن الخطاب : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما وأضرب عليهما ; هذا لفظ أيوب ; وفي رواية خالد : أنا أنهي عنهما ، وأعاقب عليهما : متعة النساء ، ومتعة الحج .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى سعيد بن منصور نا هشيم أنا عبد الله بن عون عن القاسم بن محمد : أن عثمان نهى عن المتعة - يعني متعة الحج - وبه إلى سعيد بن منصور نا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبد العزيز بن نبيه عن أبيه أن عثمان بن عفان سمع رجلا يهل بعمرة وحج فقال : علي بالمهل ; فضربه وحلقه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهم يخالفونهما ويجيزون المتعة حتى أنها عند أبي حنيفة ، والشافعي أفضل من الإفراد ، فسبحان من جعل نهي عمر ، وعثمان رضي الله عنهما عن فسخ الحج حجة ولم يجعل نهيهما عن متعة الحج وضربهما عليها حجة إن هذا لعجب فإن قالوا : قد أباحها سعد بن أبي وقاص وغيره ؟ قلنا : وقد أوجب فسخ الحج ابن عباس وغيره ولا فرق - : واحتجوا بما رويناه أيضا من طريق البزار نا عمر بن الخطاب السجستاني نا [ ص: 98 ] الفريابي نا أبان بن أبي حازم حدثني أبو بكر بن حفص عن ابن عمر عن عمر قال : يا أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي ذر كانت المتعة في الحج رخصة لنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعن عثمان : كانت متعة الحج لنا ليست لكم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا كله خالفه الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون ، لأنهم متفقون على إباحة متعة الحج - وأما حديث عمر فإنما هو في متعة النساء بلا شك ، لأنه قد صح عنه الرجوع إلى القول بها في الحج ; وهؤلاء مخالفون لهذا الخبر إن كان محمولا عندهم على متعة الحج .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق شعبة عن سلمة بن كهيل عن طاوس عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب : لو اعتمرت في سنة مرتين ثم حججت لجعلت مع حجتي عمرة .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق سفيان عن سلمة بن كهيل عن طاوس عن ابن عباس عن عمر بمثله - ورويناه أيضا من طرق .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بما رويناه أيضا من طريق المرقع عن أبي ذر أنه قال : كان فسخ الحج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا خاصة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان أو سليم بن الأسود أن أبا ذر قال فيمن حج ثم فسخها عمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ومن طريق موسى بن عبيدة عن يعقوب بن زيد عن أبي ذر قال : لم يكن لأحد بعدنا أن يجعل حجته عمرة إنما كانت لنا رخصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : إن لم يكن قول أبي ذر إن متعة الحج خاصة لهم حجة فليس قوله : إن فسخ الحج خاصة لهم حجة ; لا سيما وذلك الإسناد عنه صحيح ; لأنه من رواية إبراهيم التيمي عن أبيه ; وهذه الأسانيد عنه واهية ; لأنها عن المرقع ، وسليمان أو سليم ، وهما مجهولان . وعن موسى بن عبيدة الربذي - وهو ضعيف - فكيف وقد خالفه ابن عباس ، وأبو موسى ؟ فلم يريا ذلك خاصة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 99 ] ولا يجوز أن يقال في سنة ثابتة أنها خاصة لقوم دون قوم إلا بنص قرآن أو سنة صحيحة ; لأن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم على لزوم الإنس ، والجن ، الطاعة لها والعمل بها .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : هذا لا يقال بالرأي ؟ قلنا : فيجب على هذا متى وجد أحد من الصحابة يقول في آية أنها مخصوصة أو منسوخة أن يقال بقوله ; وأقر بذلك قولهم في المتعة : إنها خاصة ، وقد خالفوا ذلك .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بما رويناه من طريق ربيعة الرأي { عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه قلت : يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا ؟ قال : لكم خاصة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد الحارث بن بلال مجهول ولم يخرج أحد هذا الخبر في صحيح الحديث ; وقد صح خلافه بيقين ; كما أوردنا من طريق جابر بن عبد الله { أن سراقة بن مالك قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمرهم بفسخ الحج في عمرة : يا رسول الله ، لعامنا هذا أم لأبد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لأبد الأبد } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية