895 - مسألة :
ومن تطيب ناسيا ، أو تداوى بطيب ، أو مسه طيب الكعبة ، أو مس طيبا لبيع ، أو شراء ، أو لبس ما يحرم على المحرم لباسه ناسيا ، أو لضرورة طال كل ذلك منه ، أو قصر فلا شيء عليه ، ولا يكدح ذلك في حجه ، وعليه أن يزيل عن نفسه كل ذلك ساعة يذكره أو ساعة يستغني عنه ، وكذلك من حلق رأسه ناسيا فلا شيء عليه ، وله أن يحتجم ويحلق مواضع المحاجم ، ولا شيء عليه ، وله أن يدهن بما شاء ، فلو تعمد لباس ما حرم عليه أو فعل ما حرم لغير ضرورة : بطل حجه وإحرامه .
برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } فالمستكره على كل ما ذكرنا والمرأة المكرهة على الجماع لا شيء عليها ، ولا على من أكره على ما ذكرنا ، وحجهم تام ، وإحرامهم تام .
وقال أبو حنيفة : من غطى رأسه ، أو وجهه ، أو لبس ما نهي عامدا ، أو ناسيا ، أو مكرها يوما إلى الليل فعليه دم ، فإن فعل ذلك أقل من يوم فعليه صدقة ، فإن حلق قفاه للحجامة فعليه دم ، فإن حلق بعض عضو فعليه صدقة .
وقال مالك : من فعل شيئا من ذلك فأماط به عن نفسه أذى فعليه الفدية التي على من حلق رأسه ، ولا يحتجم إلا من ضرورة ، فإن حلق مواضع المحاجم فعليه الفدية .
وقال الشافعي : لا شيء في النسيان في كل ذلك إلا في حلق الرأس فقط ففيه الفدية - قال : ولا يحلق موضع المحاجم ، ولم يذكر في ذلك فدية .
قال أبو محمد : أما أقوال أبي حنيفة فظاهرة الفساد والتناقض ولا نعلمها عن أحد قبله ، ولا دليل على صحة شيء منها لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ; لأن تفريقه بين ذلك يوما أو أقل من يوم : دعوى فاسدة .
وقال بعضهم : هذا هو المعهود من لباس الناس .
قال علي : كذب في ذلك بل قد قال الله تعالى : { وحين تضعون ثيابكم من [ ص: 292 ] الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء } فأخبر تعالى أن اللباس لا يقل في النهار بل قد يوضع للقائلة ، وأخبر أن اللباس يقل إلى بعد صلاة العشاء وقد يكون إلى نصف الليل .
فإن ذكروا ما روي عن ابن عباس ، والنخعي ، أن من ترك من نسكه شيئا فليرق دما ؟ قلنا : أنتم أول من خالف ذلك لأنكم تجعلون في أكثر ذلك صدقة لا دما ; ولا عجب أعجب ممن يحتج بشيء يراه حقا ، ثم هو أول مخالف له .
وأما قول مالك فإنه قياس والقياس كله باطل ، ولو كانت إماطته الأذى بغير حلق الرأس توجب الفدية لأوجب الفدية : البول ، والغائط ، والأكل ، والشرب ، والغسل للحر والتروح ، والتدفؤ للبرد ، وقلع الضرس للوجع ، فكل هذا إماطة أذى .
فإن قالوا : قد أجمع الناس على إسقاطه الفدية في أكثر من ذلك ؟ قلنا : حسبنا وإياكم إقراركم بصحة الإجماع على إبطال علتكم ، وعلى أنه ليس كل إماطة أذى تجب فيه فدية ، وإلزام الصيام والصدقة والهدي شرع لا يجوز إلزامه أحد حيث لم يلزمه الله تعالى ولا رسوله عليه السلام .
فإن ادعوا إجماعا كذبوا ; لأنهم لا يقدرون على أن يوردوا في ذلك قول عشرة من صاحب ، وتابع في ذلك مع اختلافهم في أقوالهم .
وأما الشافعي فإنه احتج له مقلده بأن كل من ذكرنا يقدر الناس على إزالته عن نفسه إلا حلق الشعر فلا يقدر على إنباته ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ وأي شيء في هذا مما يوجب الفدية ؟ وهل زدتم إلا دعوى لا برهان لها ؟ [ ص: 293 ] وروينا من طريق نافع أن ابن عمر كان يأكل الخبيص الأصفر وهو محرم - يعني المزعفر .
ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن فيه طيب .
ومن طريق شعبة عن شميسة الأزدية أن عائشة أم المؤمنين قالت لها : اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة ، ونحن نكرهه .
ومن الخلاف في ذلك - : ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي نا يزيد بن إبراهيم عن قتادة : أن عبد الرحمن بن أبي بكر أمر امرأة محرمة اكتحلت بإثمد أن تهرق دما .
ومن طريق سعيد بن منصور نا مروان هو ابن معاوية الفزاري - نا صالح بن حي قال : رأيت أنس بن مالك أصاب ثوبه خلوق الكعبة فلم يغسله - وكان محرما - وعن عطاء ، وسعيد بن جبير مثله سواء سواء .
ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن أبي الزبير عن جابر : إن شم المحرم ريحانا ، أو مس طيبا : أهرق دما .
وقد روينا من طريق عائشة أم المؤمنين { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم } .
ومن طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء ، وطاوس عن ابن عباس { أن النبي عليه السلام احتجم وهو محرم } .
ومن طريق مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة نا المعلى بن منصور نا سليمان بن بلال عن علقمة بن أبي علقمة عن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بحينة قال { احتجم رسول الله عليه السلام بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه } .
قال أبو محمد : لم يخبر عليه السلام أن في ذلك غرامة ولا فدية ولو وجبت لما [ ص: 294 ] أغفل ذلك ، { وكان عليه السلام كثير الشعر أفرع وإنما نهينا عن حلق الرأس في الإحرام } والقفا ليس رأسا ولا هو من الرأس .
فإن ذكروا ما روينا عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أمر محرما احتجم أن يفتدي بصيام ، أو صدقة ، أو نسك ; فإن اضطر إلى ذلك فلا شيء عليه ; فهذا عليهم ; لأنهم خالفوه في موضعين - : أحدهما :
أنه أوجب الدم ولم يشترط إن حلق لها شعرا . والثاني :
أنه لم يوجب شيئا على من اضطر إليها - وهم لا يقولون بهذا .
وروينا عن مسروق أنه قال : يحتجم المحرم ، ولا يحتجم الصائم ، ولم يشترط ترك حلق القفا .
وعن طاوس يحتجم المحرم إذا كان وجعا وما نعلم من أوجب في ذلك حكما من التابعين إلا الحسن فإنه قال : من احتجم وهو محرم أراق دما .
وعن إبراهيم ، وعطاء : إن حلق مواضع المحاجم فعليه كفارة .
وأما الادهان - : فروينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن أشعث بن سليم وهو ابن أبي الشعثاء - عن مرة بن خالد قال : رآنا أبو ذر ونحن محرمون فقال : ادهنوا أيديكم .
وصح عن ابن عمر أنه كره أن يعالج المحرم يديه بالدسم ، وأن يدهن بالسمن رأسه لصداع أصابه ولم يجعل في ذلك شيئا .
وروينا عن عطاء : من تداوى بدواء فيه طيب فعليه الكفارة ولا بأس بالأدهان الفارسية .
وعن إبراهيم : في الطيب الفدية .
وعن مجاهد : إذا تداوى المحرم بالسمن ، أو الزيت ، أو البنفسج فعليه الكفارة .
وعن الحجاج بن أرطاة : كان الحكم ، وأصحابنا يقولون في المحرم يداوي قروحا برأسه وجسده : إن عليه كفارتين .
وأما اللباس ناسيا - : فعن عطاء في المحرم يغطي رأسه ناسيا لا شيء عليه فإن [ ص: 295 ] لبس قميصا ناسيا فلا شيء عليه وليستغفر الله تعالى ; فإن تعمد ذلك فالكفارة .
وعن حماد بن أبي سليمان بمثله لا شيء في ذلك على الناسي .
وعن مجاهد ، وسعيد بن جبير : أنهما أجازا للمحرم أكل الطعام ، وفيه الزعفران - وكرهه عطاء ، وأخبر أنه لا يأثر قوله عن أحد .
وعن طاوس ، وعطاء : إباحة الخبيص المزعفر للمحرم .
ومثله عن الحسن ، وإبراهيم النخعي ، وجابر بن زيد ، ومحمد بن علي .
وعن إبراهيم ، وعطاء ، والحسن ، في لباس القميص ، والقلنسوة ، والخفين للمحرم أنه يهرق دما - : وهذه كلها أقوال مخالفة لأقوال أبي حنيفة ، ومالك .
قال أبو محمد : وأما من تعمد ما حرم عليه فقد فسق ، والفسوق يبطل الحج كما قدمنا - وبالله تعالى التوفيق .


