ص ( باب يرفع الحدث وحكم الخبث بالمطلق وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد )
ش : الباب في اللغة المدخل وفي اصطلاح العلماء اسم لطائفة من المسائل مشتركة في حكم وقد يعبر عنه بالكتاب أو بالفصل وقد يجمع بين الثلاثة فيقدم الكتاب ثم الباب فيزاد في تعريف الكتاب ذات أبواب وفي تعريف الباب ذات فصول أو يجمع بين اثنين منها بحسب الاصطلاح والكتاب يفصل بالأبواب أو بالفصول والباب بالفصول ولم يستعملوا تفصيل الباب بالكتب والفصل بالأبواب والكتاب في اللغة المكتوب كالرهن بمعنى المرهون قال أبو حيان : ولا يصح أن يكون مأخوذا من الكتب لأن المصدر لا يشتق من المصدر ، .
والفصل في اللغة القطع وهو خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب كذا والمصنف - رحمه الله - يجعل الأبواب مكان الكتب كما في المدونة وغيرها ويحذف في التراجم التي تضاف إليها الأبواب اختصارا واكتفاء بفهمها من المسائل المذكورة في الباب ، وحكمة تفصيل المصنفات بالكتب والأبواب والفصول تنشيط النفس وبعثها على الحفظ والتحصيل بما يحصل لها من السرور بالختم والابتداء ومن ثم كان القرآن العظيم سورا والله أعلم . وفي ذلك أيضا تسهيل للمراجعة والكشف عن المسائل وكذا فصل صاحب المدونة وغيره من المتقدمين ما كثرت مسائله وتوسطت إلى كتابين وما طالت إلى ثلاثة كتب والترجمة المضاف إليها الباب هنا الطهارة وهي بالفتح لغة النزاهة والنظافة من الأدناس والأوساخ .
وتستعمل مجازا في التنزيه عن العيوب وتطلق في الشرع على معنيين : أحدهما الصفة الحكمية القائمة بالأعيان التي توجب لموصوفها استباحة الصلاة به أو فيه أوله كما يقال هذا الشيء طاهر وتلك الصفة الحكمية التي هي الطهارة الشرعية هي كون الشيء تباح ملابسته في الصلاة والغذاء ، والمعنى الثاني رفع الحدث وإزالة النجاسة كما في قولهم : الطهارة واجبة وفي كلام القرافي أن المعنى الأول حقيقة والثاني مجاز فذلك عرفها ابن عرفة بقوله صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أوله فالأوليان من خبث والأخيرة من حدث انتهى ، ويقابلها بهذا المعنى النجاسة ولذلك عرفها ابن عرفة : بأنها صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة به أو فيه انتهى ، فتلك الصفة الحكمية التي هي النجاسة شرعا هي كون الشيء تمنع ملابسته في الصلاة والغذاء .
فإذا أطلقنا على المعفو عنه من النجاسات أنه نجس فذلك مجاز شرعي تغليبا لحكم جنسها عليها قاله في الذخيرة ثم اعترض ابن عرفة على من عرف الطهارة بالمعنى الثاني فقال : وقول المازري وغيره : الطهارة إزالة النجس [ ص: 44 ] أو رفع مانع الصلاة بالماء أو في معناه إنما يتناول التطهير والطهارة غيره لثبوتها دونه فيما لم يتنجس وفي المطهر بعد الإزالة ، .
( قلت ) : قد يقال إن تعريف المازري وغيره الطهارة بحسب المعنى الثاني أولى لأن المراد الواجبة المكلف بها والمكلف به إنما هو رفع الحدث وإزالة النجاسة لا الصفة الحكمية وفي قول تعريف الطهارة القرافي أنه مجاز نظر .
بل الظاهر أنه حقيقة أيضا فلفظ الطهارة مشترك في الشرع بين المعنيين فالأحسن التعرض لبيان كل منهما فإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على المعنى الثاني أولى لأنه هو الواجب المكلف به والله أعلم . ومعنى قوله حكمية أنها يحكم بها ويقدر قيامها بمحلها وليست معنى وجوديا قائما بمحله كالعلم للعالم وقوله به أي بملابسته فيشمل الثوب وبدن المصلي والماء وكل ما يجوز أن يلابسه المصلي ولا تبطل صلاته بملابسته إياه فاندفع ما أورد عليه من أنه لا يشمل طهارة الماء المضاف ، وقوله فيه يريد به المكان ، وقوله له يريد به المصلي وهو شامل بظاهره لطهارة المصلي من الحدث والخبث لكن قوله بعد هذا والأخيرة من حدث يخصه به .
وكذا قوله في حد النجاسة توجب له منع الصلاة به أو فيه ولم يقل أوله وفيه نظر لأنه كما يمنع الحدث الصلاة فكذلك الخبث وإدخال البدن في قوله به بعيد والله أعلم . والطهورية صفة حكمية توجب لموصوفها كونه بحيث يصير المزال به نجاسته طاهرا ، وأما الطهارة بالضم فهي فضلة ما يتطهر به وقدم المصنف كغيره العبادات على غيرها لعموم الحاجة إليها وبدأ بالصلاة لأنها أوكد العبادات وأفضلها بعد الإيمان ولتقدمها على بقية القواعد في حديث { } ما عدا الشهادتين ولم يتكلم بني الإسلام على خمس المصنف وكثير من الفقهاء على الشهادتين لأنهما أفردتا بعلم مستقل وقدم الكلام على الطهارة لأنها أوكد شروط الصلاة التي يطلب المكلف بتحصيلها لسقوط الصلاة مع فقد ما يتطهر به من ماء وصعيد على المشهور .
وبدأ بالكلام على الماء لأن الطهارة المائية هي الأصل ولا تحصل إلا بالماء المطلق فاحتاج إلى تمييزه من غيره ، والحدث بفتحتين وهو في اللغة وجود الشيء بعد أن لم يكن ويطلق في الشرع على أربعة معان : على الخارج المعتاد كما سيأتي إن شاء الله في فصل نواقض الوضوء وعلى نفس الخروج كما في قولهم آداب الحدث ، وعلى الوصف الحكمي المقدر قيامه بالأعضاء قيام الأوصاف الحسية كما في قولهم يمنع الحدث كذا وكذا ، وعلى المنع المرتب على الثلاثة كما في قولهم هنا يرفع الحدث أي المنع المترتب على الأعضاء الوضوء أو الغسل ويصح أن يراد هنا بالحدث المعنى الثابت الذي هو الوصف لأنهما متلازمان فإذا ارتفع أحدهما ارتفع الآخر ولا يقال : لا نسلم أنهما متلازمان فإن لأنه تستباح به الصلاة وغيرها ولا يرفع الوصف القائم بالأعضاء لأن المشهور أنه لا يرفع الحدث فلا تلازم بينهما لأنا نقول : التيمم لا يرفع المنع رفعا مطلقا وإنما هو رخصة فيرفع المنع عما يستباح به على وجه مخصوص وهو عدم الماء فلا يستباح به إلا فريضة واحدة في حال عدم الماء ولو وجد الماء قبل فعل ذلك المستباح عاد المنع ولم يستبح به شيئا فالتيمم رخصة لاستباحة بعض الأشياء التي يمنعها الحدث على وجه مخصوص فالوصف والمنع باقيان . التيمم يرفع المنع
وقد أشار ابن عرفة إلى هذا عند الكلام على النية في الوضوء فتأمله والله أعلم .
وأنكر ابن دقيق العيد المعنى الثالث من معاني الحدث وقال : إنه ذكره بعض الفقهاء وهم مطالبون بدليل شرعي يدل على ثبوته فإنه منفي بالحقيقة والأصل موافقة الشرع لها ويبعد أن يأتوا بدليل على ذلك وأقرب ما يذكر فيه أن الماء المستعمل انتقل إليه المانع كما يقال ثم رد ذلك .
وقال المسألة مختلف فيها فقد قال جماعة بطهورية ولو قيل بعدم طهوريته أو بنجاسته لم يلزم منه انتقال مانع إليه انتهى من [ ص: 45 ] شرح العمدة وأما المعنيان الأولان فلا تصح إرادتهما هذا إذا لم يمكن رفعهما وتجويز ذلك على حذف مضاف أي حكم الحدث كما أشار إلى ذلك الماء المستعمل البساطي ففيه تعسف وتكلف لا يحتاج إليه .
والخبث بفتحتين أيضا وهو النجاسة وإنما قال : حكم الخبث لأن عين النجاسة تزول بغير الماء وأما حكمها وهو كون الشيء نجسا في الشرع لا تباح ملابسته في الصلاة والغذاء فلا يرتفع إلا بالماء المطلق وأما موضع الاستجمار والسيف الصقيل ونحوه إذا مسح والخف والنعل إذا دلكا من أبوال الدواب وأرواثها فالمحل محكوم له بالنجاسة .
وإنما عفي عنه للضرورة خلافا لما قد تعطيه عبارة البساطي وقد عد وغيره موضع الاستجمار وفيما تقدم ذكره في المعفوات ولا ينافي هذا ما تقدم عن ابن الحاجب القرافي أعني قوله أن إطلاق النجاسة على المعفو مجاز لأن ذلك أي إطلاق اسم النجاسة على المعفوات بالنظر إلى أصل معنى النجاسة الحقيقي في الشرع وليس فيه ما ينفي إطلاق النجاسة عليها مطلقا شرعا فتأملته والله أعلم .
ولم يقل المصنف رافع الحدث وحكم الخبث لأن نسبة الرفع للماء مجاز وتصدير الباب بهذه الجملة وسياقها مساق الحد لما يرفع به الحدث وحكم الخبث يفيد الحصر وإن لم يكن في الكلام أداة حصر فكأنه قال : إنما يرفع الحدث .
وحكم الخبث بالماء المطلق فأما رفع الحدث فمتفق عليه بل حكى الغزالي - رحمه الله - الإجماع على ذلك ولكنه نوزع في حكاية الإجماع وأما حكم الخبث فما ذكره هو المشهور في المذهب كما سيأتي بيانه في الكلام على إزالة النجاسة .