الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            القول في ابتداء الخلق ، وما كان أوله واختلفوا هل كان قبل خلق السماوات والأرض شيء مخلوق قبلهما ؟ فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لم يكن قبلهما شيء ، وأنهما خلقتا من العدم المحض . وقال آخرون بل كان قبل السماوات والأرض مخلوقات أخر لقوله تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء . [ هود : 7 ] . الآية . وفي حديث عمران بن حصين كما كان الله ولم يكن قبله شيء ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض . وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي أنه قال : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ، ثم خلق عرشه على الماء . وهو الغمام الذي ذكره الله في قوله : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام .

            قلت -ابن الأثير- هذا فيه نظر ، لأنه قد تقدم أن أول ما خلق الله تعالى القلم ، وقال له : اكتب . فجرى في تلك الساعة . ثم ذكر في أول هذا الفصل أن الله خلق بعد القلم ، وبعد أن جرى بما هو كائن سحابا ، ومن المعلوم أن الكتابة لا بد فيها من آلة يكتب بها ، وهو القلم ، ومن شيء يكتب فيه ، وهو الذي يعبر عنه ههنا باللوح المحفوظ . وكان ينبغي أن يذكر اللوح المحفوظ ثانيا للقلم ، والله أعلم .

            ويحتمل أن يكون ترك ذكره لأنه معلوم من مفهوم اللفظ بطريقة الملازمة . واختلف هؤلاء في أيها خلق أولا ؟ فقال قائلون : خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها ، وهذا هو اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما قال ابن جرير : وبعد القلم السحاب الرقيق واحتجوا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما خلق الله القلم ، ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة . لفظ أحمد ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ، والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمذاني وغيره ; أن العرش مخلوق قبل ذلك . وهذا هو الذي رواه ابن جرير من طريق الضحاك ، عن ابن عباس كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء .

            قالوا : فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير ، وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش ، فثبت تقدم خلق العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير . ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ، ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن عمران بن حصين قال : قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ؟ فقال : كان الله ولم يكن شيء قبله . وفي رواية : معه وفي رواية : غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض . وفي لفظ ثم خلق السماوات والأرض . فسألوه عن ابتداء خلق السماوات والأرض ، ولهذا قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الأمر ، فأجابهم عما سألوا فقط ، ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبي رزين المتقدم . قال ابن جرير : وقال آخرون : بل خلق الله عز وجل الماء قبل العرش رواه السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : إن الله كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، وحكى ابن جرير ، عن محمد بن إسحاق أنه قال : أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة ، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا قال ابن جرير : وقد قيل إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي ، ثم خلق بعد الكرسي العرش ، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة ، ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء . والله سبحانه وتعالى أعلم وقول من قال : إن الماء خلق قبل العرش أولى بالصواب ؛ لحديث أبي رزين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل : إن الماء كان على متن الريح حين خلق العرش ; قاله سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فإنه كان كذلك فقد خلقا قبل العرش .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية