الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ما جرى لمريم مع قومها حين لقوها

            وقوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب ، أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها ، فمروا على محلتها والأنوار حولها ، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها ، فقالوا لها : يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي أمرا عظيما منكرا . وفي هذا الذي قالوه نظر ، مع أنه كلام ينقض أوله آخره ; وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها ، وأتت به قومها وهي تحمله ، قال ابن عباس : وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوما .

            والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال . ثم قالوا لها : يا أخت هارون قيل : شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة ، وكان اسمه هارون . وقيل : شبهوها برجل فاجر في زمانهم ، اسمه هارون . قاله سعيد بن جبير . وقيل : أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة . وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسبا ; فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع ، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه ، وأغرق فرعون وملأه ، فاعتقد أن هذه هي هذه ، وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن كما قررناه في " التفسير " مطولا ، ولله الحمد والمنة . وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هارون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ، ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها . والله أعلم .

            قال الإمام أحمد : وعن المغيرة بن شعبة ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون : يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا . قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم . وفي رواية : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم وذكر قتادة وغيره ، أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهارون ، حتى قيل : إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ، ممن يسمى بهارون ، أربعون ألفا . فالله أعلم .

            والمقصود أنهم قالوا : يا أخت هارون ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هارون ، وكان مشهورا بالدين والصلاح والخير ; ولهذا قالوا :ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا أي : لست من بيت هذا شيمتهم ولا سجيتهم ; لا أخوك ولا أمك ولا أبوك ، فاتهموها بالفاحشة العظمى ، ورموها بالداهية الدهياء ، فذكر ابن جرير في " تاريخه " أنهم اتهموا بها زكريا ، وأرادوا قتله ، ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها ، وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشروه فيها ، كما قدمنا .

            ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية