الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            طلب ذي القرنين عين الحياة

            وروى أبو الحسين بإسناد له عن علي بن الحسين بن علي ، [عن أبيه ، عن جده علي] بن أبي [طالب] رضي الله عنهم ، أنه قال: كان ذو القرنين عبدا صالحا ، وكان قد ملك ما بين المشرق والمغرب ، وكان له خليل من الملائكة اسمه رفائيل يأتي ذا القرنين ويزوره ، فبينما هما يوما يتحدثان ، قال ذو القرنين: يا رفائيل ، حدثني كيف عبادتكم في السماء ، فبكى رفائيل وقال: يا ذا القرنين وما عبادتكم عند عبادتنا ، إن في السموات من الملائكة من هو قائم أبدا لا يجلس ، ومنهم الساجد لا يرفع رأسه أبدا ، ومنهم الراكع لا يستوي قائما أبدا ، ومنهم الرافع وجهه لا يجلس أبدا ، وهم يقولون: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح ، ربنا ما عبدناك حق عبادتك . فبكى ذو القرنين بكاء شديدا ، ثم قال: يا رفائيل إني لأحب أن أعيش فأبلغ من عبادة ربي حق طاعته . فقال رفائيل: أوتحب ذلك؟ قال: نعم ، قال: فإن لله عينا في الأرض تسمى عين الحياة فيها عزيمة أنه من شرب منها شربة إنه لن يموت حتى يكون هو الذي يسأل الموت . قال ذو القرنين: فهل تعلمون أنتم موضع تلك العين ، فقال رفائيل: لا ، غير أننا نتحدث في السماء أن لله في الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جان ، فنحن نظن أن تلك العين هي التي في تلك الظلمة ، فجمع ذو القرنين حكماء أهل الأرض ، وأهل دراسة الكتب وآثار النبوة ، وقال: أخبروني هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله وما جاءكم من أحاديث الأنبياء ، وحديث من كان قبلكم من العلماء أن الله وضع في الأرض عينا سماه عين الحياة؟ فقالت العلماء: لا ، فقال ذو القرنين: فهل وجدتم فيها أن الله وضع في الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جان؟ قالوا: لا ، فقال عالم [من] العلماء واسمه أفشنجير: أيها الملك لم تسأل عن هذا؟ فأخبره بالحديث وما قال له رفائيل في العين والظلمة ، فقال: أيها الملك ، إني قرأت وصية آدم فوجدت فيها أن الله وضع في الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جان ، فقال ذو القرنين: فأي أرض وجدتها في الأرض؟ قال: وجدتها على قرن الشمس .

            فبعث ذو القرنين في الأرض فحشر الناس إليه ، الفقهاء والأشراف والملوك ، ثم سار يطلب مطلع الشمس ، فسار إلى أن بلغ طرف الظلمة ثنتي عشرة سنة ، فإذا الظلمة ليست بليل ، وظلمة تفور مثل الدخان ، فعسكر ثم جمع علماء عسكره ، فقال: إني أريد أن أسلك هذه الظلمة ، فقالت العلماء: أيها الملك ، إنه من كان قبلك من الأنبياء لم يطلبوا هذه الظلمة فلا تطلبها ، فإنا نخاف أن يتفق عليك منها [أمر] تكرهه ، ويكون فيها فساد الأرض ، فقال: ما بد من أن أسلكها ، فخرت العلماء سجدا ، وقالوا: أيها الملك كف عن هذه الظلمة ولا تطلبها فإنا لو نعلم أنك إن طلبتها ظفرت بما تريد ولكنا نخاف العتب من الله ، ويتفق عليك أمر يكون فيه فساد الأرض وما عليها ، فقال: ما بد من أن أسلكها ، فقالت العلماء: شأنك بها ، فقال ذو القرنين: أي الدواب بالليل أبصر؟ قالوا: الخيل ، قال: فأيها أبصر؟ قالوا: الإناث أبصر ، قال: فأي الإناث؟ قالوا: البكارة .

            فأرسل ذو القرنين فجمع له ستة آلاف فرس أنثى بكارة ، ثم انتخب من أهل عسكره أهل الجلد والعقل ستة آلاف رجل ، فدفع إلى كل رجل فرسا ، وعقد للخضر على مقدمته على ألفين ، وكان الخضر وزير ذي القرنين ، وهو ابن خالته . وبقي ذو القرنين في أربعة آلاف ، فقال ذو القرنين للناس: لا تبرحوا من عسكركم هذا اثنتي عشرة سنة فإن نحن رجعنا إليكم فذلك وإلا فارجعوا إلى بلادكم ، فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك ظلمة لا ندري كم السير فيها ولا يبصر بعضنا بعضا ، فكيف نصنع بالضلال إذا أصابنا؟

            فدفع ذو القرنين إلى الخضر خرزة حمراء ، فقال: حيث يصيبك الضلال فاطرح هذه الخرزة إلى الأرض فإذا صاحت فليرجع إليها أهل الضلال . فسار الخضر بين يدي ذي القرنين يرتحل ونزل ذو القرنين وقد عرف الخضر ما يطلب ذو القرنين ، وذو القرنين يكتم الخضر .

            فبينما الخضر يسير إذ عارضه واد ، فظن الخضر أن العين في الوادي ، فلما قام على شفير الوادي قال لأصحابه: قفوا ولا يبرحن رجل من موقفه ، ورمى بالخرزة في الوادي ، فمكث طويلا ثم أضاءته الخرزة وطلب صوتها ، فانتهى إليها فإذا هي على حافة العين ، فنزع الخضر ثيابه ثم دخل العين ، فإذا ماء أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من الشهد فشرب واغتسل وتوضأ ، ثم خرج فلبس ثيابه ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فصاحت ، فرجع الخضر إلى صوتها وإلى أصحابه ، فأخذها وركب فسار . ومر ذو القرنين فأخطأ الوادي فسلكوا تلك الظلمة أربعين يوما وأربعين ليلة ، فخرجوا إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر ، وأرض حمراء ، ورملة . وإذا قصر مبني في تلك الأرض طوله فرسخ في فرسخ مسور ليس عليه باب ، فنزل ذو القرنين بعسكره ثم خرج وحده حتى دخل القصر ، فإذا حديدة طرفاها على حافتي القصر ، وإذا طائر أسود كأنه الخطاف أو شبه بالخطاف ، مذموم بأنفه إلى الحديدة ، معلق بين السماء والأرض ، فلما سمع الطائر خشخشة ذي القرنين ، قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين ، فقال الطائر: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلي ، يا ذا القرنين حدثني هل كثر البناء بالآجر والجص؟



            قال: نعم . فانتفض الطائر انتفاضة ثم انتفخ فبلغ ثلث الحديدة ، ثم قال: هل كثرت شهادات الزور في الأرض؟ قال: نعم . فانتفض الطائر ثم انتفخ فبلغ ثلثي الحديدة ، ثم قال: يا ذا القرنين: حدثني هل كثرت المعازف في الأرض؟ قال: نعم . فانتفض ثم انتفخ فملأ الحديدة ، وسد ما بين جداري القصر ، فاجتث ذو القرنين فرحا ، فقال الطائر: هل ترك الناس شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: لا ، فانضم الطائر ثلثا ، ثم قال: هل تركت الصلاة المفروضة؟ قال: لا ، فانضم الطائر ثلثا ، ثم قال: هل ترك الناس غسل الجنابة ، قال: لا ، فعاد الطائر كما كان ، ثم قال: يا ذا القرنين اسلك هذه الدرجة إلى أعلى القصر ، فسلكها فإذا سطح وعليه رجل قائم ، فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين ، قال: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إلي؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا صاحب الصور ، وإن الساعة اقتربت ، وأنا أنتظر أمر ربي أن أنفخ فأنفخ . ثم ناوله حجرا ، فقال: خذها فإن شبع شبعت وإن جاع جعت ، فرجع به إلى أصحابه فوضعوا الحجر في كفه ووضعوا حجرا آخر مقابله ، فإذا به يميل ، فتركوا آخر كذلك إلى ألف حجر ، فمال ذلك الحجر بالكل .

            فأخذ الخضر [كفا من تراب] وتركه في إحدى الكفتين وأخذ حجرا من تلك الحجارة فوضعه في الكفة الأخرى وترك معه كفا من تراب ، فوضعه على الحجر الذي جاء به ذو القرنين ، فاستوى في الميزان ، فقال الخضر: هذا مثل ضرب لكم ، إن ابن آدم لا يشبع أبدا دون أن يحثى عليه التراب ، كما لم يشبع هذا الحجر حتى وضعت عليه التراب . قال: صدقت يا خضر لا جرم ، لا طلبت أثرا في البلاد بعد مسيري هذا ، فارتحل راجعا حتى إذا كان في وسط الظلمة وطئ الوادي الذي فيه زبرجد ، فقال من معه: ما هذا الذي تحتنا؟ فقال ذو القرنين: خذوا منه ، فإنه من أخذ ندم ومن ترك ندم . فأخذ قوم وترك قوم ، فلما خرجوا من الظلمة إذا هو بزبرجد ، فندم الآخذ والتارك . ثم رجع ذو القرنين إلى دومة الجندل وكانت منزله فأقام بها حتى مات .



            قال الحسن البصري: إن ذا القرنين كان يركب وعلى مقدمته ستمائة ألف ، وعلى ساقته ستمائة ألف . وعند ابن الأثير في كتابه الكامل وعنده أن ذا القرنين هو الإسكندر فلما دخل الظلمات أخذ معه أربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد ، فسار فيها ثمانية عشر يوما ، ثم خرج ولم يظفر بها ، وكان الخضر على مقدمته ، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها ، والله أعلم

            التالي السابق


            الخدمات العلمية