الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفة بناء السد

            وأما السد فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ، ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم . قال البخاري : وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : رأيت السد . قال : وكيف رأيته ؟ قال : مثل البرد المحبر . فقال : رأيته هكذا ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم ،

            وقد ذكر أبو الحسين بن المنادي عن الموجود في أيدي الفرس عن كتبهم الموروثة: أن ذا القرنين لما عزم على المسير إلى مطلع الشمس أخذ على طريق كابل في الهند وتبت ، فتلقته الملوك بالهدايا العظيمة ، والتحايا الكريمة والطاعة والأموال ، إلى أن صار إلى الأرض المنتنة السوداء ، فقطعها سيرا في شهر ، ثم جاءته الأدلاء فانتهوا به إلى الحصون الشامخة والمدن المعطلة من أهلها ، وقد بقيت منهم فيها بقايا سألوه بأجمعهم أن يسد عنهم الفج الذي بينهم وبين يأجوج ومأجوج ، فسار إليه ونزل بجيشه العظيم الهائل ومعه الفلاسفة والصناع والحدادون ، فاتخذ قدور الحديد الكبار والمغارف الحديدية ، وأمر أن يجعل كل أربعة من تلك القدور على ديكدان ، طول كل واحد خمسون ذراعا أو نحوها ، وأمر الصناع أن يضربوا اللبن الحديد ، فاتخذوا النحاس والحديد ، وأضرموا عليه النار ، فصارت حجارة لم ير الناس مثلها كأنها تشبه جبل السد ، طول كل لبنة ذراع ونصف بالذراع الأعظم ، وسمكها شبر .

            فما زالوا يبنون السد من جانب الجبل ، وجعل في وسطه بابا عظيما ، طوله أقل من عرضه ، فالعرض مائة ذراع ، كل مصراع خمسون ذراعا ، والطول خمسون ذراعا ، وعليه قفل عظيم نحو عشرة أذرع ، وفوقه بأذرع غلق أطول من ذلك القفل . وكل ذلك أملس كملاسة الجبل وبلونه .

            فذكروا أنه لما فرغ من بناء السد أمر بالنار فأضرمت عليه من أسفله إلى أعلاه ، فصار معجونا كأنه حجر واحد مثل الجبل سواء ، فلما فرغ من بناءه مال راجعا بعد أن لقي الأمم التي خلف يأجوج ومأجوج .

            قال أبو الحسين: وبلغني عن خرداذبه ، قال: حدثني سلام الترجمان: أن الواثق لما رأى في المنام أن السد الذي سده ذو القرنين ببناء بين يأجوج ومأجوج انفتح وجهني فقال: عاينه وأتني بخبره ، وضم إلي خمسين رجلا ، ووصلني بخمسة آلاف دينار ، وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم ، وأمر بإعطاء كل رجل معي ألف درهم ورزق ستة أشهر ، وأعطاني مائتي بغل يحمل الزاد والماء . فشخصنا من سر من رأى بكتاب من الواثق إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية وهو بتفليس ، في إنفاذنا ، فكتب لنا إلى إسحاق صاحب السرير ، وكتب لنا ذاك إلى ملك الدان ، فكتب لنا إلى قلانشاه ، فكتب لنا إلى ملك الخرز ، [وسرنا من عند ملك الخرز] يوما وليلة ، ثم وجه معنا خمسين رجلا أدلاء ، فسرنا من عنده خمسة وعشرين يوما ، ثم سرنا إلى أرض سوداء منتنة الريح وقد كنا تزودنا قبل دخولها طيبا نشمه للرائحة المكروهة ، فسرنا فيها عشرة أيام ، ثم صرنا إلى مدن خراب فسرنا فيها سبعة وعشرين يوما ، فسألنا عن تلك المدن التي كان يأجوج ومأجوج طرقوها فخربوها ، ثم صرنا إلى حصون بالقرب من جبل السد في شعب منه .

            وفي تلك الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية مسلمون يقرءون القرآن ، لهم كتاتيب ومساجد ، فسألوا: من أين أقبلتم؟ فأخبرناهم أنا رسل أمير المؤمنين ، فأقبلوا يتعجبون ويقولون: أمير المؤمنين!! قلنا: نعم ، فقالوا: أشيخ هو أم شاب؟ فقلنا: شاب ، فتعجبوا وقالوا: أين يكون؟ قلنا: بالعراق في مدينة يقال لها سر من رأى ، فقالوا: ما سمعنا بهذا قط .

            ثم سرنا إلى جبل أملس ليس عليه خضراء ، وإذا جبل مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا ، [وفيه السد] ، وإذا عضادتان مبنيتان للمشي مما يلي الجبل من جنبتي الوادي ، عرض كل عضادة خمسة وعشرون ذراعا ، الظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب ، وعليه بناء مكين من حديد مغيب في نحاس في سمك خمسين ذراعا . وإذا دروند حديد طرفاه على العضادتين ، طوله مائة وعشرون ذراعا ، قد ركب على العضادتين ، على كل واحد بمقدار عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع ، وفوق الدروند بناء بذلك الحديد المغيب في النحاس إلى رأس الجبل في ارتفاعه مد البصر ، وفوق ذلك شرف حديد ، في كل شرفة قرنان يشير كل واحد منهما إلى صاحبه ، وإذا باب حديد مصراعين معلقين ، عرض كل مصراع خمسون ذراعا في ارتفاع خمسين ذراعا في ثخن خمسة أذرع ، وقائمتاهما في دوارة في قدر ، وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع في الاستدارة ، وارتفاع القفل من الأرض خمس وعشرون ذراعا ، وفوق القفل بقدر خمس أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل ، وقعر كل واحد منهما ذراعان ، وعلى الغلق مفتاح مغلق طوله ذراع ونصف ، وله اثنتا عشرة دندانجة ، كل واحد كدستج أكبر ما يكون من هاوون معلق في سلسلة طولها ثمانية أذرع في استدارة أربعة أشبار ، والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق ، وعتبة الباب عشرة أذرع بسط مائة ذراع ، سوى ما تحت العضادتين ، والظاهر منها خمس أذرع ، وهذا الذراع كله بالذراع السوداء .

            ورئيس تلك الحصون يركب في كل جمعة في عشرة فوارس ، مع كل فارس مرزبة حديد ، في كل واحدة خمسون ومائة من ، فيضرب القفل بتلك المرزبات في كل يوم مرات ليسمع من نقباء الباب الصوت ، فيعلموا أن هنالك حفظة ، ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثا ، وإذا ضرب أصحابنا القفل وضعوا آذانهم فيسمعون بمن داخل دويا .

            وبالقرب من هذا الموضع حصن كبير يكون عشرة فراسخ في عشرة فراسخ ، بكسر مائة فرسخ ، ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما بمائتي ذراع في مائتي ذراع ، وعلى باب هذين الحصنين شجرتان ، وبين الحصنين عين عذبة ، في أحد الحصنين آلة البناء الذي كان بني به السد من القدور والحديد والمغارف الحديد ، على كل أنصبة أربع قدور مثل قدور الصابون ، وهنالك بقية من اللبن قد التزق بعضها ببعض من الصداء ، واللبنة ذراع ونصف في سمك شبر .

            وسألوا من هنالك: هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج ، فذكروا أنهم رأوا مرة عددا فوق الشرف ، فهبت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبهم ، فكان مقدار الرجل منهم في رأي العين شبرا ونصفا .



            قال سلام الترجمان: فلما انصرفنا أخذتنا الأدلاء إلى ناحية خراسان فسرنا إليها حتى خرجنا خلف سمرقند سبع فراسخ ، وقد كان أصحاب الحصون زودونا ما كفانا ، ثم صرنا إلى عبد الله بن طاهر .

            قال سلام: فوصلني بمائة ألف درهم ، ووصل كل رجل معي بخمسمائة درهم .

            وأجرى للفارس خمسة دراهم وللراجل ثلاثة دراهم في كل يوم إلى الذي . فرجعنا إلى سر من رأى بعد خروجنا بثمانية وعشرين شهرا .

            قال ابن خرداذبه: فحدثني سلام الترجمان بجملة هذا الخبر ثم أتليته من كتاب كتبه الواثق .

            وعند ابن الأثير في كتابه الكامل فلما رأى أهل تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرهم ، كما أخبر الله عنهم في قوله : ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما . يقول ما مكنني فيه ربي خير من خرجكم ، ولكن أعينوني بالقوة ، والقوة الفعلة والصناع ، والآلة التي يبنى بها ، فقال : آتوني زبر الحديد ، أي قطع الحديد ، فآتوه بها ، فحفر الأساس حتى بلغ الماء ، ثم جعل الحديد والحطب صفوفا بعضها فوق بعض حتى إذا ساوى بين الصدفين ، وهما جبلان ، أشعل النار في الحطب فحمي الحديد وأفرغ عليه القطر ، وهو النحاس المذاب ، فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد ، فبقي كأنه برد محبر من حمرة النحاس وسواد الحديد ، وجعل أعلاه شرفا من الحديد فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج إلى البلاد المجاورة لهم . قال الله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا .

            فلما فرغ من أمر السد دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي ، والشمس جنوبية ، فلهذا كانت ظلمة ، وإلا فليس في الأرض موضع إلا وتطلع الشمس عليه أبدا .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية