الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ملك العادل الخابور ونصيبين وحصره سنجار وعوده عنها واتفاق نور الدين أرسلان شاه ومظفر الدين  

            في سنة ست وستمائة ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين ، وحصر مدينة سنجار ، والجميع من أعمال الجزيرة ، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي مودود .

            وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود ، صاحب الموصل ، عداوة مستحكمة ، وقد تقدم ذكر ذلك ، فلما كان سنة خمس وستمائة حصلت مصاهرة بين نور الدين والعادل ، فإن ولدا للعادل تزوج بابنة لنور الدين ، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم ، فحسنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين ، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود ، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها ، فيكون ملك قطب الدين للعادل ، وتكون الجزيرة لنور الدين .

            فوافق هذا القول هوى نور الدين ، فأرسل إلى العادل في المعنى ، فأجابه إلى ذلك مستبشرا وجاءه ما لم يكن يرجوه ; لأنه علم أنه متى ملك هذه البلاد أخذ الموصل وغيرها ، وأطمع نور الدين أيضا في أن يعطي هذه البلاد ، إذا ملكها ، لولده الذي هو زوج ابنة نور الدين ، ويكون مقامه في خدمته بالموصل ، واستقرت القاعدة على ذلك ، وتحالفا عليها فبادر العادل إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره ، وقصد الخابور فأخذه .

            فلما سمع نور الدين بوصوله كأنه خاف واستشعر ، فأحضر من يرجع إلى رأيهم وقولهم ، وعرفهم وصول العادل ، واستشارهم فيما يفعله ، فأما من أشاروا عليه بذلك فسكتوا ، وكان فيهم من لم يعلم هذه الحال ، فعظم الأمر ، وأشار بالاستعداد للحصار ، وجمع الرجال ، وتحصيل الذخائر وما يحتاج إليه .

            فقال نور الدين : نحن فعلنا ذلك وخبره الخبر . فقال : بأي رأي تجيء إلى عدو لك هو أقوى منك ، وأكثر جمعا ، وهو بعيد منك متى تحرك لقصدك تعلم به ، فلا يصل إلا وقد فرغت من جميع ما تريده ، تسعى حتى يصير قريبا منك ، ويزداد قوة إلى قوته .

            ثم إن الذي استقر بينكما أنه له يملكه أولا بغير تعب ولا مشقة ، وتبقى أنت لا يمكنك أن تفارق الموصل إلى الجزيرة وتحصرها والعادل هاهنا ، هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه لا يجوز أن تفارق الموصل ، وإن عاد إلى الشام ، لأنه قد صار له ملك خلاط ، وبعض ديار بكر ، وديار الجزيرة جميعها ، والجميع بيد أولاده متى سرت عن الموصل أمكنهم أن يحولوا بينك وبينها ، فما زدت على أن آذيت نفسك وابن عمك ، وقويت عدوك ، وجعلته شعارك ، وقد فات الأمر ، وليس يجوز إلا أن تقف معه على ما استقر بينكما لئلا يجعل لك حجة ويبتدئ بك .

            هذا والعادل قد ملك الخابور ونصيبين ، وسار إلى سنجار فحصرها ، وكان في عزم صاحبها قطب الدين أن يسلمها إلى العادل بعوض يأخذه عنها ، فمنعه من ذلك أمير كان معه ، اسمه أحمد بن يرنقش ، مملوك أبيه زنكي ، وقام بحفظ المدينة والذب عنها ، وجهز نور الدين عسكرا مع ولده الملك القاهر ليسيروا إلى الملك العادل .

            فبينما الأمر على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب ، وهو أن مظفر الدين كوكبري ، صاحب إربل ، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذل من نفسه المساعدة على منع العادل عن سنجار ، وأن الاتفاق معه على ما يريده ، فوصل الرسول ليلا ، فوقف مقابل دار نور الدين وصاح ، فعبر إليه سفينة عبر فيها ، واجتمع بنور الدين ليلا وأبلغه الرسالة ، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة ، وحلف له على ذلك ، وعاد الوزير من ليلته ، فسار مظفر الدين ، واجتمع هو ونور الدين ، ونزلا بعساكرهما بظاهر الموصل .

            وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن صاحب سنجار أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع به إلى العادل ليبقي عليه سنجار ، وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لشفعه ، لأثره الجميل في خدمته ، وقيامه في الذب عن ملكه غير مرة كما تقدم ; فشفع إليه فلم يشفعه العادل ، ظنا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين ، فلما رد العادل شفاعته راسل نور الدين في الموافقة عليه .

            ولما وصل إلى الموصل ، واجتمع بنور الدين ، أرسلا إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين ، وهو صاحب حلب ، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان ، صاحب بلاد الروم ، بالاتفاق معهما ، فكلاهما أجاب إلى ذلك ، فتواعدوا على الحركة وقصد بلاد العادل إن امتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار ، وأرسلا أيضا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولا إلى العادل في الصلح أيضا فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع ووصلت رسل الخليفة ، وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك ، أستاذ الدار ، والأمير آق باش ، وهو من خواص مماليك الخليفة وكبارهم ، فوصلا إلى الموصل ، وسارا منها إلى العادل وهو يحاصر سنجار ، وكان من معه لا يناصحونه في القتال لا سيما أسد الدين شيركوه ، صاحب حمص والرحبة ، فإنه كان يدخل إليها الأغنام وغيرها من الأقوات ظاهرا ، ولا يقاتل عليها ، وكذلك غيره .

            فلما وصلت رسل الخليفة إلى العادل أجاب أولا إلى الرحيل ، ثم امتنع عن ذلك ، وغالط ، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضا ، فلم ينل منها ما أمله ، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها .

            واستقرت القاعدة على ذلك ، وتحالفوا على هذا كلهم ، وعلى أن يكونوا يدا واحدة على الناكث منهم ، ورحل العادل عن سنجار إلى حران ، وعاد مظفر الدين إلى إربل ، وبقي كل واحد من الملوك ، وكان مظفر الدين عند مقامه بالموصل قد زوج ابنتين له بولدين لنور الدين ; وهما عز الدين مسعود ، وعماد الدين زنكي .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية