الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في سنة عشر ومائة الأعيان :

            جرير الشاعر جرير الشاعر  

            وهو جرير بن الخطفى ويقال : جرير بن عطية بن الخطفى . واسم الخطفى حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ، أبو حزرة الشاعر البصري ، قدم دمشق مرارا ، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده ، ووفد على عمر بن عبد العزيز وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنون الفرزدق ، والأخطل ، وكان جرير أشعرهم وأخيرهم .

            قال غير واحد : هو أشعر الثلاثة .

            قال ابن دريد ، بسنده ، عن عثمان البتي ، قال : رأيت جريرا وما تضم شفتاه من التسبيح ، فقلت : وما ينفعك هذا وأنت تقذف المحصنة ؟ ! فقال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 114 ] ، وعد من الله حق .

            وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال : دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة ، وعنده الشعراء الثلاثة جرير ، والفرزدق ، والأخطل فلم يعرفهم الأعرابي ، فقال عبد الملك للأعرابي : هل تعرف أهجى بيت في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


            فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

            فقال : أحسنت ، فهل تعرف أمدح بيت قيل في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


            ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

            فقال : أصبت وأحسنت ، فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


            إن العيون التي في طرفها مرض     قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
            يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به     وهن أضعف خلق الله أركانا

            فقال : أحسنت ، فهل تعرف جريرا ؟ قال : لا والله وإني إلى رؤيته لمشتاق . قال : فهذا جرير وهذا الأخطل وهذا الفرزدق . فأنشأ الأعرابي يقول :


            فحيا الإله أبا حرزة     وأرغم أنفك يا أخطل
            وجد الفرزدق أتعس به     ودق خياشيمه الجندل

            فأنشأ الفرزدق يقول :


            يا أرغم الله أنفا أنت حامله     يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل
            ما أنت بالحكم الترضى حكومته     ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

            ثم أنشأ الأخطل يقول :


            يا شر من حملت ساق على قدم     ما مثل قولك في الأقوام يحتمل
            إن الحكومة ليست في أبيك ولا     في معشر أنت منهم إنهم سفل

            فقام جرير مغضبا وهو يقول :


            شتمتما قائلا بالحق مهتديا     عند الخليفة والأقوال تنتضل
            أتشتمان سفاها خيركم حسبا     ففيكما وإلهي الزور والخطل
            شتمتماه على رفعي ووضعكما     لا زلتما في سفال أيها السفل

            ثم وثب جرير فقبل رأس الأعرابي ، وقال : يا أمير المؤمنين ، جائزتي له . وكانت خمسة عشر ألفا ، فقال عبد الملك : وله مثلها من مالي . فقبض الأعرابي ذلك كله ، وخرج .

            دخول جرير على عبد الملك بن مروان مع وفد العراق وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه :


            ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

            فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاة ; أربعة من النوبة ، وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد . قال جرير وبين يدي عبد الملك جامات من فضة قد أهديت له ، وهو لا يعبأ بها شيئا ، فهو يقرعها بقضيب في يده فقلت : يا أمير المؤمنين المحلب ، فألقى إلي واحدة من تلك الجامات ، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له ، فأطلق له خمسين ناقة تحمل طعاما لأهله .

            وحكى نفطويه أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الأخطل فقال بشر لجرير : أتعرف هذا ؟ قال : لا ، ومن هذا أيها الأمير ؟ فقال : هذا الأخطل . فقال الأخطل : أنا الذي شتمت عرضك ، وأسهرت ليلك ، وآذيت قومك . فقال جرير : أما قولك : شتمت عرضك . فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه ، وأما قولك : وأسهرت ليلك . فلو تركتني أنام لكان خيرا لك ، وأما قولك : وآذيت قومك . فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم ؟ ! وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة ، قبحه الله وأبعد مثواه .

            بين جرير والحجاج بن يوسف الثقفي قال بعضهم فيما حكاه المعافى بن زكريا الجريري : قالت جارية للحجاج بن يوسف في جرير : إنك تدخل هذا علينا . فقال : إنه ما علمت [ إلا ] عفيفا . فقالت : أما إنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع . فأمر بإخلائها مع جرير في مكان يراهما ولا يشعر جرير بشيء ، من ذلك فقالت له : يا جرير فأطرق رأسه وقال : ها أنا ذا . فقالت : أنشدني من قولك كذا وكذا . لشعر فيه رقة وتحنن . فقال : لست أحفظه ، ولكن أحفظ كذا وكذا . ويعرض عن ذاك ، وينشدها شعرا في مدح الحجاج فقالت : لست أسألك عن هذا ، إنما أريد كذا وكذا . فيعرض عن ذلك ، وينشدها في مدح الحجاج حتى انقضى المجلس ، فقال الحجاج : لله درك ، أبيت إلا كرما وتكرما .

            وقال عكرمة : أنشدت أعرابيا بيتا لجرير الخطفى :


            أبدل الليل لا تجري كواكبه     أو طال حتى حسبت النجم حيرانا

            فقال الأعرابي : إن هذا حسن في معناه ، وأعوذ بالله من مثله ، ولكني أنشدك في ضده من قولي :


            وليل لم يقصره رقاد     وقصره لنا وصل الحبيب
            نعيم الحب أورق فيه حتى     تناولنا جناه من قريب
            بمجلس لذة لم نقف فيه     على شكوى ولا عيب الذنوب
            فحلنا أن نقطعه بلفظ     فترجمت العيون عن القلوب

            فقلت له : زدني . قال : أما من هذا فحسبك ، ولكن أنشدك غيره . فأنشدني :


            وكنت إذا عقدت حبال قوم     صحبتهم وشيمتي الوفاء
            فأحسن حين يحسن محسنوهم     وأجتنب الإساءة إن أساءوا
            أشاء سوى مشيئتهم فآتي     مشيئتهم وأترك ما أشاء



            جرير أشعر من الفرزدق قال ابن خلكان : كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور ، وأفخر بيت قاله جرير :


            إذا غضبت عليك بنو تميم     حسبت الناس كلهم غضابا

            قال : وقد سأله رجل : من أشعر الناس ؟ فأخذ بيده وأدخله على أبيه ، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز ، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته ، فقال جرير للذي سأله : أتبصر هذا ؟ قال : نعم . قال : أتعرفه ؟ قال : لا . قال : هذا أبي ، وإنما يشرب من ضرع العنز ; لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا ، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم .

            وقد كان بين جرير ، والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها ، وقد مات في سنة عشر ومائة . قاله خليفة بن خياط وغير واحد ، قال خليفة : مات الفرزدق ، وجرير بعده بأشهر . وقال الصولي : ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة ، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوما .

            وقال الكديمي عن الأصمعي عن أبيه قال : رأى رجل جريرا في المنام بعد موته ، فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي . فقيل : بماذا ؟ قال : بتكبيرة كبرتها بالبادية . قيل له : فما فعل الفرزدق ؟ قال : أيهات ، أهلكه قذف المحصنات . قال الأصمعي : لم يدعه في الحياة ولا في الممات .

            الفرزدق وأما الفرزدق   :

            فاسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة ، أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق ، وجده صعصعة بن ناجية صحابي ، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحيي الموءودة في الجاهلية .

            وسمع الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق وأبا هريرة ، وأبا سعيد الخدري ، وعرفجة بن أسعد ، وزرارة بن كرب ، والطرماح بن عدي الشاعر .

            وروى عنه خالد الحذاء ، ومروان الأصفر ، وحجاج بن حجاج الأحول وجماعة ، وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحتات ، وعلى الوليد بن عبد الملك وعلى أخيه هشام ولم يصح ذلك .

            وقال أشعث بن عبد الملك عن الفرزدق قال : نظر أبو هريرة إلى قدمي فقال : يا فرزدق إني أرى قدميك صغيرتين ، فاطلب لهما موضعا في الجنة . فقلت : إن ذنوبي كثيرة . فقال : لا تأيس ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " .

            وروى أعين بن لبطة بن الفرزدق ، عن أبيه ، عن جده الفرزدق ، قال: دخلت مع أبي على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، . فقال له: من أنت؟ فقال: غالب بن صعصعة المجاشعي ، قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم ، قال: ما فعلت إبلك؟ قال:

            نكبتها النوائب ، ودعدتها الحقوق ، قال: ذاك خير من سبلها ، من هذا الفتى معك؟

            قال: هذا ابني وهو شاعر ، قال: علمه القرآن خير له من الشعر . قال لبطة: فما زال في نفس أبي حتى شد نفسه فحفظ القرآن .

            وعن معاوية بن عبد الكريم ، عن أبيه ، قال:

            دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجليه قيد ، قلت: ما هذا يا أبا فراس؟ قال:

            حلفت ألا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن .

            وعن عبد الله بن سوار ، قال:

            أولاد الفرزدق لبطة وسبطة وحبطة والحنطبا قال أبو علي الحرمازي : كانت النوار وهي بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي ، وكان قد وجهه علي بن أبي طالب إلى البصرة أيام الحكمين ، فقتله الخوارج غيلة ، فخطب ابنته النوار رجل من قريش ، فبعثت إلى الفرزدق ، وكانت بنت عمه ، فقالت: أنت ابن عمي وأولى الناس بي وبتزويجي ، فزوجني من هذا الرجل ، قال: لا أفعل أو تشهدي أنك قد رضيت بمن زوجتك ، ففعلت . فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها ، وأشهدكم أني قد زوجتها من نفسي على مائة ناقة حمراء سود الحدق ، فنفرت من ذلك واستعدت عليه ابن الزبير فقال له: وفها صداقها ، ففعل ودفعها إليه ، فجاء بها إلى البصرة وقد أحبلها ، ومكثت عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا ، ثم لم تزل به حتى طلقها وشرط ألا تبرح منزله ولا تتزوج بعده ، وأشهد على طلاقها الحسن ، ثم قال: يا أبا سعيد قد ندمت ، فقال: إني والله لأظن أن دمك يترقرق ، والله لئن رجعت لنرجمنك بأحجارك ، فمضى وهو يقول:


            ندمت ندامة الكسعي لما     غدت مني مطلقة نوار
            فلو أني ملكت يدي وقلبي     لكان علي للقدر الخيار
            وكانت جنتي فخرجت منها     كآدم حين أخرجه الضرار
            وكنت كفاقئ عينيه عمدا     فأصبح ما يضيء له النهار

            وحكى الفرزدق قال : رأيت أثر دواب قد خرجت ناحية البرية ، فظننت أن قوما خرجوا لنزهة فتبعتهم ، فإذا نسوة مستنقعات في غدير ، فقلت: لم أر كاليوم ، ولا يوم دارة جلجل ، فانصرفت مستحييا منهن ، فنادينني: بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء ، فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن ، فقلن: بالله حدثنا بحديث دارة جلجل ، فقلت: إن امرأ القيس كان يهوى بنت عم له يقال لها: عنيزة ، فطلبها زمانا فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل ، وذلك أن الحي احتملوا ، فتقدم الرجال ، وتخلف النساء والخدم والثقل ، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار الرجال غلوة ، فكمن في غابة من الأرض حتى مر به النساء ، فإذا فتيات وفيهن عنيزة ، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا ، فذهب بعض كلالنا فنزلن إليه ، ونحين العبيد عنهن ، ثم تجردن واغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة ، فأتاهن امرؤ القيس محتالا كنحو ما أتيتكن وهن غوافل ، فأخذ ثيابهن فجمعها ورمى الفرزذق نفسه عن بغلته ، فأخذ بعض أثوابهن فجمعها - وقال لهن كما أقول لكن: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج إلي مجردة . فقال الفرزدق : فقالت إحداهن: هذا امرؤ القيس ، كان عاشقا لابنة عمه ، أفعاشق أنت لبعضنا؟ فقلت: لا والله ولكني اشتهيتكن ، قال: فتأبين أمري حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن دون المنزل ، فخرجت إحداهن ، فدفع إليها ثوبها ووضعه ناحية ، فأخذته ولبسته ، وتتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة وحدها ، فناشدته الله أن يطرح لها ثوبها ، فقال: دعينا منك ، فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك . قال: فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة ، فأخذت ثوبها ، وأقبلن عليه يعذلنه ويلمنه ويقلن: عريتنا وحبستنا وجوعتنا ، قال: فإن نحرت لكن ناقتي ، أتأكلن منها؟ قلن: نعم ، فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وصاح بخدمهن ، فجمعوا له حطبا ، فأجج نارا عظيمة ، وجعل يقطع لهن من سنامها وأطائبها وكبدها ، فيلقيه على الجمر فيأكل ويأكلن معه ، فلما أراد الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته ، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله ، وقالت الأخرى: أنا حشيته وأنساعه ، فتقاسمن رحله بينهن ، وبقيت عنيزة ، فقال لها [امرؤ القيس] : يا ابنة الكرام ، لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي ، فحملته على غارب بعيرها ، فكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها ، فإذا امتنعت مال حدجها ، فتقول: يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل ، فذلك قوله:


            تقول وقد مال الغبيط بنا معا     عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

            فلما فرغ الفرزدق من حديثه قالت إحداهن: اصرف وجهك عنا ساعة ، وهمست إلى صويحباتها بشيء لم أفهمه ، فانغططن في الماء وخرجن ومع كل واحدة منهن ملء كفها طينا ، قال: فجعلن يتعادين نحوي ويضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وثيابي وملأن عيني ، فوقعت على وجهي مشغولا بعيني وما فيها ، فأخذن ثيابهن وركبن ، وركبت تلك الماجنة بغلتي وتركتني ملقى بأقبح حال ، فغسلت وجهي وثيابي وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي ماشيا وقد وجهن بغلتي إلى بيتي وقلن للرسول: قل له تقول لك أخواتك: طلبت منا ما لم يمكنا ، وقد وجهنا إليك بزوجتك فافعل بها سائر ليلتك ، وهذا كسر درهم يكون لحمامك إذا أصبحت . فكان يقول: ما منيت بمثلهن .

            وقال أبو عمرو بن العلاء : ما رأيت بدويا أقام بالحضر إلا فسد لسانه إلا رؤبة بن العجاج ، والفرزدق ، فإنهما زادا على طول الإقامة جدة وحدة .

            وقال الأصمعي وغير واحد : لما ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري فشهدها أعيان أهل البصرة والحسن على بغلته والفرزدق على بعيره فسارا ، فقال الحسن ، للفرزدق : ماذا يقول الناس ؟ قال : يقولون : شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس . يعنونك ، و : شر الناس . يعنوني . فقال له : يا أبا فراس لست بخير الناس ، ولست بشر الناس . ثم قال له الحسن : ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، منذ ثمانين سنة . فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها لدفنها ، فأنشأ الفرزدق يقول :


            أخاف وراء القبر إن لم يعافني     أشد من القبر التهابا وأضيقا
            إذا جاءني يوم القيامة قائد     عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
            لقد خاب من أولاد آدم من مشى     إلى النار مغلول القلادة أزرقا
            يساق إلى نار الجحيم مسربلا     سرابيل قطران لباسا مخرقا
            إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم     يذوبون من حر الصديد تمزقا

            قال : فبكى الحسن حتى بل الثرى ، ثم التزم الفرزدق وقال : لقد كنت من أبغض الناس إلي ، وإنك اليوم من أحب الناس إلي .

            وقال له بعضهم : ألا تخاف من الله في قذف المحصنات ؟ فقال : والله لله أحب إلي من عيني اللتين أبصر بهما ، فكيف يعذبني ؟ !

            وتوفي الفرزدق في سنة إحدى عشرة ومائة ، وقد قارب المائة . وكانت علته الدبيلة ، فرآه ابنه لبطة في النوم ، فقال له: يا بني نفعتني الكلمة التي راجعت بها الحسن عند القبر .

            وقال أبو عبيدة : مات الفرزدق سنة عشر وقد نيف على التسعين ، كان منها خمس وسبعون يباري الشعراء فبذهم ، وما ثبت له غير جرير . الحسن بن أبي الحسن فأما الحسن بن أبي الحسن

             واسمه يسار ، أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت ويقال : مولى جابر بن عبد الله . وقيل غير ذلك ، وأمه خيرة مولاة أم سلمة كانت تخدمها ، فربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع ، فتشاغله أم سلمة بثديها ، فيدر عليه فيرتضع منها ، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له ، وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب قال : اللهم فقهه في الدين ، وحببه إلى الناس .

            وسئل مرة أنس بن مالك عن مسألة فقال : سلوا عنها مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا ، فحفظ ونسينا .

            وقال ابن مرة : إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن ، وابن سيرين .

            وقال قتادة : ما جالست رجلا فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه . وقال أيضا : ما رأت عيناي أفقه من الحسن .

            وقال أيوب : كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن مسألة ; هيبة له .

            وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة : إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن فأقرئه مني السلام .

            وقال يونس بن عبيد : كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به ، وإن لم يسمع كلامه ولم ير عمله .

            وقال الأعمش : ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها ، وكان أبو جعفر إذا ذكره يقول : ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء .

            وقال محمد بن سعد : قالوا : كان الحسن جامعا للعلم والعمل ، عالما رفيعا فقيها ، ثقة مأمونا ، عابدا ناسكا ، كثير العلم والعمل ، فصيحا جميلا وسيما ، وقدم مكة فأجلس على سرير ، واجتمع الناس إليه ، فحدثهم . وكان فيهم مجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وعمرو بن شعيب فقالوا : لم نر مثل هذا قط .

            من مواعظ الحسن وعن يونس ، قال:

            كان الحسن يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا ، فقال: لا أقبل منكم شيئا .

            قال السراج: بسنده عن حكيم بن جعفر ، قال: قال لي [مسمع] : لو رأيت الحسن لقلت قد بث عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك التشنج . وعن حفص بن عمر ، قال:

            بكى الحسن ، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني غدا في النار ولا يبالي .

            وعن عبد الوهاب بن عطاء ، قال: حدثنا أبو عبيد الباجي ، أنه سمع الحسن بن أبي الحسين يقول:

            حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور ، وأقذعوا هذه الأنفس فإنها طلعة ، وإنها تنزع إلى شر غاية ، وإنكم إن تقاربوها لم يبق لكم من أعمالكم شيء ، فتصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعدو ، وإنما أنتم ركب وقوف ، يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب فلا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم ، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم ، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته .

            وعن الحسن :

            أنه مر ببعض القراء على أبواب بعض السلاطين ، فقال: أفرختم حمائمكم ، وفرطحتم بغالكم ، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم ، أما إنكم لو جلستم في بيوتكم حتى يكونوا هم الذين يتوسلون إليكم لكان أعظم لكم في أعينهم ، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم .

            عاصر الحسن خلقا كثيرا من الصحابة ، فأرسل الحديث عن بعضهم ، وسمع من بعضهم .

            توفي عشية الخميس ، ودفن يوم الجمعة أول يوم من رجب هذه السنة ، وغسله أيوب السختياني وحميد الطويل ، وصلى عليه النضر بن عمرو أمير البصرة ، ومشى هو وبلال بن أبي بردة أمام الجنازة ، وكان له تسع وثمانون سنة . وقال أهل التاريخ : مات الحسن عن ثمان وثمانين سنة عام عشر ومائة ، في مستهل رجب منها ، بينه وبين محمد بن سيرين مائة يوم .

            محمد بن سيرين محمد بن سيرين ، أبو بكر البصري ، مولى أنس بن مالك   :

            سمع أبا هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعمران بن حصين ، وأنس بن مالك . وهو أروى الناس عن شريح وعبيدة . روى عنه قتادة وخالد الحذاء ، وأيوب السختياني ، وغيرهم . وكان فقيها ورعا .

            عن ابن عائشة ، قال :

            كان أبو محمد بن سيرين من أهل جرجرايا ، وكان يعمل قدور النحاس ، فجاء إلى عين التمر يعمل بها فسباه خالد بن الوليد .

            وعن عبيد بن أبي بكر بن أنس بن مالك ، قال:

            هذه مكاتبة سيرين عندنا: هذا ما كاتب عليه أنس بن مالك فتاه سيرين على كذا وكذا ألفا ، وعلى غلامين يعملان عمله .

            قال علماء السير: كان خالد بن الوليد قد بعث بسيرين إلى عمر عند مصيره إلى العراق ، فوهبه لأبي طلحة الأنصاري فوهبه أبو طلحة لأنس بن مالك ، فكاتبه أنس على أربعين ألفا أداها .

            وولد له محمد ، وأنس ، ومعبد ، ويحيى ، وحفصة ، وأم محمد صفية مولاة أبي بكر الصديق ، حضر إملاكها ثمانية عشر بدريا منهم أبي بن كعب ، فكان يدعو وهم يؤمنون . وولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان بن عفان . وولد له ثلاثون ولدا من امرأة واحدة . وقد لقي محمد بن عمر ، وعمران بن حصين ، وأبا هريرة . وكان ورعا في الفقه فقيها في الورع .

            وركبه دين فحبس لأجله ، واختلفوا في سبب ذلك الدين ، فقال ابن سعد : سألت محمد بن عبد الله الأنصاري عن سبب الدين ، فقال: اشترى طعاما بأربعين ألف درهم فأخبر عن أصل الطعام بشيء كرهه ، فتركه وتصدق به وبقي المال عليه فحبس .

            عن المدائني ، قال :

            كان حبس ابن سيرين في الدين أنه اشترى زيتا بأربعة آلاف درهم ، فوجد في زق منه فأرة ، فقال: الفأرة كانت في المعصرة ، فصب الزيت كله . وكان يقول: عيرت رجلا بشيء منذ ثلاثين سنة أحسبني عوقبت به . وكانوا يرون أنه عير رجلا بالفقر فابتلي به .

            عن بشر بن عمر ، قال: حدثتنا أم عباد امرأة هشام بن حسان ، قالت: قال ابن سيرين :

            إني لم أر امرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها .

            وأخبرنا عبد الرحمن القزاز بإسناده عن أبي عوانة ، قالت: رأيت محمد بن سيرين مر في السوق فجعل لا يمر بقوم إلا سبحوا وذكروا الله تعالى .

            أخبرنا محمد بن ناصر بإسناده عن عبد الله ابن أخت ابن سيرين : أنه كان مع محمد بن سيرين لما وفد إلى ابن هبيرة ، فلما قدم عليه قال: السلام عليكم ، قال:

            وكان متكئا فجلس فقال: كيف خلفت من وراءك؟ قال: خلفت الظلم فيهم فاشيا ، قال:

            فهم به فقال له أبو الزناد : أصلح الله الأمير إنه شيخ ، فما زال به حتى سكن ، فلما أجازهم أتاه إياس بن معاوية بجائزة ، فأبى أن يقبلها ، فقال: أترد عطية الأمير ، قال:

            أتتصدق علي فقد أغناني الله ، أو تعطيني على العلم أجرا ، فلا آخذ على العلم أجرا .

            قال علماء السير: رأى محمد بن سيرين كأن الجوزاء تقدمت الثريا ، فأخذ في وصيته وقال: يموت الحسن وأموت بعده ، وهو أشرف مني . فتوفي الحسن ، ومات بعده محمد بمائة يوم .

            وعن خالد بن خداش ، قال: قال حماد بن زيد :

            مات محمد لتسع مضين من شوال سنة عشر ومائة . وهب بن منبه اليماني وهب بن منبه   :

            من الأبناء ، أبناء الفرس الذين أبعدهم كسرى إلى اليمن . أسند عن جابر ، والنعمان بن بشير ، وابن عباس . وأرسل الرواية عن معاذ ، وأبي هريرة . وكان عالما عابدا . وقال: قرأت من كتب الله عز وجل اثنين وتسعين كتابا . ومكث يصلي الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة .

            وعن وهب بن منبه ، قال:

            الإيمان عريان ولباسه التقوى ، وزينته الحياء ، وماله الفقه .

            وعن عبد الصمد بن معقل ، قال: إن وهب بن منبه قال في موعظة له:

            يا ابن آدم ، إنه لا أقوى من خالق ولا أضعف من مخلوق ، ولا أقدر ممن طلبته في يده ، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه . يا ابن آدم ، إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك ، وأقام معك ما سيذهب عنك ، يا ابن آدم ، أقصر عن تناول ما لا ينال ، وعن طلب ما لا يدرك ، وعن ابتغاء ما لا يوجد ، واقطع الرجاء منك عما فقدت من الأشياء . واعلم أنه رب مطلوب هو شر لطالبه . يا ابن آدم إنما الصبر عند المصيبة ، وأعظم من المصيبة سوء الخلف منها ، أمس شاهد مقبول ، وأمين مؤد ، وحكيم وارد ، قد فجعك بنفسه وخلف في يديك حكمته ، واليوم صديق مودع ، وكان طويل الغيبة وهو سريع الظعن ، وقد مضى قبله شاهد عدل . يا ابن آدم ، قد مضت لنا أصول نحن فروعها ، فما بقي الفرع بعد أصله . يا ابن آدم ، إنما أهل هذه الدار سفر ولا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها ، وإنما يتبلغون بالعواري ، فما أحسن الشكر للمنعم ، والتسليم للمغير . إنما البقاء بعد الفناء وقد خلقنا ولم نكن ، وسنبلى ثم نعود ، ألا وإنما العواري اليوم والهبات غدا ، ألا وإنه قد تقارب منا سلب فاحش أو عطاء جزيل ، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه ، إنما أنتم في هذه الدار عرض فيكم المنايا تنتضل ، وإن الذي فيه أنتم نهب للمصائب ، لا تتناولون نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يستقبل معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من آجله ، ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر .

            وعن منير مولى الفضل بن أبي عياش ، قال:

            كنت جالسا مع ابن منبه ، فأتاه رجل ، فقال: إني مررت بفلان وهو يشتمك فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولا غيرك ، فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه ومد يده وصافحه وأجلسه إلى جنبه .

            توفي بصنعاء في هذه السنة . وقيل: سنة أربع عشرة . سعد بن مسعود ، أبو مسعود التجيبي   :

            من تجيب ، وفد على سليمان بن عبد الملك ، وكان رجلا صالحا ، وأسند حديثا واحدا ، وبعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية يفقه أهلها في الدين .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية