قتل البطال
واسمه عبد الله أبو الحسين الأنطاكي ، في جماعة من المسلمين ببلاد الروم وفي سنة اثنتين وعشرين ومائة . ولم يزد ابن جرير على هذا ، وقد ذكر هذا الرجل الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير ، فقال : قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم
عبد الله أبو يحيى المعروف بالبطال .
كان ينزل أنطاكية ، حكى عنه أبو مروان الأنطاكي .
ثم روى بإسناده أن عبد الملك بن مروان حين عقد لابنه مسلمة على غزو بلاد الروم ولى على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطال وقال لابنه مسلمة : صيره على طلائعك ، وأمره فليعس بالليل العسكر ، فإنه أمين ثقة مقدام شجاع . وخرج معهم عبد الملك يشيعهم إلى باب دمشق .
قال : فقدم مسلمة البطال على عشرة آلاف يكونون بين يديه ترسا من الروم أن يصلوا إلى جيش المسلمين .
بعض من أخبار البطال قال محمد بن عائذ الدمشقي : ثنا الوليد بن مسلم حدثني أبو مروان - شيخ من أهل أنطاكية - قال : كنت أغازي البطال وقد أوطأ الروم ذلا ، قال البطال : فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري فيهم ، فقلت له : خرجت في سرية ليلا ، فدفعنا إلى قرية ، فقلت لأصحابي : أرخوا لجم خيولكم ولا تحركوا أحدا بقتل ولا بسبي حتى تشحنوا القرية فإنهم في نومة . ففعلوا وافترقوا في أزقتها ، فدفعت في أناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه ، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه وهي تقول : لتسكتن أو لأدفعنك إلى البطال يذهب بك . وانتشلته من سريره وقالت : أمسك يا بطال . قال : فأخذته .
وروى محمد بن عائذ بسنده عن البطال قال : انفردت مرة على فرسي ، ليس معي أحد من الجند ، وقد سمطت خلفي مخلاة فيها شعير ، ومعي منديل فيه خبز وشواء ، فبينا أنا أسير لعلي ألقى أحدا منفردا أو أطلع على خبر ، إذا أنا ببستان فيه بقول حسنة ، فنزلت وأكلت من ذلك الخبز والشواء مع البقل ، فأخذني إسهال عظيم قمت منه مرارا ، فخفت أن أضعف من كثرة الإسهال ، فركبت فرسي والإسهال مستمر على حاله ، وجعلت أخشى إن أنا نزلت عن فرسي أن أضعف عن الركوب ، وأفرط بي الإسهال في السرج ، حتى خشيت أن أسقط من الضعف ، فأخذت بعنان الفرس ، ونمت على وجهي لا أدري أين يسير الفرس بي ، فلم أشعر إلا بقرع نعاله على بلاط ، فأرفع رأسي فإذا دير ، وإذا قد خرج منه نسوة صحبة امرأة حسناء جميلة جدا ، فجعلت تقول لهن بلسانها : أنزلنه . فأنزلنني ، فغسلن عني ثيابي وسرجي وفرسي ، ووضعنني على سرير ، وعملن لي طعاما وشرابا فمكثت يوما وليلة مسبوتا ، ثم أقمت بقية ثلاثة أيام حتى تراد إلي حالي ، فبينا أنا كذلك إذ قيل : جاء البطريق . فأمرت بفرسي فحول ، وغلق علي الباب الذي أنا فيه ، وإذا هو بطريق كبير فيهم قد جاء لخطبتها ، فأخبره بعض من كان هناك بأن هذا البيت فيه رجل وله فرس ، فهم بالهجوم علي ، فمنعته المرأة من ذلك ، وأرسلت تقول له : إن فتح عليه الباب لم أقض حاجته . فثناه ذلك عن الهجوم علي ، وأقام إلى آخر النهار في ضيافتهم ، ثم ركب فرسه ، وركب معه أصحابه وانطلق . قال البطال : فنهضت في أثرهم ، فهمت أن تمنعني خوفا علي منهم فلم أقبل ، وسقت حتى لحقتهم ، فحملت عليه ، فانفرج عنه أصحابه وأراد الفرار ، فألحقه فأضرب عنقه واستلبته وأخذت رأسه مسمطا على فرسي ، ورجعت إلى الدير ، فخرجن إلي ووقفن بين يدي ، فقلت : اركبن . فركبن ما هنالك من الدواب ، وسقت بهن حتى أتيت أمير الجيش ، فدفعتهن إليه ، فنفلني ما شئت منهن ، فأخذت تلك المرأة الحسناء بعينها ، فهي أم أولادي . وكان أبوها بطريقا كبيرا فيهم ، وكان البطال بعد ذلك يكاتب أباها ويهاديه .
وذكر محمد بن عائذ بسنده عن مولى خزاعة يخبر عمن سمعه من البطال أن هشام بن عبد الملك لما ولاه المصيصة بعث البطال سرية إلى أرض الروم فغاب عنه خبرها فلم يدر ما صنعوا ، فركب بنفسه وحده على فرس له ، وسار حتى وصل إلى عمورية ، فطرق بابها ليلا ، فقال له البواب : من هذا ؟ قال البطال : فقلت : أنا سياف الملك ورسوله إلى البطريق فخذ لي طريقا إليه . فلما دخلت عليه إذا هو جالس على سرير ، فجلست معه على السرير إلى جانبه ، ثم قلت له : إني قد جئتك في رسالة ، فمر هؤلاء فلينصرفوا . فأمر من عنده فذهبوا . قال : ثم قام فغلق باب الكنيسة علي وعليه ، ثم جاء فجلس ، فاخترطت سيفي ، وضربت به رأسه صفحا ، وقلت له : أنا البطال فاصدقني عما أسألك عنه وإلا ضربت عنقك . قال : وما هو ؟ قلت : السرية التي بعثتها ما خبرها ؟ فقال : هم في بلادي ينتهبون ما تهيأ لهم ، وهذا كتاب قد جاءني يخبر أنهم في وادي كذا وكذا ، والله لقد صدقتك . فقلت : هات الأمان . فأعطاني الأمان ، فقلت : ائتني بطعام . فأمر أصحابه فجاءوا بطعام ، فوضع لي ، فأكلت ثم قمت لأنصرف فقال لأصحابه : اخرجوا بين يدي رسول الملك . فانطلقوا يتعادون بين يدي ، وانطلقت إلى ذلك الوادي الذي ذكر ، فإذا أصحابي هنالك ، فأخذتهم ورجعت إلى المصيصة . فهذا أغرب ما جرى .
قال الوليد : وأخبرني بعض شيوخنا أنه رأى البطال وهو قافل من حجته ، وكان قد شغل بالجهاد عن الحج ، وكان يسأل الله دائما الحج ثم الشهادة ، فلم يتمكن من حجة الإسلام إلا في السنة التي استشهد فيها ، رحمه الله تعالى ، سبب شهادة البطال وكان سبب شهادته أن ليون ملك الروم خرج من القسطنطينية في مائة ألف فارس ، فبعث البطريق - الذي البطال متزوج بابنته التي ذكرنا أمرها - إلى البطال يخبره بذلك فأخبر البطال أمير عساكر المسلمين بذلك ، وكان الأمير مالك بن شبيب ، وقال له : إن المصلحة تقتضي أن نتحصن في مدينة حران ، فنكون بها حتى يقدم علينا سليمان بن هشام في الجيوش . فأبى عليه ذلك ، ودهمهم الجيش ، فاقتتلوا قتالا شديدا والبطال يجول بين يدي الأبطال ، ولا يتجاسر أحد أن ينوه باسمه ; خوفا عليه من الروم فاتفق أن ناداه بعضهم ، وذكر اسمه غلطا منه ، فلما سمع ذلك فرسان الروم حملوا عليه حملة واحدة ، فاقتلعوه من سرجه برماحهم ، فألقوه إلى الأرض ، وساقوا وراء الناس يقتلون فيهم ويأسرون ، وانكسر المسلمون ، وانطلقوا إلى تلك المدينة الخراب فتحصنوا بها ، وأصبح ليون فوقف على مكان المعركة ، فإذا البطال بآخر رمق ، فقال له ليون ما هذا يا أبا يحيى ؟ فقال : هكذا تقتل الأبطال . فاستدعى ليون بالأطباء ليداووه فإذا جراحه قد نفذت إلى مقاتله ، فقال له ليون : هل من حاجة ؟ قال : نعم . قال : وما هي ؟ قال : تأمر من معك من أسارى المسلمين أن يلوا غسلي والصلاة علي ودفني . ففعل ، وأطلق لأجل ذلك أولئك الأسارى ، وانطلق ليون إلى أولئك المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم البرد بقدوم سليمان بن هشام في الجيوش الإسلامية ، ففر ليون في جيشه راجعا إلى القسطنطينية ، قبحه الله . وقتل الأمير الكبير مالك بن شبيب
قال خليفة بن خياط : كانت في سنة إحدى وعشرين ومائة . وقال ابن جرير : في سنة ثنتين وعشرين ومائة . وفاة البطال ومقتله بأرض الروم
وقال أبو حسان الزيادي : قتل في سنة ثلاث عشرة ومائة . قلت : وقد قاله غيره ، وأنه ، كما ذكرنا ذلك . فالله أعلم ، ولكن ابن جرير لم يؤرخ وفاته إلا في هذه السنة . فالله أعلم . قتل هو والأمير عبد الوهاب بن بخت في سنة ثلاث عشرة ومائة
قلت : فهذا ملخص ما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة البطال مع تقصيه للأخبار واطلاعه عليها ، وأما ما يذكره العامة عن البطال من السيرة المنسوبة إلى دلهمة ، والبطال ، والأمير عبد الوهاب ، والقاضي عقبة فكذب وافتراء ، ووضع بارد ، وجهل كبير ، وتخبيط فاحش ، لا يروج ذلك إلا على غبي أو جاهل ردي ، كما يروج عليهم المكذوبة ، وكذلك سيرة البكري ، والدنف وغير ذلك ، والكذب المفتعل في سيرة البكري أشد إثما وأعظم جرما من غيرها ; لأن واضعها يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : سيرة عنترة العبسي . من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار