ووقعت بين هشام وبين الوليد بن يزيد وحشة عظيمة بسبب تعاطي الوليد ما كان يتعاطاه من الفواحش والمنكرات ، فتنكر له هشام وعزم على خلعه وتولية ولده مسلمة ولاية العهد ، ففر منه الوليد إلى الصحراء ، وجعلا يتراسلان بأقبح المراسلات ، وجعل هشام يتوعده وعيدا شديدا ويتهدده ، ولم يزل كذلك حتى مات هشام ، والوليد في البرية ، فلما كانت الليلة التي قدم في صبيحتها عليه البرد بالخلافة ; قلق الوليد تلك الليلة قلقا شديدا ، وقال لبعض أصحابه : ويحك ! قد أخذني الليلة قلق عظيم ، فاركب لعلنا ننبسط ، فسارا ميلين يتكلمان في هشام وما يتعلق به من كتبه إليه بالتهديد والوعيد ، ثم رأيا من بعد رهجا وأصواتا وغبارا ، ثم انكشف ذلك عن برد يقصدونه بالولاية ، فقال لصاحبه : ويحك ! إن هذه رسل هشام اللهم أعطنا خيرها . فلما اقتربت البرد منه وتبينوه ترجلوا إلى الأرض ، وجاءوا فسلموا عليه بالخلافة ، فبهت وقال : ويحكم ! أمات هشام ؟ قالوا : نعم . قال : فمن بعثكم ؟ قالوا : سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل . وأعطوه الكتاب فقرأه ، ثم سألهم عن أحوال الناس ، وكيف مات عمه هشام فأخبروه.
ولما رأى الوليد تقصير هشام في حقه خرج في ناس من خاصته ومواليه ، فنزل بالأزرق من أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له: الأغدق ، وخلف كاتبه عياض بن مسلم ، وقال له: اكتب إلي ما يحدث قبلكم ، فقطع هشام ما كان يجري على الوليد ، وضرب عياضا ضربا مبرحا ، فلم يزل الوليد مقيما بتلك البرية حتى مات هشام ، ووصلت إليه الخلافة ، فسأل عن كاتبه عياض ، فقيل: يا أمير المؤمنين لم يزل محبوسا ، حتى نزل أمر الله بهشام ، فلما صار في حد لا ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان: احتفظوا بما في أيديكم ، ولا يصلن أحد منه إلى شيء ، فأفاق هشام إفاقة ، فطلب شيئا فمنعوه ، فقال: أرانا كنا خزانا للوليد ، ثم مات من ساعته .
فخرج عياض من السجن ، فختم أبواب الخزائن ، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه ، فما وجدوا قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه ، ولا وجدوا كفنا من الخزائن ، وكفنه غالب مولى هشام .