الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            بيعة يزيد بن الوليد سرا ودخوله دمشق وما جاء في ذلك أتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة ، فشاور عمرو بن يزيد الحكمي ، فقال له : لا يبايعك الناس على هذا ، وشاور أخاك العباس فإن بايعك لم يخالفك أحد ، وإن أبى كان الناس له أطوع ، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك . وكان الشام وبيا ، فخرجوا إلى البوادي ، وكان العباس بالقسطل ويزيد بالبادية أيضا بينهما أميال يسيرة ، فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره ، فنهاه عن ذلك ، فرجع وبايع الناس سرا وبث دعاته ، فدعوا الناس ، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه ، فزبره وقال : إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقا وأحملنك إلى أمير المؤمنين . فخرج من عنده . فقال العباس : إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان .

            وبلغ الخبر مروان بن محمد بإرمينية ، فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ، ويكفهم ويحذرهم الفتنة ، ويخوفهم خروج الأمر عنهم ، فأعظم سعيد ذلك وبعث بالكتاب إلى العباس بن الوليد ، فاستدعى العباس يزيد وتهدده ، فكتمه يزيد أمره ، فصدقه ، وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد : إني أظن أن الله قد أذن في هلاككم يا بني مروان ، ثم تمثل :

            إني أعيذكم بالله من فتن مثل الجبال تسامى ثم تندفع     إن البرية قد ملت سياستكم
            فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا     لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم
            إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا     لا تبقرن بأيديكم بطونكم
            فثم لا حسرة تغني ولا جزع

            فلما اجتمع ليزيد أمره وهو متبد أقبل إلى دمشق ، وبينه وبين دمشق أربع ليال ، متنكرا في سبعة نفر على حمير ، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق ، ثم سار فدخل دمشق وقد بايع له أكثر أهلها سرا ، وبايع أهل المزة ، وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج ، فخاف الوباء فخرج منها فنزل قطنا واستخلف ابنه على دمشق ، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي ، فأجمع يزيد على الظهور ، فقيل للعامل : إن يزيد خارج ، فلم يصدق .

            وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب ليلة الجمعة ، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذن العشاء فدخلوا فصلوا ، وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس منه بالليل ، فلما صلى الناس أخرجهم الحرس ، وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد ، فأخذوا الحرس ، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده فقال : قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه . فقام وأقبل في اثني عشر رجلا ، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم ، ولقيهم زهاء مائتي رجل ، فمضوا إلى المسجد فدخلوا وأخذوا باب المقصورة فضربوه فقالوا : رسل الوليد ، ففتح لهم الباب خادم ، فأخذوه ودخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران ، وأخذوا خزان بيت المال ، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ ، وقبض على محمد بن عبيدة ، وهو على بعلبك ، وأرسل بني عذرة إلى محمد بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج فأخذوه .

            وكان بالمسجد سلاح كثير فأخذوه ، فلما أصبحوا جاء أهل المزة ، وتتابع الناس وجاءت السكاسك ، وأقبل أهل داريا ويعقوب بن محمد بن هانئ العبسي ، وأقبل عيسى بن شبيب التغلبي في أهل دومة وحرستا ، وأقبل حميد بن حبيب النخعي في أهل دير مران والأرزة وسطرا ، وأقبل أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا ، وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان ، وأقبلت جهينة ومن والاهم . ثم وجه يزيد بن الوليد بن عبد الملك عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره ، فأخذوه بأمان ، وأصاب عبد الرحمن خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار ، فقيل له : خذ أحد هذين الخرجين . فقال : لا تتحدث العرب عني أني أول من خان في هذا الأمر .

            يزيد بن الوليد الناقص وسبب تلقيبه بالناقص باب ذكر خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك  

            كان يكنى أبا خالد ، وأمه أم ولد ، وهي بنت فيروز بن يزدجرد . وكان أسمر طويلا ، صغير الرأس ، بوجهه خال ، وكان جماعة قد بايعوه قبل قتل الوليد ، فلما قتل اجتمعوا عليه فنقص من أعطيات الناس ما كان زادهم الوليد ، وردهم إلى أعطيات هشام ، فسموه الناقص . وأول من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد .

            وقيل: بل سمي بذلك لنقصان كان في أصابع رجليه ، وهو أول خليفة كانت أمه أمة ، وكانت بنو أمية تتجنب ذلك توطيدا للخلافة؛ ولأنهم سقط إليهم أن ملكهم يزول على يد خليفة منهم أمه أمة ، فكان ذلك مروان بن محمد ، وسيأتي ذكره بعد خلافة يزيد هذا .

            ثم إن يزيد خطب الناس

            ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له ، وأظهر النسك ، وقراءة القرآن ، وأخلاق عمر بن عبد العزيز ، وأحسن السيرة.

            خطبة أمير المؤمنين يزيد بن الوليد بعد استقرار الدولة له وقد خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق  فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، أنا والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ، ولا حرصا على الدنيا ، ولا رغبة في الملك ، وما بي إطراء نفسي ، إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي ، ولكني خرجت غضبا لله ولرسوله ولدينه ، وداعيا إلى الله وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لما هدمت معالم الدين ، وأطفئ نور أهل التقوى ، وظهر الجبار العنيد ، المستحل لكل حرمة ، والراكب كل بدعة ، مع أنه والله ما كان يصدق بالكتاب ، ولا يؤمن بيوم الحساب ، وإنه لابن عمي في النسب ، وكفئي في الحسب ، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره ، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي ، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي ، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد ، بحول الله وقوته ، لا بحولي وقوتي ، أيها الناس ، إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر ، ولا لبنة على لبنة ، ولا أكري نهرا ، ولا أكثر مالا ، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا ، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد ، وخصاصة أهله بما يعينهم ، فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه ، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم ، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم ، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم ، وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة ، وأرزاقكم في كل شهر ، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين ، فيكون أقصاهم كأدناهم ، فإن أنا وفيت لكم بما قلت ، فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة ، وإن أنا لم أف لكم ، فلكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبوني ، فإن تبت قبلتم مني ، وإن علمتم أحدا من أهل الصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم ، فأردتم أن تبايعوه ، فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته ، أيها الناس ، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ،  إنما الطاعة طاعة الله ، فمن أطاع الله فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع ، فإذا عصى فدعا إلى معصيته فهو أهل أن يعصى ويقتل ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم . ويقال في المثل : الأشج والناقص أعدلا بني مروان . يعني عمر بن عبد العزيز وهذا . ولكن لم تطل أيامه

            التالي السابق


            الخدمات العلمية