الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر خلافة المنصور  

            وفي هذه السنة عقد السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لأخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد بالخلافة من بعده ، وجعله ولي عهد المسلمين ، ومن بعد أبي جعفر ولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي ، وجعل العهد في ثوب ، وختمه بخاتمه وخواتيم أهل بيته ، ودفعه إلى عيسى بن موسى .

            فلما توفي السفاح كان أبو جعفر بمكة ، فأخذ البيعة لأبي جعفر عيسى بن موسى ، وكتب إليه يعلمه وفاة السفاح والبيعة له ، فلقيه الرسول بمنزل صفية فقال : صفت لنا إن شاء الله .

            وكتب إلى أبي مسلم يستدعيه ، وكان أبو جعفر قد تقدم ، فأقبل أبو مسلم إليه . فلما جلس وألقى إليه كتابه قرأه وبكى واسترجع ونظر إلى أبي جعفر ، وقد جزع جزعا شديدا ، فقال : ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة ؟ قال : أتخوف شر عمي عبد الله بن علي وشغبه علي . قال : لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله ، إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان وهم لا يعصونني . فسري عنه . وبايع أبو مسلم والناس ، وأقبلا حتى قدما الكوفة .

            وقيل : إن أبا مسلم هو الذي كان تقدم على أبي جعفر ، فعرف الخبر قبله فكتب إليه : عافاك الله ومتع بك ، إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغا لم يبلغه مني شيء قط ، وفاة أمير المؤمنين ، فنسأل الله أن يعظم أجرك ويحسن الخلافة عليك ، إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيما لحقك وأصفى نصيحة [ لك ] وحرصا على ما يسرك مني . ثم مكث يومين وكتب إلى أبي جعفر ببيعته ، وإنما أراد ترهيب أبي جعفر .

            قال : ورد أبو جعفر زياد بن عبد الله إلى مكة ، وكان عاملا عليها وعلى المدينة للسفاح ، وقيل : كان قد عزله قبل موته عن مكة ، وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس .

            ولما بايع عيسى بن موسى الناس لأبي جعفر أرسل إلى عبد الله بن علي بالشام يخبره بوفاة السفاح ، وبيعة المنصور ويأمره بأخذ البيعة للمنصور ، وكان قد قدم قبل ذلك على السفاح فجعله على الصائفة ، وسير معه أهل الشام وخراسان ، فسار حتى بلغ دلوك ، ولم يدرك ، فأتاه موت السفاح ، فعاد بمن معه من الجيوش ، وقد بايع لنفسه . طرف من سيرة أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين قال: طيفور مولى أمير المؤمنين ، : حدثتني سلامة أم أمير المؤمنين ، قالت: لما حملت بأبي جعفر رأيت كأنه خرج من فرجي أسد فزأر ، ثم أقعى ، فاجتمعت حوله الأسد ، فكلما انتهى إليه أسد سجد له . قال: حمدون بن سعد المؤذن ، : رأيت أبا جعفر يخطب على المنبر متعرق الوجه ، يخضب بالسواد ، وكان أسمر طويلا نحيفا خفيف العارضين ، وأمه أم ولد يقال لها: سلامة . ذكر أولاده

            [كان له] المهدي واسمه محمد ، وجعفر ، أمهما أروى بنت منصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميرية ، وكانت تكنى أم موسى ، وكان المنصور قد شرط لها ألا يتزوج عليها ، ولا يتسرى ، وكتبت عليه بذلك كتابا وأشهدت عليه شهودا ، فبقي عليه عشر سنين من سلطانه كذلك ، وكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه ليفتيه برخصة ، فإذا علمت أم موسى أرسلت إلى ذلك الفقيه بمال فلا يفتيه ، فلما ماتت أتته وفاتها وهو بحلوان ، فأهديت إليه تلك الليلة مائة بكر .

            ومن أولاد المنصور  صالح ، أمه أمة ، ويقال: بنت ملك الصغد . وسليمان ، وعيسى ، ويعقوب ، أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله . والغالية أمها من ولد خالد بن أسيد . وجعفر ، والقاسم ، وعبد العزيز ، والعباس .

            فأما جعفر بن أبي جعفر فولي الموصل لأبي جعفر ومات ببغداد ، فولد لجعفر إبراهيم ، وزبيدة وهي أم جعفر ، أمهما سلسل أم ولد جعفر بن جعفر ، وعبيد الله بن جعفر ، وصالح بن جعفر ، ولبابة بنت جعفر . فأما إبراهيم فلا عقب له . وأما زبيدة فتزوجها هارون الرشيد ، وأما لبابة فكانت عند موسى بن المهدي ، وأما عيسى بن جعفر فولي البصرة وكورها وفارس والأهواز واليمامة والسند . قال: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ، : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة ، فأدخلني يوما إلى منزله ثم قدم طعاما ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ، ثم قدم إلي زبيبا ثم قال: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا ، قال: ولا التمر؟ قالت: ولا التمر ، فاستلقى ثم تلا هذه الآية: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون فلما ولي الخلافة دخلت عليه ، فقال: يا عبد الرحمن ، بلغني أنك كنت تفد لبني أمية ، قال: قلت: أجل كنت أفد لهم وأفد إليهم . قال: فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين ، والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك ، تحفظ يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاما ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم ، ثم قدمت إلي زبيبا ثم قلت: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا ، قلت: ولا التمر ، قالت: ولا التمر . فاستلقيت ثم تلوت هذه الآية: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون فقد والله أهلك الله عدوك ، واستخلفك في الأرض ، فانظر ماذا تعمل ، قال: يا عبد الرحمن ، إنا لا نجد الأعوان ، قلت: يا أمير المؤمنين ، السلطان سوق نافق لو نفق عليك الصالحون لجلبوا إليك . قال: فكأني ألقمته حجرا ، فلم يرد علي شيئا .

            قال: أبو الفضل الربعي ، : حدثني أبي ، قال: بينا المنصور ذات يوم يخطب وقد علا بكاؤه إذ قام رجل ، فقال: يا وصاف تأمرنا بما تجتنبه ، وتنهى عما ترتكبه ، بنفسك فابدأ ثم بالناس . فنظر إليه المنصور ثم تأمله مليا ثم قطع الخطبة وقال: يا عبد الجبار خذه إليك ، فأخذه عبد الجبار وعاد إلى خطبته فأتمها ، وقضى الصلاة ثم دخل ، ودعا بعبد الجبار فقال: ما فعل الرجل؟ فقال: محبوس عندنا يا أمير المؤمنين ، قال: أمل له [ثم اعرض له] بالدنيا فإن عزف عنها فلعمري إنه لمريد [للآخرة] ، وإن كان كلامه ليقع موقعا حسنا ، وإن مال إلى الدنيا ورغب فيها إن لي فيه أدبا يزعه عن الوثوب على الخلفاء وطلب الدنيا بعمل الآخرة .

            فخرج عبد الجبار فدعا بالرجل ودعا بغذائه ، فقال [له]: ما حملك على ما صنعت؟ قال: حق لله كان في عنقي فأديته إلى خليفته ، قال: إذا ، فكل ، قال: لا حاجة لي فيه ، قال: وما عليك من أكل الطعام إن كانت نيتك حسنة ، فدنا فأكل ، فلما أكل طمع فيه ، فتركه أياما ثم دعاه فقال: لها عنك أمير المؤمنين وأنت محبوس ، فهل لك في جارية تؤنسك وتسكن إليها؟ قال: ما أكره ذلك . فأعطاه جارية ، ثم أرسل إليه: هذا الطعام قد أكلت ، والجارية قد قبلت ، فهل لك في ثياب تكتسيها وتكسو عيالك إن كان لك عيال ، ونفقة تستعين بها على أمرك إلى أن يدعو بك أمير المؤمنين إن أردت الوسيلة عنده إذا ذكرك ، قال: وما هي؟ قال: أوليك الحسبة والمظالم ، فتكون أحد عماله ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، قال: ما أكره ذلك . فولاه الحسبة والمظالم ، فلما أتى عليه شهر قال عبد الجبار للمنصور: الرجل الذي تكلم بما تكلم به فأمرت بحبسه قد أكل من طعام أمير المؤمنين ولبس من ثيابه ، وعاش في نعمته ، وصار أحد ولاته ، فإن أحب أمير المؤمنين أن أدخله عليه في زي الشيعة فعلت . قال: فأدخله .



            فخرج عبد الجبار فقال: قد دعا بك أمير المؤمنين وقد أعلمته أنك أحد عماله على المظالم والحسبة ، فأدخل عليه في الزي الذي يحب . فألبسه قباء ، وعلق خنجرا في وسطه وسيفا بمعاليق ، وأسبل جمته ، ودخل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال: وعليك ، ألست القائم بنا والواعظ لنا ومذكرنا بأيام الله على رؤوس الملأ؟ قال: نعم ، قال: فكيف تخليت عن مذهبك؟ قال: يا أمير المؤمنين ، فكرت في أمري فإذا أنا [قد] أخطأت فيما تكلمت به ، ورأيت أني مصيب في مشاركة أمير المؤمنين في أمانته ، قال: هيهات! أخطأت استك الحفرة ، هناك يوم أعلنت الكلام وظننا أنك أردت الله به فكففنا عنك ، فلما تبين لنا أنك أردت الدنيا جعلناك عظة لغيرك حتى لا يجترئ بعدك مجترئ على الخلافة ، أخرجه يا عبد الجبار فاضرب عنقه ، فأخرجه فقتله . قال: الأصمعي ، : صعد أبو جعفر المنبر فقال: الحمد لله ، أحمده وأستعينه وأومن به ، وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ، أذكرك من أنت في ذكره ، فقال أبو جعفر: مرحبا مرحبا ، لقد ذكرت جليلا ، وخوفت عظيما ، وأعوذ بالله ممن إذا قيل له: اتق الله ، أخذته العزة بالإثم ، والموعظة منا بدت ، ومن عندنا خرجت ، وأنت يا قائلها فأحلف بالله ما الله أردت بها ، إنما أردت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر ، وأهون بها من قائلها ، وإياكم معشر الناس وأمثالها . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فعاد إلى خطبته كأنما يقرأها من قرطاس .

            وكان المنصور يشتغل في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات ، وسجن الثغور والأطراف ، والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية . فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته ، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف ، وشاور سماره ، وكانت ولاة البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح ، والحبوب والإدام ، وكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم ، وما يرد بيت المال ، وكل حدث ، فإذا صلى المغرب يكتبون إليه بما كان ذلك اليوم ، وإذا نظر في كتبهم ، فإن رأى الأسعار على حالها أمسك ، وإن تغير شيء منها كتب إلى العامل هناك وسأله عن العلة ، فإذا ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله ، وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك وسأل من بحضرته عن علمه ، فإن أنكر شيئا كتب إليه يوبخه ويلومه .

            فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره ، فإذا مضى الثلث الباقي قام من فراشه ، فأسبغ الوضوء ووقف في محرابه حتى يطلع الفجر .

            وأول من اتخذ الخيش المنصور ،  وإنما كانت الأكاسرة تطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم ، فتكون قائلة الملك فيه ، وكان يؤتى بأطنان الخلاف طوالا غلاظا فيوضع حوالي السرير ، ويؤتى بقطع الثلج العظام ما بين أضعافها ، وكانت بنو أمية تفعل ذلك ، فاتخذ المنصور الخيش . وشكى إليه رجل من بعض عماله في قصة فوقع عليها: أكفني أمره وإلا كفيته أمرك .

            ووقع إلى عامل آخر: قد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت . قال: أبو العيناء ، : دخل المنصور في باب الذهب ، فإذا ثلاثة قناديل مصطفة ، فقال: ما هذا؟ أما واحد من هذا كان كافيا! يقتصر من هذا على واحد . قال: فلما أصبح أشرف على الناس وهم يتغدون ، فرأى الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا ، فقال: [يا غلام ، علي بالقهرمان ، قال: ما لي رأيت الطعام قد خف من بين أيديهم قبل أن يشبعوا؟!] قال: يا أمير المؤمنين ، رأيتك قد قدرت الزيت فقدرت الطعام ، فقال: ويلك! أنت لا تفرق بين زيت يحترق في غير ذات الله ، وبين طعام إذا فضل وجدت له آكلا ، أبطحوه ، فبطحوه فضربه سبع درر . وذكر الصولي عن الهيثم بن عدي ، قال: كان المنصور يبخل إلا في الطيب ، فإنه كان يأمر أهله به ، فكان يشتري في رأس كل سنة اثني عشر ألف مثقال من سائره ، فيتطيب كل شهر بألف مثقال ، يخضب به رأسه ولحيته .

            وقال يحيى بن سليم كاتب الفضل بن الربيع: ولم ير في دار المنصور لهو قط ولا شيء يشبه اللعب والعبث .

            وقال حماد التركي: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة في الدار ، فقال: ما هذا يا حماد انظر؟ فذهبت فإذا خادم له قد حبس حوله الجواري وهو يضرب لهن الطنبور وهن يضحكن ، فجئت فأخبرته ، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وصفتها ، فقال: فما يدريك أنت ما الطنبور؟ قلت: رأيته بخراسان فقال: هات نعلي ، فأتيته بها ، فقام يمشي رويدا حتى أشرف عليهم ، فلما بصروا به تفرقوا ، فقال: خذه ، فأخذته ، فقال: اضرب به رأسه ، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته ، ثم قال: أخرجه من قصري ، واذهب به إلى حمران بالكرخ ، وقل له يبيعه .

            وقال سالم الأبرش: كان المنصور من أحسن الناس ، فإذا لبس ثيابه تغير لونه ، وتربد وجهه فاحمرت عيناه ، ويكون منه ما يكون ، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك .

            وقال يوما: يا بني إذا رأيتموني قد لبست ثيابي ورجعت من مجلسي فلا يدنون أحد منكم مني؛ لئلا أغره بشر . طرف من كلام أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور قال: أبو عبيد الله : سمعت المنصور يقول: الخليفة لا يصلحه إلا التقوى ، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، والرعية لا يصلحها إلا العدل ، وأولى [الناس] بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه . قال المنصور: كانت العرب تقول: العري الفادح خير من الزي الفاضح .

            وقال أيضا: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثا: إفشاء السر ، والتعرض للحرمة ، والقدح في الملك .



            وقال: سرك من دمك فانظر من تملكه .

            وقال: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ ، ومن أضعف فقد شكر ، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم ، ولا تلتمس من غيرك شكر ما أتيته إلى نفسك ، ووقيت به عرضك ، واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن قصدك فأكرم وجهك عن رده .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية