الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ربيعة بن أبي عبد الرحمن واسمه فروخ ، مولى آل المنكدر التيمي ،  تيم قريش ، الذي يقال له: ربيعة الرأي ، ويكنى ربيعة أبا عثمان ، ويقال: أبا عبد الرحمن ، مديني:

            سمع من أنس بن مالك ، والسائب بن يزيد ، وعامة التابعين من أهل المدينة .

            روى عنه مالك ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، والليث بن سعد ، وغيرهم .

            وكان عالما فقيها ثقة ، وأقدمه السفاح الأنبار ليوليه القضاء .

            وقال يونس بن يزيد: رأيت أبا حنيفة عند ربيعة ومجهود أبي حنيفة أن يفهم ما يقول .

            وقال: عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ، حدثني مشيخة أهل المدينة: أن فروخا أبا عبد الرحمن خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيا ، وربيعة حمل في بطن أمه ، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار ، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة ، وهو راكب فرسا ، وفي يده رمح ، فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه ، فخرج ربيعة ، فقال له: يا عدو الله ، أتهجم على منزلي؟ فقال: لا ، وقال فروخ: يا عدو الله ، أنت دخلت على حرمتي ، فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران ، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة ، فأتوا يعينون ربيعة ، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان ، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي ، وكثر الضجيج ، فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم ، فقال: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار ، فقال الشيخ: هي داري ، وأنا فروخ مولى بني فلان ، فسمعت امرأته كلامه فخرجت ، فقالت: هذا زوجي ، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به ، فاعتنقا جميعا وبكيا ، فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟ قالت: نعم ، قال: فأخرجي المال الذي [لي] عندك ، وهذه معي أربعة آلاف دينار ، فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام .

            ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته ، وأتاه مالك بن أنس ، والحسن بن زيد ، وابن أبي علي اللهبي ، والمساحقي ، وأشراف أهل المدينة ، وأحدق الناس به ، فقالت امرأته: اخرج فصل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة ، فأتاها فوقف بها وفرجوا له قليلا ، ونكس ربيعة رأسه وأوهمه أنه لم يره ، وعليه طرحة طويلة ، فشك فيه أبو عبد الرحمن ، فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني ، ثم رجع إلى منزله ، فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه عليها ، فقالت أمه: فأيما أحب إليك؟ ثلاثون ألف دينار ، أو هذا الجاه الذي هو فيه؟ فقال: لا والله إلا هذا ، قالت: فإني أنفقت المال كله عليه ، قال: فوالله ما ضيعتيه .

            قال بكر بن عبد الله بن الشرود الصنعاني ، : أتينا مالك بن أنس ، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي ، فكنا نستزيده من حديث ربيعة ، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق ، فأتينا ربيعة فأنبهناه ، فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن؟ قال: نعم ، قلنا: ربيعة بن فروخ؟ قال: بلى ، قلنا: ربيعة الرأي؟ قال: نعم ، قلنا: الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم ، قلنا: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل علم .

            وقال مالك: لما قدم ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له بجائزة فأبى أن يقبلها ، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية ، فأبى أن يقبلها .

            قال ابن وهب: وحدثني مالك ، عن ربيعة ، قال: قال لي حين أراد الخروج إلى العراق: إن سمعت أني حدثتهم شيئا أو أفتيتهم فلا تعدني شيئا ، قال: فكان كما قال ، لما قدمها لزم بيته فلم يخرج إليهم ولم يحدثهم بشيء حتى رجع .

            قال مالك بن أنس : ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي .

            توفي ربيعة بالمدينة ، وقيل: بالأنبار في هذه السنة .

            عبيد الله بن أبي جعفر ، مولى بني كنانة:

            ولد سنة ستين ، ورأى عبد الله بن الحارث بن جزء ، وكان عالما زاهدا . روى عن محمد بن إسحاق وغيره من أهل المدينة ، وكان سليمان بن داود يقول: ما رأت عيناي عالما زاهدا إلا عبيد الله بن أبي جعفر .

            وعن عبيد الله بن أبي جعفر ، قال: غزونا إلى قسطنطينية فانكسر مركبنا ، فألقانا الموج على حشفة في البحر ، وكنا خمسة أو ستة ، فأنبت الله بعددنا ورقا ، لكل رجل منا ورقة ، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا ، فإذا أمسينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب ، فحملنا .

            توفي عبيد الله بمصر في هذه السنة . ويقال: في سنة اثنتين وثلاثين ، وصلى [عليه] أبو عون عبد الملك بن يزيد أمير مصر .

            عبد الكريم بن الحارث بن يزيد ، أبو الحارث الحضرمي:

            روى عنه حيوة بن شريح ، وابن لهيعة وغيرهما . وكان من العباد المجتهدين ، فلو قيل: إن الساعة تقوم غدا ما كان فيه فضل [لمزيد] ، وقيل له: ما أحسن عزاءك عند المصائب! فقال: إني أوطن نفسي عليها قبل نزولها . مليكة بنت المنكدر:

            كانت عابدة مجتهدة ، وكلمت في الرفق بنفسها ، فقالت: دعوني أبادر طي صحيفتي .

            قال مالك بن دينار: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بامرأة جهيرة في الحجر وهي تقول: أتيتك من شقة بعيدة مؤملة بمعروفك ، فأنلني معروفا من معروفك تعينني به عن معروف من سواك يا معروفا بالمعروف . فعرفت أيوب السختياني ، وسألنا عن منزلها ، وقصدناها ، وسلمنا عليها ، فقال لها أيوب السختياني: قولي خيرا يرحمك الله ، قالت: وما أقول؟ أشكو إلى الله قلبي وهواي فقد أضراني وشغلاني عن عبادة ربي عز وجل ، قوما فإني أبادر طي صحيفتي .

            قال أيوب السختياني: فما حدثت نفسي بامرأة قبلها ، فقلت لها: لو تزوجت رجلا كان يعينك على ما أنت عليه ، قالت: لو كان مالك بن دينار أو أيوب السختياني ما أردته ، فقلت: أنا مالك بن دينار وهذا أيوب السختياني ، فقالت: أف! لقد ظننت أنه يشغلكما ذكر الله سبحانه وتعالى عن محادثة النساء ، وأقبلت على صلاتها ، فسألت عنها ، فقالوا: هذه مليكة بنت المنكدر .

            توفيت مليكة رضي الله عنها في هذه السنة ، وهي سنة ست وثلاثين ومائة ، ودفنت بالمدينة ، وقيل بمكة ، والله عز [وجل أعلم] .

            وممن توفي فيها من الأعيان : الخليفة السفاح كما تقدم وأشعث بن سوار ، وجعفر بن ربيعة ، وحصين بن عبد الرحمن ، وربيعة الرأي ، وزيد بن أسلم ، وعبد الملك بن عمير ، وعطاء بن السائب .

            وفيها مات عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم . وفيها توفي عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الفرسي ، وإنما قيل له الفرسي ، بالفاء ، [ نسبة إلى فرس له ] . وعطاء بن السائب أبو زيد الثقفي . وعروة بن رويم .

            .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية