الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الحسن بن يزيد ، أبو يونس العجلي القوي .

            سمع من أبي مسلمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد .

            قال: إسماعيل بن زياد : إنما [سمي] أبو يونس: القوي لقوته على العبادة ، صلى حتى أقعد ، وبكى حتى عمي ، وصام حتى صار كالحشفة . سالم بن قتيبة .

            كان أميرا كبيرا ، غزير العقل ، حسن المحضر . وولاه المنصور البصرة ثم عزله .

            عن أبي المعلى الثقفي يقول: جرى ذكر رجل في مجلس سالم بن قتيبة فتناوله بعض أهل المجلس ، فقال: يا هذا أوحشتنا من نفسك ، وآنستنا من مودتك ، ودللتنا على عورتك .

            قال الأصمعي: أتى أهلنا سالم بن قتيبة في حاجة فقالوا له: جئناك فيما لا يرزأك ولا ينكأك . فقال: لا جاء الله بكم إذن ، فلم جئتموني عليكم بلئام الناس .

            توفي سالم في هذه ، وصلى عليه المهدي . عمران بن حرير ، أبو عبيدة السدوسي البصري .

            سمع عكرمة ، وأبا مجلز . وسمع منه: شعبة ، ووكيع . وتوفي في هذه السنة . كرز بن وبرة .

            كوفي الأصل ، سكن جرجان ، أسند عن طاووس ، وعطاء والربيع بن خثيم وغيرهم . وكان متعبدا .

            قال: محمد بن فضيل بن غزوان ، عن أبيه قال: دخلت على كرز بن وبرة بيته وإذا عند مصلاه حفرة قد ملأها تبنا ، وبسط عليها كساء ، من طول القيام . وكان يقرأ في اليوم والليلة القرآن ثلاث مرات .

            وقال: أبو سليمان المكتب قال: صحبت كرزا إلى مكة ، وكان إذا نزل أدرج ثيابه فألقاها على الرحل ، ثم تنحى للصلاة ، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل فاحتبس يوما عن الوقت ، فانبثت أصحابه في طلبه . فكنت فيمن طلبه . قال: فأصبته في وهدة يصلي في ساعة حارة ، وإذا سحابة تظله ، فلما رآني أقبل نحوي ، فقال: يا أبا سليمان ، لي إليك حاجة . قلت: وما حاجتك؟ قال: أحب أن تكتم علي ما رأيت . قال: قلت: ذاك لك . قال: أوثق لي . فحلفت أن لا أخبر به أحدا حتى يموت . كهمس بن الحسن ، أبو عبد الله القيسي .

            كان متعبدا ورعا ، يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء ، فوالله ما رضيتك لله ساعة قط .

            قال: عمارة بن زادان : قال لي كهمس: يا أبا سلمة ، أذنبت ذنبا ، فأنا أبكي عليه أربعين سنة . قلت: ما هو يا أبا عبد الله؟ قال: زارني أخ لي فاشتريت له سمكا بدانق ، فلما أكل قمت إلى حائط جار لي ، فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده ، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة . عابد علوي مديني .

            قال: إبراهيم بن عبد الله بن العلاء : حدثني أبي قال: سمعت أبا عامر الواعظ يقول: بينا أنا جالس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءني غلام أسود برقعة فقرأتها ، فإذا فيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم . متعك الله بمسامرة الفكرة ، ونعمك بمؤانسة العبرة ، وأفردك بحب الخلوة ، يا أبا عامر ، أنا رجل من إخوانك بلغني قدومك المدينة فسررت بذلك ، وأحببت زيارتك وبي من الشوق إلى مجالستك والاستماع لمحادثتك ، ما لو كان فوقي لأظلني ، ولو كان تحتي لأقلني ، سألتك بالذي حباك بالبلاغة لما ألحقتني جناح التوصل من زيارتك . والسلام .

            قال أبو عامر: فقمت مع الرسول حتى أتى بي إلى فناء فأدخلني منزلا رحبا خربا . فقال لي: قف ها هنا حتى أستأذن لك . فوقف ، فخرج إلي فقال لي: لج . فدخلت ، فإذا بيت مفرد في الخربة ، له باب من جريد النخل ، وإذا بكهل قاعد مستقبل القبلة ، تخاله من الوله مكروبا ، ومن الخشية محزونا ، قد ظهرت في وجهه أحزانه ، وذهبت من البكاء عيناه ، ومرضت أجفانه ، فسلمت عليه ، فرد علي السلام ، ثم تحرك ، فإذا هو أعمى أعرج مسقام . فقال لي: يا أبا عامر ، غسل الله من درن الذنوب قلبك ، لم يزل قلبي إليك تواقا ، وإلى سماع الموعظة منك مشتاقا ، وبي جرح بعد ، قد أعيا الواعظين دواه ، وأعجز المتطببين شفاؤه ، وقد بلغني نفع مراهمك للجراح والآلام ، فلا تألو - رحمك الله - في إيقاع الترياق ، وإن كان مر المذاق ، فإني ممن يصبر على ألم الدواء رجاء الشفاء . قال أبو عامر: فنظرت إلى منظر بهرني ، وسمعت كلاما قطعني ، فأفكرت طويلا ، ثم تأتي من كلامي ما تأتي ، وسهل من صعوبته ما منه يرق لي . فقلت: يا شيخ ، ارم ببصر قلبك في ملكوت السماء ، وأجل سمع معرفتك في سكان الأرجاء ، وتنقل بحقيقة إيمانك إلى جنة المأوى فترى ما أعد الله فيها للأولياء ، ثم تشرف على نار لظى فترى ما أعد فيها للأشقياء ، فشتان ما بين الدارين ، أليس الفريقان في الموت سواء؟ قال أبو عامر: فأن أنة ، وصاح صيحة ، وزفر والتوى ، وقال: يا أبا عامر ، وقع والله دواؤك على دائي ، وأرجو أن يكون عندك شفائي ، زدني رحمك الله . فقلت له: يا شيخ ، إن الله عالم بسريرتك ، مطلع على خفيتك ، شاهدك في خلوتك بعينه ، [أين] كنت عند استتارك من خلقه ومبارزته . فصاح صيحة كصيحته الأولى . ثم قال: من لفقري ، من لفاقتي ، من لذنبي ، من لخطيئتي؟ أنت يا مولاي ، وإليك منقلبي . ثم خر ميتا رحمه الله . قال أبو عامر: فأسقط في يدي وقلت: ما جنيت على نفسي .

            فخرجت إلى جارية عليها مدرعة صوف ، وخمار من صوف ، قد ذهب السجود بجبينها وأنفها ، واصفر لطول القيام لونها ، وتورمت قدماها ، فقالت: أحسنت والله يا حادي قلوب العارفين ، ومثير أشجان غليل المحزونين ، لا نسي لك هذا المقام رب العالمين ، يا أبا عامر ، هذا الشيخ والدي ، مبتلى بالسقم منذ عشر سنين ، صلى حتى أقعد ، وبكى حتى عمي ، وكان يتمناك على الله ويقول: حضرت مجلس أبي عامر البناني ، فأحيا موات قلبي ، وطرد وسن نومي ، فإن سمعته ثانية قتلني ، فجزاك الله من واعظ خيرا ، ومتعك من كلمك بما أعطاك ، ثم أكبت على أبيها تقبل عينيه وهي تبكي وتقول: يا أبي ، يا أبتاه ، يا من أعماه البكاء ، يا أبي ، يا أبتاه ، يا من قتله ذكر وعيد ربه ثم علا البكاء والنحيب والاستغفار والدعاء ، وجعلت تقول: يا أبي ، يا أبتاه ، يا حليف الحرقة والبكاء . يا أبي يا أبتاه ، يا جليس الابتهال والدعاء ، يا أبي ، يا أبتاه ، يا صريخ المذكرين والخطباء ، يا أبي يا أبتاه ، يا قتيل الوعاظ والحكماء . قال أبو عامر: فأجبتها: أيتها الباكية الجرباء ، والنادبة الثكلى ، إن أباك نحبه قد قضي ، وورد دار الجزاء ، وعاين كل ما عمل ، وعليه يحصى في كتاب عند ربي ، لا ينسى لمحسن فله الزلفى ، أو مسيء فوارد دار من أساء . فصاحت الجارية كصيحة أبيها ، ثم جعلت ترشح عرقا ، وخرجت مبادرا إلى مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وفرغت إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والتضرع والبكاء حتى إذا كان عند صلاة العصر ، فجاءني الغلام الأسود فأذنني بجنازتيهما وقال: احضر الصلاة عليهما ودفنتهما . وسألت عنهما فقيل لي من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم .

            قال أبو عامر: فما زلت جزعا حذرا مما جنيت ، حتى رأيتهما في المنام عليهما حلتان خضراوتان ، فقلت: مرحبا بكما وأهلا ، فما زلت حذرا بما وعظتكما به ، ماذا صنع الله بكما؟ فقال الشيخ:


            أنت شريكي في الذي نلته مستأهلا ذاك يا أبا عامر     وكل من أيقظ ذا غفلة
            فنصف ما يعطاه للآمر     من رد عبدا آبقا مذنبا
            كان كمن قد راقب القاهر     واجتمعا في دار عدل وفي
            جوار رب سيد غافر



            وعيسى بن عمر  أبو عمر الثقفي البصري النحوي شيخ سيبويه ، يقال : إنه من موالي خالد بن الوليد ، وإنما نزل في ثقيف ، فنسب إليهم . كان إماما كبيرا جليلا في اللغة والنحو والقراءات ، أخذ ذلك عن عبد الله بن كثير وابن محيصن وعبد الله بن أبي إسحاق ، وسمع الحسن البصري وغيرهم ، وعنه الخليل بن أحمد ، والأصمعي ، وسيبويه ، ولزمه وعرف به وانتفع به ، وأخذ كتابه الذي صنفه وسماه " الجامع " فزاد عليه وبسطه ، فهو " كتاب سيبويه " اليوم ، وكان يسأل عما أشكل فيه عليه شيخه الخليل بن أحمد ، وقد سأل الخليل يوما سيبويه عما صنف عيسى بن عمر فقال : جمع بضعا وسبعين كتابا ، ذهبت كلها إلا كتابه " الإكمال " ، وهو بأرض فارس وكتابه " الجامع " ، وهو الذي أشتغل فيه وأسألك عن غوامضه . فأطرق الخليل ساعة ثم أنشد :


            ذهب النحو جميعا كله     غير ما أحدث عيسى بن عمر
            ذاك إكمال وهذا جامع     وهما للناس شمس وقمر

            وقد كان عيسى يغرب ويتقعر في عبارته جدا ، وقد حكى الجوهري عنه في الصحاح أنه سقط يوما عن حماره ، فاجتمع عليه الناس فقال : ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة؟! افرنقعوا عني . معناه : ما لكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون؟! انكشفوا عني .

            وقال غيره : كان به ضيق النفس ، فسقط بسببه ، فاعتقد الناس أنه مصروع ، فجعلوا يعوذونه ويقرءون عليه ، فلما أفاق من غشيته قال ما قال ، فقال بعضهم : إن جنيته تتكلم بالفارسية .

            وذكر القاضي ابن خلكان أنه كان صاحبا لأبي عمرو بن العلاء ، وأن عيسى بن عمر قال يوما لأبي عمرو بن العلاء : أنا أفصح من معد بن عدنان . فقال له أبو عمرو : كيف تنشد هذا البيت :


            قد كن يخبأن الوجوه تسترا     فاليوم حين بدأن للنظار

            أو " بدين " ؟ فقال : بدين . فقال أبو عمرو : أخطأت . ولو قال : بدأن . لأخطأ أيضا ، وإنما أراد أبو عمرو تغليطه ، وإنما الصواب : بدون ، من بدا يبدو إذا ظهر . وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية