ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة
فيها غضب المنصور على كاتبه أبي أيوب المورياني وسجنه ، وسجن أخاه خالدا وبني أخيه الأربعة; سعيدا ومسعودا ومخلدا ومحمدا ، وطالبهم بالأموال الكثيرة . وكان سبب ذلك ما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي جعفر المنصور ، وهو أنه كان في زمن شبيبته قد ورد الموصل وهو فقير لا شيء له ، ولا معه ، فأجر نفسه من بعض الملاحين حتى اكتسب شيئا تزوج به امرأة ، ثم جعل يعدها ويمنيها أنه من بيت سيصير إليهم الملك سريعا ، فاتفق حبلها منه ، ثم تطلبه بنو أمية ، فهرب عنها ، وتركها حاملا ، ووضع عندها رقعة فيها نسبه; أنه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وأمرها إذا بلغها أمره أن تأتيه ، وإذا ولدت غلاما أن تسميه جعفرا ، فولدت غلاما فسمته جعفرا ، ونشأ الغلام فتعلم الكتابة ، وغوى العربية والأدب ، وأتقن ذلك إتقانا جيدا ، ثم آل الأمر إلى بني العباس ، فسألت عن السفاح ، فإذا هو ليس صاحبها ، ثم قام المنصور ، وسافر الولد إلى بغداد فاختلط بكتاب الرسائل ، فأعجب به أبو أيوب المورياني صاحب ديوان الإنشاء للمنصور ، وحظي عنده وقدمه على غيره ، فاتفق حضوره معه بين يدي الخليفة ، فجعل الخليفة يلاحظه ، ثم بعث يوما الخادم ليأتيه بكاتب ، فدخل ومعه ذلك الغلام ، فكتب بين يدي الخليفة كتابا ، وجعل الخليفة ينظر إليه ويتأمله ، ثم سأله عن اسمه ، فأخبره أنه جعفر ، فقال : ابن من؟ فسكت الغلام ، فقال : ما لك لا تتكلم؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من خبري كيت وكيت ، فتغير وجه الخليفة ، ثم سأله عن أمه فأخبره ، وسأله عن أحوال بلد الموصل ، فجعل يخبره والغلام يتعجب ، ثم قام إليه الخليفة ، فاحتضنه وقال : أنت ابني . ثم بعثه بعقد ثمين ومال جزيل وكتاب إلى أمه يعلمها بحقيقة حال الزوج .
وخرج الغلام ومعه ذلك من باب سر الخليفة ، فأحرز ذلك ، ثم جاء إلى أبي أيوب ، فقال : ما أبطأ بك عند الخليفة؟ فقال : إنه استكتبني في رسائل كثيرة . ثم تقاولا ، ثم فارقه الغلام مغضبا ، ونهض من فوره ، فاستأجر إلى الموصل ليعلم أمه ، ويحملها وأهلها إلى بغداد إلى مكان منها أمر به الخليفة . فسار مراحل ، ثم سأل عنه أبو أيوب ، فقيل : سافر . فظن أبو أيوب أن هذا قد أفشى شيئا من أسراره إلى الخليفة وفر منه ، فبعث في طلبه رسولا وقال : حيث وجدته فرده علي . فسار الرسول في طلبه ، فوجده في بعض المنازل ، فخنقه وألقاه في بئر ، وأخذ ما كان معه ، فرجع به إلى أبي أيوب ، فلما وقف أبو أيوب على الكتاب أسقط في يده ، وندم على بعثه خلفه ، وانتظر الخليفة عود ولده إليه واستبطأه ، فبعث من كشف خبره ، فإذا رسول أبي أيوب قد لحقه وقتله ، فحينئذ استحضر أبا أيوب ، وألزمه بأموال عظيمة ، وما زال تحت العقوبة حتى استصفى جميع أمواله وحواصله ، ثم قتله ، وقال : هذا قتل حبيبي . وكان المنصور كلما ذكر ولده حزن عليه حزنا شديدا .