الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            غزو الصائفة

            وغزا الصائفة من طريق درب الراهب معيوف بن يحيى في جحفل كثيف ، وقد أقبلت الروم مع بطريقها فبلغوا الحدث . ذكر ظهور الحسين بن علي بن الحسن  

            وفي هذه السنة ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة ، وهو المقتول بفخ عند مكة .

            وكان سبب ذلك أن الهادي استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فلما وليها أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ، ومسلم بن جندب ، الشاعر الهذلي ، وعمر بن سلام ، مولى آل عمر ، على شراب لهم فأمر بهم ، فضربوا جميعا ، وجعل في أعناقهم حبال ، وطيف بهم في المدينة .

            فجاء الحسين بن علي إلى العمري وقال له : قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم لأن أهل العراق لا يرون به بأسا ، فلم تطوف بهم ؟ فأمر بهم فردوا ، وحبسهم .

            ثم إن الحسين بن علي ، ويحيى بن عبد الله بن الحسن ، كفلا الحسن بن محمد ، فأخرجه العمري من الحبس ، وكان قد ضمن بعض آل أبي طالب بعضا ، وكانوا يعرضون ، فغاب الحسن بن محمد عن العرض يومين ، فأحضر الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله ، وسألهما عنه ، وأغلظ لهما ، فحلف له يحيى أنه لا ينام حتى يأتيه به ، أو يدق عليه باب داره حتى يعلم أنه جاءه به .

            فلما خرجا قال له الحسين : سبحان الله ! ما دعاك إلى هذا ؟ ومن أين تجد حسنا ؟ حلفت له بشيء لا تقدر عليه . فقال : والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف . فقال له الحسين : إن هذا ينقض ما كان بيننا وبين أصحابنا من الميعاد .

            وكانوا قد تواعدوا على أن يظهروا بمنى وبمكة في الموسم ، فقال يحيى : قد كان ذلك ، فانطلقا وعملا في ذلك من ليلتهم ، وخرجوا آخر الليل ، وجاء يحيى حتى ضرب على العمري باب داره ، فلم يجده ، وجاءوا فاقتحموا المسجد وقت الصبح ، فلما صلى الحسين الصبح أتاه الناس ، فبايعوه على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد ، وجاء خالد البريدي في مائتين من الجند ، وجاء العمري ، ووزير بن إسحاق الأزرق ، ومحمد بن واقد الشروي ، ومعه ناس كثير ، فدنا خالد منهم ، فقام إليه يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن الحسن ، فضربه يحيى على أنفه فقطعه ، ودار له إدريس من خلفه ، فضربه فصرعه ، ثم قتلاه ، فانهزم أصحابه ، ودخل العمري في المسودة ، فحمل عليهم أصحاب الحسين ، فهزموهم من المسجد ، وانتهبوا بيت المال ، وكان فيه بضعة عشر ألف دينار ، وقيل سبعون ألفا ، وتفرق الناس وأغلق أهل المدينة أبوابهم .

            فلما كان الغد اجتمع عليهم شيعة بني العباس فقاتلوهم ، وفشت الجراحات في الفريقين ، واقتتلوا إلى الظهر ، ثم افترقوا ، ثم إن مباركا التركي أتى شيعة بني العباس من الغد ، وكان قدم حاجا ، فقاتل معهم ، فاقتتلوا أشد قتال إلى منتصف النهار .

            ثم تفرقوا ، ورجع أصحاب الحسين إلى المسجد ، وواعد مبارك الناس الرواح إلى القتال ، فلما غفلوا عنه ركب رواحله وانطلق ، وراح الناس فلم يجدوه ، فقاتلوا شيئا من قتال إلى المغرب ، ثم تفرقوا .

            وقيل إن مباركا أرسل إلى الحسين يقول له : والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير أيسر علي من أن تشوكك شوكة ، أو أقطع من رأسك شعرة ، وكان لا بد من الإعذار ، فتبيتني ، فإني منهزم عنك ، فوجه إليه الحسن ، وخرج إليه في نفر ، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروا ، فانهزم هو وأصحابه .

            وأقام الحسين وأصحابه أياما يتجهزون ، فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما ، ثم خرجوا لست بقين من ذي القعدة ، فلما خرجوا عاد الناس إلى المسجد ، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون ، ( وآثارهم فدعوا ) عليهم .

            ولما فارق المدينة قال : يا أهل المدينة ! لا خلف الله عليكم بخير . فقالوا : بل أنت لا خلف الله عليك ولا ردك علينا ! وكان أصحابه يحدثون في المسجد ، فغسله أهل المدينة .

            ولما أتى الحسين مكة أمر فنودي : أيما عبد أتانا فهو حر . فأتاه العبيد . فانتهى الخبر إلى الهادي ، وكان قد حج تلك السنة رجال من أهل بيته ، منهم : سليمان بن المنصور ، ومحمد بن سليمان بن علي ، والعباس بن محمد بن علي ، وموسى وإسماعيل ابنا عيسى بن موسى ، فكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بتوليته على الحرب ، وكان قد سار بجماعة وسلاح من البصرة لخوف الطريق ، فاجتمعوا بذي طوى ، وكانوا قد أحرموا بعمرة ، فلما قدموا مكة طافوا وسعوا ، وحلوا من العمرة ، وعسكروا بذي طوى ، وانضم إليه من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم .

            ثم إنهم اقتتلوا يوم التروية ، فانهزم أصحاب الحسين ، وقتل منهم ، وجرح ، وانصرف محمد بن سليمان ومن معه إلى مكة ، ولا يعلمون ما حال الحسين ، فلما بلغوا ذا طوى لحقهم رجل من أهل خراسان يقول : البشرى ، البشرى ، هذا رأس الحسين فأخرجه ، وبجبهته ضربة طولى ، وعلى قفاه ضربة أخرى ، وكانوا قد نادوا الأمان ، فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله ، أبو الزفت ، فوقف خلف محمد بن سليمان ، والعباس بن محمد ، فأخذه موسى بن عيسى ، وعبد الله بن العباس بن محمد ، فقتلاه .

            فغضب محمد بن سليمان غضبا شديدا ، وأخذ رءوس القتلى ، فكانت مائة رأس ونيفا ، وفيها رأس [ الحسن بن محمد ] بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي .

            وأخذت أخت الحسين ، فتركت عند زينب بنت سليمان ، واختلط المنهزمون بالحاج ، وأتي الهادي ( بستة أسرى ) ، فقتل بعضهم ، واستبقى بعضهم ، وغضب على موسى بن عيسى كيف قتل الحسن بن محمد ، وقبض أمواله ، فلم تزل بيده حتى مات ، وغضب على مبارك التركي ، وأخذ ماله ، وجعله سائس الدواب ، فبقي كذلك حتى مات الهادي . [ بدء الأسرة الإدريسية بالمغرب   ] وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ، فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور ، وكان شيعيا لعلي ، فحمله على البريد إلى أرض المغرب ، فوقع بأرض طنجة ، بمدينة وليلة ، فاستجاب له من بها من البربر . فضرب الهادي عنق واضح وصلبه .

            وقيل : إن الرشيد هو الذي قتله . وإن الرشيد دس على إدريس الشماخ اليمامي ، مولى المهدي ، فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم ، وعظمه ، وآثره على نفسه ، فمال إليه إدريس ، وأنزله عنده .

            ثم إن إدريس شكا إليه مرضا في أسنانه ، فوصف له دواء ، وجعل فيه سما ، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر ، فأخذه منه ، وهرب الشماخ ، ثم استعمل إدريس الدواء ، فمات منه ، فولى الرشيد الشماخ بريد مصر .

            ولما مات إدريس بن عبد الله خلف مكانه ابنه إدريس بن إدريس وأعقب بها ، وملكوها ، ونازعوا بني أمية في إمارة الأندلس على ما نذكره إن شاء الله تعالى .

            وحملت الرءوس إلى الهادي ، فلما وضع رأس الحسين بين يدي الهادي قال : كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت ! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم ، فلم يعطهم شيئا .

            وكان الحسين شجاعا ، كريما ، قدم على المهدي ، فأعطاه أربعين ألف دينار ، ففرقها في الناس ببغداذ والكوفة ، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فروا ليس تحته قميص . اشتداد طلب موسى للزنادقة

            وفيها : اشتد طلب موسى للزنادقة ، فقتل منهم جماعة ، فكان فيمن قتل منهم كاتب يقطين وابنه علي بن يقطين وكان علي قد حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون فقال: ما أشبههم ببقر يدوس في البيدر . فقال شاعر:


            قل لأمين الله في خلقه ووراث الكعبة والمنبر     ماذا ترى في رجل كافر
            يشبه الكعبة بالبيدر     ويجعل الناس إذا ما سعوا
            حمرا يدوس البر والدوسر

            فقتله موسى ثم صلبه ، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره ، وقتل من بني هاشم يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان المهدي أتي به وبابن لداود بن علي فحبسهما لما أقرا له بالزندقة ، وقال ليعقوب: لولا محمد [رسول الله] صلى الله عليه وسلم من كنت! أما والله لولا إني كنت جعلت على الله عهدا إن ولاني أن لا أقتل هاشميا لما ناظرتك ، ثم التفت إلى الهادي فقال: يا موسى ، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا الأمر من بعدي أن لا تناظرهما ساعة واحدة . فمات ابن داود بن علي في الحبس قبل وفاة المهدي ، فلما قدم الهادي من جرجان ذكر وصية المهدي ، فأرسل إلى يعقوب فألقى عليه فراشا ، وأقعدت عليه الرجال حتى مات ، ولها عنه ، وكان الحر شديدا فقيل له: قد انتفخ ، فقال: ابعثوا به إلى أخيه إسحاق بن الفضل فأخبروه أنه مات في الحبس ، فبعث إليه ، فإذا ليس فيه موضع للغسل ، فدفن من ساعته .

            وكان ليعقوب ابنة تسمى فاطمة ، فوجدت حبلى منه ، وأقرت بذلك ، فأدخلت وامرأة يعقوب بن داود يقال لها خديجة على الهادي - أو على المهدي - فأقرتا بالزندقة وأقرت فاطمة أنها حبلى من أبيها ، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس فرأتهما مكحلتين مخضوبتين ، فعذلتهما ، خصوصا البنت ، فقالت: أكرهني - فقالت لها: فما بال الخضاب والكحل ولعنتهما ، ففزعتا فماتتا . وفيها خرج بالجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي ، وعلى خراجها المنصور بن زياد ، فسير جيشا إلى الخارجي ، فالتقوا بباعربايا ، من بلد الموصل ، فهزمهم الخارجي وغنم أموالهم ، وقوي أمره ، فأتى رجلان ، وصحباه ، ثم اغتالاه فقتلاه . من حج في هذه السنة

            وفيها: حج بالناس في هذه السنة سليمان بن المنصور .

            وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري ، وكان على مكة والطائف عبيد الله بن قثم ، وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة ، وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد الخراساني ، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها موسى بن عيسى ، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان ، وعلى قضائها عمر بن عثمان ، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي ، وعلى قومس زياد بن حسان ، وعلى طبرستان والرويان صالح بن شيخ ابن أبي عميرة الأسدي .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية