هو موسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، أبو محمد الهادي أمير المؤمنين ابن المهدي ابن المنصور . ولي الخلافة في محرم سنة تسع وستين ومائة . وكانت وفاته في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنة سبعين ومائة ، وله من العمر ثلاث - وقيل أربع . وقيل : ست - وعشرون سنة . والصحيح الأول ، ويقال : إنه لم يل الخلافة أحد قبله في سنه . وكان حسنا جميلا طويلا أبيض ، في شفته العليا تقلص ، وكان قوي البأس يثب على الدابة وعليه درعان ، وكان أبوه يسميه ريحانتي .
بعض سيرته
تأخر الهادي عن المظالم ثلاثة أيام ، فقال له الحراني : يا أمير المؤمنين ! إن العامة لا تحتمل هذا . فقال لعلي بن صالح : إيذن للناس علي بالجفلى ، لا بالنقرى .
فخرج من عنده ولم يفهم قوله ، ولم يجسر على مراجعته ، فأحضر أعرابيا ، فسأله عن ذلك ، فقال : الجفلى أن تأذن لعامة الناس ، فأذن لهم فدخل الناس عن آخرهم ، ونظر في أمورهم إلى الليل ، فلما تقوض المجلس قال له علي بن صالح ما جرى له ، وسأله مجازاة الأعرابي ، فأمر له بمائة ألف درهم ، فقال علي : يا أمير المؤمنين ! إنه أعرابي ، ويغنيه عشرة آلاف . فقال : يا علي أجود أنا ، وتبخل أنت ! .
وقيل : خرج يوما إلى عيادة أمه الخيزران ، وكانت مريضة ، فقال له عمر بن الربيع : يا أمير المؤمنين ! ألا أدلك على ما هو أنفع لك من هذا ؟ تنظر في المظالم . فرجع إلى دار المظالم ، وأذن للناس ، وأرسل إلى أمه يتعرف أخبارها .
وقيل : كان عبد الله بن مالك يتولى شرطة المهدي ، قال : فكان المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنيه ، وحبسهم صيانة له عنهم ، فكنت أفعل وكان الهادي يرسل إلي بالتخفيف عنهم ، ولا أفعل ، فلما ولي الهادي أيقنت بالتلف ، استحضرني يوما ، فدخلت إليه متحنطا متكفنا وهو على كرسي ، والسيف والنطع بين يديه ، فسلمت ، فقال : لا سلم الله عليك ! أتذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وضربه ، فلم تجبني ، وفي فلان وفلان ، فعدد ندماءه ، فلم تلتفت إلى قولي . قلت : نعم ! أفتأذن في ذكر الحجة ؟ قال : نعم . قلت : نشدتك الله أيسرك أنك وليتني ما ولاني المهدي ، وأمرتني بما أمر ، فبعث إلي بعض بنيك بما يخالف أمرك ، فاتبعت أمره وخالفت أمرك ؟ قال : لا ! قلت : فكذلك أنا لك ، وكذا كنت لأبيك .
فاستدناني ، فقبلت يده ، ثم أمر لي بالخلع ، وقال : وليتك ما كنت تتولاه ، فامض راشدا ! فصرت إلى منزلي مفكرا في أمري وأمره ، وقلت : حدث يشرب ، والقوم الذي عصيته في أمرهم ندماؤه ، ووزراؤه ، وكتابه .
فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوه عن رأيه . قال : فإني لجالس ، وعندي بينة لي ، والكانون بين يدي ، ورقاق أشطره بكامخ ، وأسخنه ، وأطعم الصبية ، وآكل ، وإذا بوقع الحوافر ، فظننت أن الدنيا قد زلزلت لوقعها ، ولكثرة الضوضاء ، فقلت : هذا ما كنت أخافه .
وإذا الباب قد فتح ، وإذا الخدم قد دخلوا ، وإذا الهادي في وسطهم على دابته ، فلما رأيته وثبت ، فقبلت يده ورجله ، وحافر دابته ، فقال لي : يا أبا عبد الله ! إني فكرت في أمرك ، فقلت يسبق إلى وهمك أنني إذا شربت وحولي أعداؤك ، أزالوا حسن رأيي فيك ، فيقلقك ذلك ، فصرت إلى منزلك لأونسك .
وأعلمك أن ما كان عندي لك من الحقد قد زال ، فهات وأطعمني مما كنت تأكل لتعلم أني قد تحرمت بطعامك ، فيزول خوفك .
فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ ، فأكل ، ثم قال : هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي ، فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها ، فقال : هذه لك ، فاستعن بها على أمرك ، واحفظ هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها لبعض أسفاري ، ثم انصرف .
قيل : وكان يعقوب بن داود يقول : ما لعربي ولا لعجمي عندك ما لعلي بن عيسى بن ماهان ، فإنه دخل إلي الحبس ، وقال لي : أمرني أمير المؤمنين الهادي أن أضربك مائة سوط ، فأقبل يضع السوط على يدي ومنكبي يمسني به مسا إلى أن عد مائة سوط ، ثم خرج ، فقال له الهادي : ما صنعت به ؟ قال : صنعت الذي أمرتني به ، وقد مات الرجل .
فقال الهادي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فضحتني ، والله عند الناس ، يقولون : قتل يعقوب بن داود ، فلما رأى شدة جزعه قال : هو والله حي يا أمير المؤمنين . قال : الحمد لله على ذلك .
وقيل : كان إبراهيم بن سلم بن قتيبة من الهادي بمنزلة عظيمة ، فمات له ولد ، فأتاه الهادي يعزيه ، فقال له : يا إبراهيم ! سرك وهو عدو وفتنة ، وحزنك وهو صلاة ورحمة ؟ . فقال : يا أمير المؤمنين ! ما بقي مني جزء فيه حزن ، إلا وقد امتلأ عزاء .
فلما مات إبراهيم صارت منزلته لسعيد بن سلم .
قيل : كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يلقب الجزري ، قد تزوج رقية بنت عمرو العثمانية ، وكانت قبله تحت المهدي ، فبلغ ذلك الهادي ، فأرسل إليه ، وحمل إليه ، وقال له : أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين ؟
قال : ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي - صلى الله عليه وسلم - فأما غيرهن فلا ، ولا كرامة ، فشجه بمخصرة كانت في يده ، وجلده خمسمائة سوط ، وأراده أن يطلقها ، فلم يفعل ، وكان قد غشي عليه من الضرب .
وكان في يده خاتم نفيس ، فأهوى بعض الخدم على الخاتم ليأخذه ، فقبض على يده فدقها ، فصاح ، فأتى الهادي ، فأراه يده ، فغضب ، وقال : تفعل هذا بخادمي على استخفافك بأبي وقولك لي ما قلت ؟ قال : سله ، واستحلفه أن يصدقك ، ففعل . فأخبره الخادم وصدقه ، فقال : أحسن والله ، أشهد أنه ابن عمي ، ولو لم يفعل ذلك لانتفيت منه ، وأمر بإطلاقه .
قيل : وكان المهدي قد قال للهادي يوما ، وقد قدم إليه زنديق ، فقتله وأمر بصلبه : يا بني ، إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة ، يعني أصحاب ماني ، فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش ، والزهد في الدنيا ، والعمل للآخرة .
ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم ، ومس الماء الطهور ، وترك قتل الهوام تحرجا ، ثم تخرجها إلى عبادة اثنين : أحدهما النور ، والآخر الظلمة ، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات ، والاغتسال بالبول ، وسرقة الأطفال من الطرق ، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور .
فارفع فيها الخشب ، ( وجرد السيف فيها ، وتقرب بأمرها إلى الله ، فإني رأيت جدي العباس ، رضي الله عنه ) ، في المنام قلدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين .
فلما ولي الهادي قال : لأقتلن هذه الفرقة . وأمر أن يهيأ له ألف جذع فمات بعد هذا القول بشهرين .
قيل : وكان عيسى بن دأب من أكثر أهل الحجاز أدبا ، وأعذبهم ألفاظا ، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله ، وكان يدعو له بما يتكئ عليه في مجلسه ، وما كان يفعل ذلك بغيره .
وكان يقول له : ما استطلت بك يوما ولا ليلا ، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت أن لا أرى غيرك ، وأمر له بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة ، فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانة إلى الحاجب في قبضها ، فقال الحاجب : هذا ليس إلي ، فانطلق إلى صاحب التوقيع ، وإلى الديوان ، فعاد إلى ابن دأب فأخبره ، فقال : اتركها .
فبينما الهادي في مستشرف له ببغداذ رأى ابن دأب وليس معه إلا غلام واحد ، فقال للحراني : ألا ترى ابن دأب ما غير حاله ، وقد وصلناه ليرى أثرنا عليه ؟ فقال : إن أمرتني عرضت له بالحال . فقال : لا ، هو أعلم بحاله .
ودخل ابن دأب ، وأخذ في حديثه ، فعرض الهادي بشيء وقال : أرى ثوبك غسيلا ، وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد . فقال : باعي قصير فقال : وكيف ، وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك ؟ فقال : ما وصل إلي شيء فدعا صاحب بيت مال الخاصة فقال : عجل الساعة ثلاثين ألف دينار فأحضرت وحملت بين يديه . وذكر عيسى بن دأب قال : كنت يوما عند الهادي ، إذ جيء بطست فيه رأسا جاريتين ، لم أر أحسن منهما ، ولا مثل شعورهما ، وفي شعورهما اللآلئ والجواهر منضدة ، ولا مثل طيب ريحهما ، فقال : أتدرون ما شأن هاتين؟ قلنا : لا . فقال : إنه ذكر لي عنهما أنهما يرتكبان الفاحشة ، فأمرت الخادم ، فرصدهما ثم جاءني فقال : إنهما مجتمعتان . فجئت فوجدتهما في لحاف واحد وهما على الفاحشة ، فأمرت بحز رقابهما . ثم أمر برفع رءوسهما من بين يديه ، ورجع إلى حديثه الأول ، كأن لم يصنع شيئا . وكان شهما خبيرا بالملك كريما .
ومن كلامه : ما أصلح الملك بمثل تعجيل العقوبة للجاني ، والعفو عن الزلات القريبة ، ليقل الطمع عن الملك .
وغضب يوما من رجل ، فاسترضي عنه فرضي ، فشرع الرجل يعتذر ، فقال الهادي : إن الرضا قد كفاك مؤنة الاعتذار .
وروى الزبير بن بكار أن مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي قصيدة له ، منها :
تشابه يوما بأسه ونواله فما أحد يدري لأيهما الفضل
فقال له الهادي : أيما أحب إليك؟ ثلاثون ألفا معجلة أو مائة ألف تدور في الدواوين؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، أوأحسن من ذلك؟ قال : وما هو؟ قال : تكون ثلاثون ألفا معجلة ومائة ألف تدور بالدواوين . فقال الهادي : أو أحسن من ذلك; نعجل الجميع لك . فأمر له بمائة ألف وثلاثين ألفا معجلة .وقال الخطيب البغدادي : بسنده عن المطلب بن عكاشة المزني قال : قدمنا على أبي محمد الهادي شهودا على رجل منا شتم قريشا ، وتخطى إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس لنا مجلسا أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ، ومن كان بالحضرة على بابه ، وأحضر الرجل وأحضرنا ، فشهدنا عليه بما سمعنا منه ، فتغير وجه الهادي ، ثم نكس رأسه ، ثم رفعه ، فقال : إني سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور ، عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس قال : من أراد هوان قريش أهانه الله ، وأنت يا عدو الله لم ترض بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم! اضربوا عنقه . فما برحنا حتى قتل .
وأسند الصولي عن سعيد بن سلم قال : (إني لأرجو أن يغفر الله للهادي بشيء رأيته منه ، حضرته يوما وأبو الخطاب السعدي ينشده قصيدة في مدحه . . . ، إلى أن قال :
يا خير من عقدت كفاه حجزته وخير من قلدته أمرها مضر
إلا النبي رسول الله إن له فضلا ، وأنت بذاك الفضل تفتخر
وكان المهدي قد وكل به خادما يقول له : موسى أطبق ، فيضم شفته ، فلقب : موسى أطبق . واختلف في سبب وفاته ، فقيل كان سببها قرحة كانت في جوفه ، وقيل مرض بحديثة الموصل ، وعاد مريضا فتوفي .
وقيل إن وفاته كانت من قبل جوار لأمه الخيزران كانت أمرتهن بقتله ، وكان سبب أمرها بذلك أنه لما ولي الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه ، وتسلك به مسلك المهدي ، حتى مضى أربعة أشهر .
فانثال الناس إلى بابها ، وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابها ، فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلا ، فقالت : لابد من إجابتي إليه ، فإنني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك .
فغضب الهادي ، وقال : ويلي على ابن الفاعلة ! قد علمت أنه صاحبها ، والله لا قضيتها لك . قالت : إذا والله لا أسألك حاجة أبدا ، قال : لا أبالي والله ، وغضبت فقامت مغضبة ، فقال مكانك والله ، وإلا أنا نفي من قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي ، وخاصتي لأضربن عنقه ، ولأقبضن ماله . ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك ؟ أما لك مغزل يشغلك ، أو مصحف يذكرك ، أو بيت يصونك ؟ إياك ! وإياك ! لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي . فانصرفت وهي لا تعقل ، فلم تنطق عنده بعدها .
ثم إنه قال لأصحابه : أيما خير أنا أم أنتم ، وأمي أم أمهاتكم ؟ قالوا : بل أنت وأمك خير . قال : فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه ، فيقال : فعلت أم فلان ، وصنعت ؟ قالوا : لا نحب ذلك . قال : فما بالكم تأتون أمي ، فتتحدثون بحديثها ؟ فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها .
ثم بعث بأرز ، وقال : قد استطبتها ، فكلي منها . فقيل لها : أمسكي حتى تنظري ! فجاءوا بكلب ، فأطعموه ، فسقط لحمه لوقته ، فأرسل إليها كيف رأيت الأرز ؟ قالت : طيبا . قال : ما أكلت منها ، ولو أكلت منها ، لاسترحت منك ، متى أفلح خليفة له أم !
وقيل : كان سبب أمرها بذلك أن الهادي لما جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على الرشيد ، فوضعت جواريها عليه لما مرض ، فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه ، فمات ، فأرسلت إلى يحيى بن خالد تعلمه بموته . وحكى أبو بكر الصولي: أنه خرج على ظهر قدمه بثرة ، فصارت كاللوزة ، وافتصد ومات بعد ثلاث ، وجاءت أمه الخيزران وبه رمق ، فأخذت خاتمه من يده وقالت: أخوك أحق بهذا الأمر منك . وهو يرى ذلك ولا يقدر على حيلة .