الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفي سنة سبع وثمانين ومائة نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين  الذي كان عقده الرشيد بينه وبين رينى ملكة الروم الملقبة أغسطة ، وذلك أن الروم عزلوها عنهم ، وملكوا عليهم النقفور ، وكان شجاعا ، يقال : إنه من سلالة آل جفنة ، وإنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج ، وملكوا نقفور هذا عليهم ، فخلعوا رينى وسملوا عينيها ، فكتب إلى الرشيد : من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب ، أما بعد ، فإن الملكة التي كانت قبل أقامتك مقام الرخ ، وأقامت نفسها مقام البيدق ، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها ، ولكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن ، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها ، وافتد نفسك ، وإلا فالسيف بيننا وبينك . فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب ، حتى لم يمكن أحدا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه ، وتفرق جلساؤه خوفا منه ، واستدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم ، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ، والجواب ما تراه دون ما تسمعه ، والسلام . ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغنم وأحرق وخرب ، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة ، فأجابه إلى ذلك .

            فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض نقفور العهد ، وكان البرد شديدا ، فأمن رجعة الرشيد إليه ، فلما جاء الخبر بنقضه ما جسر أحد على إخبار الرشيد ، خوفا على أنفسهم من العود في مثل ذلك البرد ، وإشفاقا من الرشيد ، فاحتيل له بشاعر من أهل جنده ، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف ، وقيل هو الحجاج بن يوسف التميمي ، فقال أبياتا ، منها :

            نقض الذي أعطيته نقفور فعليه دائرة البوار تدور     أبشر أمير المؤمنين فإنه
            فتح أتاك به الإله كبير     فتح يزيد على الفتوح
            يؤمنا بالنصر فيه لواؤك المنصور



            في أبيات غيرها .

            فلما سمع الرشيد ذلك قال : أوقد فعل ذلك نقفور ؟ وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك ، فرجع إلى بلاد الروم في ( أشد زمان وأعظم كلفة ، حتى بلغ بلادهم ) ، فأقام بها حتى شفى واشتفى وبلغ ما أراد .

            وقيل : كان فعل نقفور وهذه الأبيات سببا لسير الرشيد وفتح هرقلة . وفي ذلك يقول أبو العتاهية :


            ألا بادت هرقلة بالخراب     من الملك الموفق للصواب
            غدا هارون يرعد بالمنايا     ويبرق بالمذكرة القضاب
            ورايات يحل النصر فيها     تمر كأنها قطع السحاب

            التالي السابق


            الخدمات العلمية