. وفي هذه السنة بويع للمأمون البيعة العامة
باب ذكر خلافة المأمون
واسمه : عبد الله بن هارون الرشيد ، وكان يكنى أبا العباس في أيام الرشيد ، وكان في خلافته تكنى بأبي جعفر تفاؤلا بكنية المنصور والرشيد في طول العمر .
ولد ليلة استخلف الرشيد في ربيع الأول سنة سبعين ، وكان أبيض ، أقنى ، أعين ، جميلا ، طويل اللحية ، قد وخطه الشيب ، ضيق الجبهة ، بخده خال أسود يعلوه صفرة ، ساقاه دون سائر جسده صفراوين كأنهما طليا بالزعفران ، وأمه أمة اسمها مراجل ، ماتت بعد ولادته بقليل ، فسلمه الرشيد إلى سعيد الجوهري ، وكان من زمن صغره فطنا ذكيا .
قال أبو محمد اليزيدي : كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري . قال : فأتيته يوما وهو داخل ، فوجهت إليه بعض خدمه يعلمه بمكاني ، فأبطأ علي ، ثم وجهت آخر فأبطأ علي ، فقلت لسعيد : إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر . فقال : أجل ، ومع هذا إذا فارقك عزم على خدمه ، ولقوا منه أذى شديدا ، فقومه بالأدب ، فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر . قال : فإنه ليدلك عينه من البكاء إذ قيل : هذا جعفر بن يحيى قد أقبل ، فأخذ منديلا ، فمسح عينيه ، وجمع ثيابه ، وقام إلى فراشه ، فقعد عليه متربعا وقال : ليدخل . فدخل ، فقمت إلى المجلس ، وخفت أن يشكوني إليه ، فألقى منه ما أكره ، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه ، وضحك إليه ، فلما هم بالحركة دعا بدابته ، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه ، ثم سأل عني ، فجئت فقال : خذ علي ما بقي من جزئي ، فقلت : أيها الأمير ، أطال الله بقاءك ، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى ، ولو فعلت ذلك لتنكر لي . فقال : أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا ، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه أني أحتاج إلى أدب ، أدب يغفر الله لك بعد ظنك ، خذ في أمرك ، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا ، ولو عدت كل يوم مائة مرة .
وروى الطالقاني قال : قال الرشيد لأبي معاوية الضرير وهشيم : إني أسمع من ابني هذا - يعني المأمون - كلاما لست أدري أمن تلقين القيم عليه هو أم من قريحة ؟
فادخلا إليه ، فناظراه واسمعا منه ، وأخبراني بما تقفان عليه . فدخلا عليه وهو في أثواب صباه ، فقالا له : إن أمير المؤمنين أمرنا بالدخول عليك ومناظرتك ، فأي العلوم أحب إليك ؟ قال : أمتعها لي . قالا : وما أمتعها لك . قال : أثبتها عن ثقة ، وأقربها من أفهام مستمعيها . فقال له هشيم : جئناك لنعلمك فتعلمنا . ثم أخبرا الرشيد فقالا : إن هذا شيء أوله لحقيق أن يرجى آخره ، ثم أعتق عنه مائة عبد وأمة ، وألزمها خدمته .
وبلغنا أن أم جعفر عاتبت الرشيد على تقريبه المأمون دون ابنها محمد ، فدعا خادما بحضرتها ، وقال له : وجه إلى عبد الله ومحمد خادمين حصيفين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة : ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه ؟ فأما محمد فقال للخادم الذي مضى إليه : أقطعك وأوليك وأبلغ لك . وأما المأمون فرمى الخادم بالدواة وقال : يا ابن اللخناء تسألني ما أفعل بك بموت أمير المؤمنين ؟ بل نكون جميعا فداء له . فرجع بالخبر كل منهما . فقال لأم جعفر : كيف ترين ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك وتركا للجزع ، وقد كان المأمون يعنى بالعلم قبل ولايته كثيرا حتى جعل لنفسه مجلس نظر .
عن يحيى بن أكثم قال : كان المأمون قبل تقلده الخلافة يجلس للنظر ، فدخل يهودي حسن الوجه ، طيب الرائحة ، حسن الثوب ، فتكلم فأحسن الكلام ، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له : إسرائيلي ؟ قال : نعم . قال : أسلم حتى أفعل لك وأصنع . فقال :
ديني ودين آبائي فلا تكشفني . فتركه ، فلما كان بعد سنة جاءنا وهو مسلم ، فتكلم في الفقه ، فأحسن الكلام ، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال : ألست صاحبنا ؟
قال : نعم . قال : أي شيء دعاك إلى الإسلام ، وقد كنت عرضته عليك فأبيت ؟ قال :
إني أحسن الخط ، فمضيت فكتبت ثلاث نسخ من التوراة ، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة ، فبعتها ، فاشتريت . قال : وكتبت ثلاث نسخ من الإنجيل ، فزدت فيها ونقصت فأدخلتها إلى البيعة فاشتريت مني . قال : وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت ، وأدخلتها إلى الوراقين ، فكلما تصفحوها قرؤوا الزيادة والنقصان ورموا بها ، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ ، فكان سبب إسلامي .
قال يحيى بن أكثم : فحججت فرأيت سفيان بن عيينة فحدثته بهذا الحديث فقال لي : مصداق هذا في كتاب الله عز وجل . قلت : في أي موضع ؟ قال : في قوله عز وجل في التوراة والإنجيل : بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فجعل حفظه إليهم فضاع . وقال الله عز وجل : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع .
عن محمد بن يزيد قال : استخلف المأمون في المحرم سنة ثمان وتسعين [ومائة ] ، وقد سلم عليه بالخلافة قبل ذلك ببلاد خراسان نحو سنتين ، وخلع أهل خراسان وغيرها محمد بن هارون . خلافة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد
لما قتل أخوه محمد بن هارون الرشيد ببغداد في رابع صفر من سنة ثمان وتسعين ومائة ، وقيل : في آخر المحرم استوسقت البيعة شرقا وغربا للمأمون عبد الله بن الرشيد ، فولى الحسن بن سهل نيابة العراق وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن ، وبعث نوابه إلى هذه الأقاليم ، وكتب إلى طاهر بن الحسين وهو ببغداد أن ينصرف إلى الرقة لحرب نصر بن شبث وولاه نيابة الجزيرة والشام والموصل والمغرب . وكتب إلى هرثمة بن أعين بنيابة خراسان .